"ها أنا مرة أخرى بين السماء والأرض، مرة أخرى أحلِّق في هاوية أفق مفتوح على عذاب تساؤلاتي...". بهذه الكلمات يبدأ هاني العابد، بطل وراوي رواية "سيدة الملكوت" المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2006 للكاتب السوري المعارض المثنى الشيخ عطية، الفصلين الأول والأخير من الرواية. وإذا ما عطفنا هذه الكلمات على عنوان الفصلين المذكورين "لا مكان"، نكتشف أن البطل/ الراوي معلق بين الأرض والسماء في طائرة، يحلِّق وحيداً في هاوية، ولا مكان يضع قدمه عليه. وهكذا، تكون الغربة والاغتراب والوحدة والعذاب وعدم الاستقرار والمنفى مفردات تعيشها هذه الشخصية على مدى الرواية، وتختصر أحداثها بوقائعها والذكريات. من خلال هذه الشخصية وشبكة العلاقات التي ترتبط بها يفكك المثنى الشيخ عطية في روايته الكثير من آليات القمع السياسي والاجتماعي وآليات النفي والاغتراب في المجتمع السوري خلال النصف الأول من التسعينات من القرن الماضي. ولعله يفعل ذلك من خلال تجربة خاصة فالروائي يقف خلف الراوي الذي يروي حكاية يتقاطع فيها العام مع الخاص لا بل ان هذا العام هو الذي يصنع الخاص الى حد كبير، ويتجاور السياسي والاجتماعي، ويُرخي الماضي بظله على الحاضر، فيغدو الأخير أسيراً له. تبدأ الحكاية نصياً من لحظة حاضرة في الطائرة، وتعود زمنياً الى الماضي البعيد والمتوسط والقريب، والى أماكن مختلفة في حلب وباريس. فبطل الرواية وراويها هاني العابد شاعر وصحافي ومعارض سياسي وحزبي متمرد يستعيد من مقعده في الطائرة سيرته، ويجمع خيوط الحكاية. يهرب من اللحظة الحاضرة القاتمة الى الماضي في محاولة منه لاستعادة توازن مفقود بفعل انكساره وإحباطه وتشرده. ولذلك، يترجح السرد بين الحاضر والماضي، بين الوقائع والذكريات وإن كانت المساحة المساحة المخصصة للذكريات أكبر بكثير من تلك المخصصة للوقائع، فهو يستغرق في ماضيه وذكرياته ويعود الى اللحظة الحاضرة تكراراً كلازمة تتكرر بين الذكريات. وهكذا، يعيش البطل الاغتراب المكاني من خلال المنفى، ويعيش الاغتراب الزماني من خلال استغراقه في الماضي وذكرياته. وسواء كانت الذكريات جميلة أم قاسية تشكل متنفساً يهرع اليه الراوي هرباً من لحظة قاتمة ومستقبل مجهول. والأمر نفسه يفعله الراوي بعد وصوله الى قبرص وجوبه شاطئ ليماسول وارتياده بارات المدينة فهو ما ينفك يهرب عبر ذاكرته الى الوطن والأهل حتى عندما يكون في أماكن يؤمها البعض للترفيه عن النفس والتخفف من أعباء العمل، على ان الفارق بين مساحة الوقائع ومساحة الذكريات يقل في هذا القسم من الرواية ما يشي بتأقلم جزئي مع الواقع الجديد. وبالعودة الى لملمة خيوط الحكاية يقول الشيخ عطية في روايته ان هاني العابد شيوعي سوري يكتب الشعر ويمارس الصحافة ويتعاطى العمل السياسي الحزبي مع مجموعة من الرفاق المثقفين، يتخذون الثقافة غطاء للسياسة، ويجتمعون"تحت أعين سلطة تجسسية ترصد حتى حركة النمل"، وتمارس القمع فتعتقل معارضيها وتسومهم أصناف العذاب حتى إن بعضهم تحت التعذيب كمعاذ وبعضهم اختار المنفى كمحمود وكمال ونصير... وحين تضيق الدائرة على هاني ويصبح قاب قوسين أو أدنى من الاعتقال، تقوم نورا المرأة التي يحب بتدبر أمر إخراجه من دمشق، فيسافر الى باريس من طريق بيروت. وهناك، وهناك يتعلّم ويكتب ويمارس العمل الحزبي لكنه لا يستطيع التأقلم كما كانت حاله في حلب، فعلى رغم أنه يعتبر نفسه"في الجنة التي لا تشبه الوطن الذي حولوه الى سجن أو مطهر أو جحيم..."، يتسرّب الإحباط الى قلبه. وحين يسأله صديقه محمود: ماذا كرهت في هذه التافهة باريس؟ يجيبه:"كرهت انها لم تفتح لي نافذة واحدة على طفولتي"ص 77. وهكذا، يهرب البطل من السجن الى المنفى. ولعل اضطراب علاقاته الحزبية، وافتقاره الى المال، وانعدام الخيارات أمامه، وخيبته من الرفاق، وفشله في الحب، وعدم اغتنامه متع باريس، أدت الى مضاعفة شعوره بالاغتراب والاحباط وعدم التأقلم، فيُيمّم شطر قبرص. وعلى رغم تأقلمه الجزئي هناك فإنه سرعان ما يجد نفسه على متن طائرة تقلُّه الى السويد ليكمل رحلة اللاإستقرار والنفي والتشرد. الضحايا ولعل الرواية تقول أن من لا يجد الاستقرار والطمأنينة في وطنه لا يمكن أن يجدهما في أي مكان في العالم. وعليه، يكون هاني العابد وأمثاله ضحايا الأنظمة الاستبدادية التي تضيق ذرعاً بالرأي الآخر، فتزجّ بأصحابه في السجون أو تشتتهم على كل رصيف وتحت كل سماء. والرواية حافلة بالكثير من ممارسات هذه الأنظمة. وتقول فشل الأطر المعارضة وانقسامها على نفسها وسقوط بعض الانتهازيين فيها ضحية ألاعيب النظام واستخباراته. ولا يقتصر عدم تأقلم هاني العابد بطل الرواية على الجانب السياسي بل يتعدى ذلك الى الجانب الاجتماعي ولا سيما في علاقته مع المرأة، حيث تتكرر علاقاته الفاشلة سواء في الوطن أم المنفى، فجميلة المرأة الأولى التي أحب يحول الاختلاف في الدين بينهما دون الزواج، ونورا"سيدة ملكوته"وفتاة طفولته متزوجة، والعلاقات العابرة مع بعض الفرنسيات لم تشبع تطلّعه الى علاقة عميقة، والفرص التي وفّرها له صديقه ألدار لم يُرد أن يغتنمها. وحدها نورا"وجه شجرة المشمس المنمَّش بتويجات بيضاء"شغلت مكاناً أثيراً في قلبه وذاكرته، وشكّلت حلماً يسعى الى تحقيقه. غير انه في اللحظة الحاسمة يؤثر مصلحة حبيبته على مشاعر قلبه، فيشجعها على العودة الى زوجها في موقف يجسّد النبل والتضحية. وينتقل الى منفى آخر حاملاً قريته في داخله بكل ما تعنيه من منظومة قيم وعادات وتقاليد، فوجود الانسان في مكان حر لا يكفي ليمارس حريته، ولا بد له من التحرر من الداخل أولاً. وهذا ما تقوله روزا زميلة هاني في العمل:"قد تقول اننا في ليماسول، في بلد حر، لكن صدقني ان كلاً منا يحمل قريته في داخله..."ص 168، 169. من هنا، فإن الرواية تحفل بالمتضادات على مستوى المكان والزمان والبيئة والعادات والتقاليد والشخصيات. على أن انتماء الشخصيات الى بيئة معينة وإقامتها في بيئة أخرى مختلفة يجعلها موضع تجاذب دائم بين طرفي التضاد، بين الوطن والمنفى، بين القمع والحرية، بين الحنين والحزن، بين الماضي والحاضر، بين الحاضر والمستقبل... ويبقيها شخصيات معلّقة حتى إشعار آخر، شخصيات هاربة من ماضيها، غير متأقلمة مع حاضرها، قلقة على مستقبلها. وعليه، تكتسب شخصية هاني العابد بعداً تمثيلياً لسائر شخصيات الرواية من جهة، ولضحايا الأنظمة الاستبدادية من جهة ثانية. هذه الرواية يصوغها المثنى الشيخ عطية بلغة متعددة المستويات بتعدد المواقف الروائية، فهي لغة مباشرة غالباً، وهي لغة انشائية/ تصويرية عند تصوير الجمال الطبيعي أو الانساني، وترقى الى مستوى الشعر لدى الكلام على الحبيبة، وتعتمد الثورية في التعبير عن المواقف الحميمة. وهي لغة ساخرة تضمر غير ما تظهر أحياناً. على ان خلف هذه التعددية ثمة وحدة عضوية تنتظم سائر المستويات عمادها البساطة والمرونة والسلاسة سواء في السرد أو الحوار الذي يستأثر بدوره بمساحات واسعة في النص، ولم تقلل من روائية اللغة أخطاء نحوية تتناثر في بعض الصفحات. وعليه، بهذه المواصفات وسواها، تشكل"سيدة الملكوت"العمل الروائي الأول للمثنى الشيخ عطية عملاً روائياً ناضجاً، متماسكاً، يخلو من هنات الأعمال الأولى وسقطاتها، وتتحقق فيه روائية الرواية بامتياز.