عندما وصف أحد المفكرين العرب في زمن غابر الأمة العربية بأنها"ظاهرة صوتية"قامت عليه الدنيا ولم تقعد، ووجهت إليه شتى التهم والنعوت والصفات من بينها تهمة الخيانة وطعن الأمة وخدمة الأعداء. وتمر الأيام وتكتشف من خلال ما نراه وما نشهده وما نسمعه، وما يخدش أسماعنا وحياءنا وقيمنا، أن هذا المفكر كان على حق في وصفه الدقيق، وأن علينا أن ندخل عليه اضافات وتعديلات، أولها أن بعض العرب ظاهرة صوتية سيئة ومسيئة لأنفسهم ولسمعتهم ولصدقيتهم ولصورة أمتهم وحاضر شعوبهم ومستقبلها، لأن أقوالهم و"أدبياتهم"وممارساتهم تحيي الفتن النائمة وتبشر بالخراب والدمار وتعطي الأعداء وقوداً وأملاً بالمضي في أحقادهم ومخططاتهم ومؤامراتهم ضد العرب وقضاياهم وحقوقهم وأراضيهم المحتلة سابقاً ولاحقاً والمرشحة للهيمنة والاحتلال إذا استمر هذا النهج اللامسؤول واللاعقلاني وتواصل هذا التخلف والانهيار والاختباء وراء الكلمات والاتهامات هرباً من المحاسبة والمسؤولية أمام التاريخ والشعوب والله عز وجل الذي لعن من يوقظ مثل هذه الفتن وكل من يرتكب هذه الأخطاء الشنيعة ويمارس هذه الخطايا المنكرة. واليوم نشهد على الساحات العربية حروباً كلامية وتقاذفاً بحمم الاتهامات وتراشقاً بالكلمات الجارحة والخطابات النارية التي تصب الزيت على النار الحامية لتحرق مشاعرنا أولاً ثم آمالنا بمستقبل آمن وسلام واستقرار نطمئن فيه على مصير أولادنا وأحفادنا قبل أن تتسع دائرة الخطر لتحرق قلوبنا وديارنا وأوطاننا وحاضر أمتنا ومستقبلنا، فيما الأعداء يحيطون بنا من كل جانب ويضحكون علينا ويشمتون بنا ويبدون اطمئناناً وارتياحاً لنجاحهم في زرع بذور الفتن في ما بيننا و"لنجاحنا"السلبي في تنفيذ أغراضهم وأهدافهم الخبيثة بأيدينا وألسنتنا وممارساتنا الهوجاء واللامسؤولة. ونمارس هذه الظاهرة الصوتية في كل آن وبمناسبة ولا مناسبة، فنقول ما لا نفعل ونفعل ما لا نريد ونهدد ونتوعد ثم نستسلم للواقع ونغط في نوم عميق. ففي كل مرة يتعرض فيها العرب والمسلمون لهجوم أو لحملة مغرضة ولاعتداء تنطلق الألسن لتهتف وتهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور وتفلت الأعصاب من عقالها ليوم أو يومين أو لأسبوع على أبعد مدى ثم تهدأ النفوس تدريجاً وتخفت الضجة ويصمت الناس عن الكلام المباح وغير المباح وتعود الألسن الى"ادراجها"كأن شيئاً لم يكن وبراءة الأطفال أو غباء"الكبار"في عيوننا. وترتكب إسرائيل العدوان تلو العدوان، والمذبحة تلو المذبحة، فتقتل وتدمر وتشرد وتعتقل وتأسر وتحتل فيهتاج العرب من المحيط الى الخليج وتبدو الهمم وكأنها استنفرت واستعدت للذود عن الحياض ثم يتلاشى كل شيء في بحر الكلمات التي هي ليست كالكلمات. وبدلاً من أن تنصب اللعنات على العدو الغاصب وتتوجه الجهود كلها نحو المواجهة والرد ولو بالمواقف والمبادرات ودعوات التضامن والتكافل والتعاون والتنسيق، ينسى العرب العدو الحقيقي ويضيعون البوصلة المشيرة الى وجهة السير العربية نحو الخلاص وخريطة طريقهم الى التحرير وحسم الأمور سلماً أم حرباً. ومع صمت أصوات المدافع يشمر كل طرف عن ساعده ويشحذ ألسنته ليوجه سمومها الى الطرف العربي الآخر ويوجه اليه التهم ويحمله المسؤولية الكاملة عما حدث ويهدده بالمحاسبة أو بكشف المستور وفضح الأسرار واللجوء الى ما يسمى زوراً وبهتاناً في ديارنا العامرة بالمكاشفة والمصارحة والشفافية! وحتى لا نتهم بالانحياز لهذا الطرف أو ذاك، يجب أن نقول بالفم الملآن إنه من الواجب تحميل كل الأطراف المسؤولية عما يجري، لأنها تشارك جميعاً في هذه"الملهاة المأسوية"وتشترك في تحمل أوزارها لمضيها في هذه الممارسات وعدم سعيها لاعتماد لغة الحوار والموعظة الحسنة وابداء النيات الحسنة والتغاضي عن الصغائر ونسيان الأخطاء والتسامح والتسامي فوق الجراح، لأن الخطب جلل والأخطار جسيمة ومتعددة والتهديدات جدية وتطال الحاضر والمستقبل والمصير. وبكل أسف فإن هذه الآفة ليست جديدة ولا طارئة ومستحدثة في مجتمعاتنا وأوطاننا فهي قديمة قدم أزمات المنطقة وخبيثة تفوق في مفعول سمومها خبث العدو الاسرائيلي وهي مستعصية وكأنها سرطان خبيث يفتك بجسد الأمة ويحار الأطباء في وصف الداء والدواء واستنباط وسائل المعالجة مع أنها واضحة ومعروفة ولا تخفى على كل صاحب فطنة وتجربة ومعاناة! وكنا نظن ان المحن والآلام قد تؤدي الى المناعة أو الى الشفاء من هذه الآفة بعد أن عم الوعي وسار الادراك بحقائق الأمور وخرائط الطرق ومواطن الخلل ومواقع الأعداء ولكن الأيام الأخيرة خيبت آمالنا بعد أن تفاقم خطر الآفة وعادت لتنتشر في الجسد العربي كانتشار النار في الهشيم. فقد كانت الحملات محصورة في بعض الاذاعات والصحف وعلى لسان بعض القيادات مع الاعتراف بتحفظها عن استخدام بعض التعابير السائدة هذه الأيام وخجلها من وقائع الممارسات وأساليبها وتركها خطوط العودة والتراجع مفتوحة ومحافظتها على شعرة معاوية بين المتنازعين والمختلفين لعل الأيام أو الجهود الخيرة تسهم في ترميم الجسور واصلاح العلاقات ووصل ما انقطع. أما اليوم فقد دخل سلاح البث الفضائي عبر الأقمار الاصطناعية في هذه المعارك الخائبة وتبارت محطات التلفزيون الفضائية في"اطالة اللسان"ورفع درجات الإثارة وزيادة حدة الخلافات وترديد الشتائم والاتهامات ونشر الغسيل الوسخ وتحويل برامج الحوار عن آدابه وأصوله وأهدافه ومسؤولياته الى زعيق وإسفاف وتراشق بالتهم ومعها أدوات التخوين والتكفير والاستفزاز وصب الزيت على النار بدلاً من أن تكون واسطة خير ووسيلة نقل الكلمة الطيبة وإطفاء حرائق الفتن وتجنيب المواطن العربي المتلقي هموماً جديدة تضاف الى قائمة همومه ومشاكله وأزماته المستعصية. وأمامنا اليوم أمثلة كثيرة على هذا الدرك الذي انحدرنا اليه وبلغ فيه السيل الزبى. ففي لبنان كان من المنطقي، بل من الواجب، على جميع الأفرقاء أن يلتفتوا للإعمار وتضميد الجراح ونجدة المنكوبين ومساعدة المهجرين والمتضررين بعد أن صمتت المدافع وتوقف العدوان الاسرائيلي الغاشم. ولكن جرت الرياح بما لا تشتهي سفن اللبنانيين ومعهم العرب الذين وقفوا معهم في السراء والضراء، وانطلق القصف العشوائي من كل حدب وصوب عبر الاتهامات والاتهامات المتبادلة والمهرجانات والخطب النارية والتهديدات والتلويح بفضح الأسرار وتحويل"منابر"التلفزيونات الى ساحات لا أخلاقية للمنازلات والتباري في القدح والذم والتخوين واستخدام التعابير والشتائم والأقوال التي تخدش الحياء العام وتطالها القوانين المرعية لو كان هناك من يطبقها أو يحترم قدسيتها ومكانتها ودورها في حماية المواطن والمجتمع والوطن من هذه الاعتداءات على خصوصياته وأخلاقياته وشرفه وقناعاته ومبادئه ثم على أمانه وأمانيه وأحلامه البريئة بوطن مستقر وعبور يسير الى بر الأمان وشاطئ السلامة بعد كل هذه المحن التي تعرض لها منذ أكثر من ثلاثين عاماً. هذه اللغة هي نفسها التي نسمع رديفاً لها في العراق، لغة الفرقة والتجزئة وإثارة النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية وتهيئة الأجواء لفتنة مدمرة لا تبقي ولا تذر وحروب داخلية تأكل الأخضر واليابس وتفني الوطن والمواطن وتقضي على الأرض والبشر. وكل هذا في كفة وما يجري في فلسطينالمحتلة في كفة أخرى، فاللسان العربي الفصيح يخوض معارك ضارية بين إخوة الوطن والسلاح والمصير. وها نحن نشهد اليوم حروباً كلامية وشتائم واتهامات بين رفاق الدرب في"فتح"و"حماس"ما أنزل الله بها من سلطان فيما العدو يمارس موبقاته فيقتل ويدمر ويحتل ويعتقل ويقيم المستعمرات الاستيطانية ويتآمر لاستكمال عملية التهويد وسلب الشعب الفلسطيني ما تبقى من حقوقه المشروعة وفي مقدمها حقه في تقرير مصيره وإقامة دولته الحرة المستقلة المترابطة الأجزاء والأضلاع والأطراف. والأنكى من كل ذلك أن تغيب الحكمة ويتوارى الحكماء في فلسطينولبنانوالعراق ويتفرج الجميع على ما يجري وكأنه يقع في بلاد"الواق الواق"أو كأن الأمر لا يعنيهم مع أن هذه الفتن التي يتم إيقاظها ستطال كل العرب من دون استثناء وتمتد الى كل ركن من أركانهم وتنعكس على كل مفصل من مفاصلهم الحيوية وتهدد حاضرهم ومستقبلهم ومصيرهم. هذا في وقت نشهد فيه متغيرات عالمية كبرى على مختلف الأصعدة، ونرى الأخصام يتفقون والأعداء يتصالحون والمتنافسين يتحدون من أوروبا الى آسيا ومن افريقيا الى اميركا، كما نتابع بإعجاب قدرة الصين على ممارسة حكمة الصمت مع العمل والجد لبناء امبراطورية المستقبل المحصنة ليس بجدارها الشهير فحسب، بل باقتصادها ونموها وعلومها واعتمادها على نفسها بعد ان كانت توصف من قبل بأنها"نمر من ورق"مثلها مثل دول آسيوية أخرى: ماليزيا واندونيسيا وكوريا وباكستان والهند، فيما أوروبا توسع خريطة اتحادها جغرافياً وبشرياً واقتصادياً وسياسياً. أما نحن فغارقون في بحور اللسان العربي ومفرداته وامتدادات طوله المميز واستخداماته كسلاح دمار شامل يمارس ضد أصحابه العرب مع ان في ديننا وتراثنا وحضارتنا الكثير من الحكم والعبر والدروس التي تحذرنا من التسرع في القول، ومن الإسفاف واستخدام اللسان في موضع السوء وإثارة الفتن والخلافات وقطع صلة الرحم والمودة والاخوة بين أبناء البيت الواحد والوطن الواحد والأمة الواحدة. فالإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه كان يردد دائماً ان الكلمة تحيي المهمة"ورب كلمة تثير فتنة وتشعل حرباً"، وهناك حكمة عربية تقول:"إياك والعجلة فإن العرب كانت تكنيها أم الندامة، لأن صاحبها يقول قبل ان يعلم ويجيب قبل ان يفهم، ويعزم قبل ان يفكر، ويقطع قبل ان يقدر، ويحن قبل ان يجرب، ويندم قبل ان يخبر". وهناك قول مهم لحكيم آخر هو:"إن من الكلام ما هو أقسى من الحجر وأنفذ من الإبر وأمر من الصبر وأحر من الجمر، ومن ان القلوب مزارع فازرع فيها الكلمة الطيبة فإن لم تنبت كلها نبت بعضها". أما جبران خليل جبران فيقول:"تعلمت الصمت من الثرثار، والاجتهاد من الكسلان، والتواضع من المتكبر". ويقول بيترهاريسون:"الكلمات شبيهة بالقنابل اليدوية قد تنفجر اذا اسيئ استعمالها". وأختم مع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي نهانا عن اطالة اللسان بقوله:"اترك فضول الكلام وحسبك من الكلام ما تبلغ به حاجتك"، وسيد الخلق هو الذي قال لنا ان"الكلمة الطيبة صدقة"فلنتق الله في السنتنا ولنعالج آفة"إطالة اللسان"وتصعيد الكلمات الجارحة والاتهامات بهذه الصدقة المباركة التي دلنا على طريقها المنير الرسول الكريم الذي"لا ينطق عن الهوى". وطريق الخير يبدأ بكلمة تتوالى بعدها الخيرات. وطريق الشر يبدأ بكلمة وتكر بعدها سبحة الفتن والحروب والدمار. فلتصمت ألسنة السوء بعد ان صمتت مدافع الشر وليتحرك الحكماء لتدارك الأمور قبل ان تستفحل، وبانتظار ذلك لا نجد سبيلاً الا الاكتفاء بهذا القدر من التحذير، فإذا كان الكلام من فضة فإن السكوت في هذه المرحلة من ذهب... ولكنه صمت وسكوت لن يطول! * كاتب عربي