حين فرغنا من قراءة «حافة النسيان»، الرواية الأولى من ثلاثية عبد الجليل الغزال للروائي اللبناني أحمد علي الزين، تركنا بطل الثلاثية في «وادي الدموع» يتفقد المكان برفقة كلبه، ويروي على مسامعه ذكرياته القديمة. من هذه الواقعة، تبدأ «صحبة الطير»، الرواية الثانية من الثلاثية (دار الساقي 2010)، وترصد حركة البطل وكلبه في حيّزي المكان والزمان، فتتمظهر الحركة في المكان/وادي الدموع وما حوله من صحراء على شكل وقائع مروية تمتد لبضعة أيام، وتتمظهر الحركة في الزمان على شكل ذكريات يعود بعضها لستين سنة خلت، وينجم عن هذه الحركة المزدوجة، المتزامنة، النص الروائي. بكلمة أخرى، الرواية هي حصيلة هذه العلاقة المستجدة بين الراوي/عبد الجليل وكلبه/فرند، وهي تقوم على الروي يقوم به الراوي والاستماع يقوم به الكلب، واذا كانا يشتركان في التحرك في المكان الروائي المتعدد فانهما يقتسمان الروي والاصغاء بينهما. هذا الشكل الذي اصطنعه الزين لقول روايته كان استخدمه في الرواية الأولى من الثلاثية، فالراوي يروي والكلب يصغي، وثمة وقائع وذكريات تتكرر في الروايتين. ومع هذا، ثمة تفاصيل وأحداث جديدة، على مستوى الوقائع والذكريات. وعليه، تكون العلاقة بين الروايتين علاقة تكامل وتداخل من جهة، وعلاقة استمرار واضافة من جهة ثانية. بالعودة الى «صحبة الطير»، يضع أحمد علي الزين روايته في جزءين اثنين، تطغى على الأول منهما الذكريات التي تتوزع بين وادي الدموع في العراق وتلة سليمان في شمال لبنان، وتطغى على الثاني الوقائع التي تقع في وادي الدموع، وقد تتقطع الذكريات والوقائع بتخيلات تتم بتقنية الاستباق التي تنسجم مع السياق. في هذه الحقول الثلاثة، الذكريات، الوقائع، التخيلات، التي تتوزع السرد بنسب متفاوتة، يفكك الكاتب، من خلال بطله، هشاشة الفرد وعجزه في مواجهة المؤسسات القمعية، سواء كانت نظاماً أم احتلالاً أم عصابة ارهابية، حيث يتحول الفرد وبالتالي الجماعة الى ضحايا لهذه المؤسسات والأطر، تتيه في المكان المفتوح على الخراب والضياع والموت والمجهول، وتستعين بالزمان/الذكريات القاسية على هذا المكان لعلها تخفف من وطأته بما يجعل الضحية قادرة على الاستمرار، في صراع بقاء غير متكافئ الأطراف. فعبد الجليل الغزال شخصية درامية بامتياز أخنى عليها الزمن منذ الطفولة، ونزلت بها مصائب شتى، كل منها كانت كافية للقضاء عليها، ومع هذا، استمرت على قيد الحياة؛ فإعدام أخيه بالكلاب المسعورة، وتهجير أسرته وأهالي قريته بعد قطع شجرها وقتل حيوانها وتجفيف مائها، ومقتل أبيه، وموت حبيبته الأولى مسمومة، واختطافه وتسليمه الى النظام واعتقاله مدة ربع قرن، وخروجه من السجن معطوب الساق، وتيهه في الصحراء، وتسكعه في وادي الدموع بين أطلالها، واختطافه من عصابة تتلبس لبوس الدين، ومشهده قتل مخطوف آخر بتهمة الكفر... هي مصائب نزلت به وجعلته يرى في الموت على يد خاطفيه خلاصاً من «هذا النوع من الحياة، الذي هو موت من النوع الذي لا موت فيه.» (ص209) وهكذا، في مواجهة النظام والاحتلال والارهاب، لم يملك عبد الجليل سوى الذاكرة يلوذ بها من قسوة الواقع. ومع أن الذكريات المستعادة هي أقسى من الوقائع الراهنة، فإن استعادتها شكلت تصريفاً لهذه الوقائع، وأمدّت عبد الجليل بالقدرة على الاستمرار. وهذه العملية تنطلق من المكان/وادي الدموع والوقائع الراهنة التي تعيشها الشخصية؛ فالتسكع في المكان بعد الخروج من السجن، في نوع من النكوص الى مسقط الرأس، وتفقد البيوت الخربة والمدرسة القديمة ومقبرة السلالة شكلا موطئ قدم مكاني للاطلالة على الزماني/الذكريات وتوظيف الأخير في صراع البقاء الذي تخوضه الشخصية. وهنا، نكون إزاء وقوف طويل على الأطلال يتم بواسطة الرواية، فالشخصية تمشي وتتذكر، وتزمع العودة الى تلة سليمان حيث الأهل أو من تبقى منهم، غير أن قدوم العصابة المسلحة التي تتلبس لبوس الدين وتتخذ منه ستاراً لارتكاب جرائمها يشكل نقطة تحول في مسار الأحداث، بحيث يُختطف عبد الجليل، ويُجبر على التخلي عن كلبه/صديقه الوحيد، ويُقسر على ارتكاب جريمة لا يرتكبها، ثم يُترك في ساحة الجريمة مغشيّاً عليه ليقوم بعدها بدفن القتيل والضرب في المجهول من جديد، عائداً الى وادي الدموع بحثاً عن كلبه. وتنتهي الرواية دون أن نعرف نتيجة بحثه، بل نقرأ في نهايتها مجموعة من الذكريات المنتسبة الى مراحل مختلفة من حياته. وهكذا، تبدأ «صحبة الطير» بالذكريات وتنتهي بها، في اشارة روائية، ربما، الى أن عبد الجليل وأمثاله يعيشون في الماضي أكثر مما يعيشون في الحاضر، ويهربون من تحت دلفة الوقائع الى مزراب الذكريات. على هامش هذه الشخصية، وبالتعالق معها، ثمة شخصيات أخرى بعضها تمثيلي يعكس أنماطاً معيّنة من السلوك، وبعضها خاص يعكس تفرّداً يتعلق بالشخصية وحدها. وفي هذا السياق، لكل شخصية حكايتها/خيطها السردي، وأحمد علي الزين يتحكّم بسائر الخيوط، يترك أحدها ليمسك بآخر، ثم يعود للامساك بالأول، في عملية تتناوب فيها الخيوط/الحكايات على الظهور والاختفاء، وتنقطع واحداً تلو الآخر. وعليه، الرواية هي هذا التلاعب المدروس بالخيوط السردية المختلفة، والتحكم بظهورها واختفائها في الوحدات السردية المتعاقبة. على أن معظم شخصيات الرواية، بنوعيها التمثيلي والمتفرد، تنتمي الى حقل الذكريات، وبعضها ينتمي الى حقل الوقائع، فيما يتجول عبد الجليل بين الحقلين. حكاية الغزال ومتفرّعاتها يحكيها أحمد علي الزين براويين اثنين؛ بطل الثلاثية الذي يروي بصيغة المتكلم ملتفتاً في مواقع متباعدة أو متقاربة بصيغة المخاطب، والراوي العليم الذي يفرد له الفصل الأخير المعنون ب «الفقدان» ويروي بصيغة الغائب. وهو يوزع السرد على مساحات تشغل فيها الذكريات المساحة الأوسع تليها الوقائع فالتخيلات. وهذا، ان دلّ على شيء انما يدل على أن بطل الثلاثية وسائر الشخصيات يعيشون في الذاكرة أكثر مما يعيشون على أرض الواقع. واذا كان السرد، على أنواعه، قطعته مساحات ضئيلة من الحوار، فإن استخدام المحكية اللبنانية واسنادها الى شخصيات عراقية لا يستقيم مع الايهام بالواقعية التي تحرص الرواية عليها. بلغة حية، حارة، تؤثر استخدام الجمل القصيرة، ولا تتورع عن استعمال مفردات نابية، وتسمي الأشياء بأسمائها، يكتب أحمد علي الزين حكايته/ حكاياته، فيوهم بواقعية الرواية وصدقيتها. روايتان اثنتان حتى الآن، ولا يزال عبد الجليل الغزال يضرب في «وادي الدموع»، فهل تكون الثالثة ثابتة ويصل الى «تلة سليمان»؟ الجواب عند أحمد علي الزين.