طرح محمد برّادة في روايته الجديدة «موت مختلف» (دار الآداب،2017) التي تلتبس، ولو بقدر، بسيرته الذاتية سؤالين: ما الذي يكتبه إنسان تسير حياته إلى الزوال، لا يراهن على فجر أو قيامة؟ وهل أشكال الموت متماثلة، أم أن بعضها، صادق الحياة وصادقته الحياة، ولا يشبه غيره؟ ينطوي السؤالان على الشجن والتذكّر والتماس «قول أخير»، يضيء دروب الأبناء، ذلك أن الكاتب المغربي ولد في الرباط سنة 1938. يبدو كتابه الجديد مقاربة فكرية لتحولات الزمن الذي عاشه، ومساءلة لوعود نظريات تشير إلى اتجاه وتنتهي إلى آخر، شحيح المسرّة. حاذر الكاتب نسج سيرة ذاتية مباشرة، وآثر أخرى مقنّعة، تسمح بالحذف والإضافة، وتوليد صيغاً كتابية متعددة. مرّ في سرده على مكان الميلاد، قرية مغربية غادرها في مطلع ستينات القرن الماضي إلى باريس «مدينة الأنوار» التي عاش فيها طويلاً، وشهد ثورة أيار(مايو) 1968، التي تكاد في أطيافها المتعددة أن تحتل مركز الرواية. يسأل السارد: ماذا كانت ستكون عليه حياتي، لو لم أعش أحداث ثورة الطلاب في فرنسا في مايو 1968؟ تشكّل الإجابة، بأقساط مختلفة، محور «الموت المختلف»، ذلك أن الثورة جاءت بحياة مختلفة، قوامها التمرّد. ولعلّ وعودها المخفقة، التي قذفت بفرنسا إلى مسار مختلف، هي التي أملت على الكاتب، أن يوحّد بين مساره الذاتي وسيرة فرنسا السياسية، فيتوقف أمام شخصية فرانسوا ميتران، الماهر الماكر الأشبه بأفّاق قديم، ونجاحات الحزب الاشتراكي وإخفاقاته، وعودة الشعبوية المظفّرة، المدافعة عن العنصرية وكراهية الغرباء. رواية مغايرة جمع برادة عناصر حياتية مختلفة وبنى بها «رواية مغايرة»، متكئاً على معيش يعرفه، وعلى معرفة نظريات الكتابة الروائية مؤمناً، ربما، بأن الكتابة صنعة، بل إنها «تصنيع كتابي» يستضي بما جاء به منظرو الرواية. أنجز روايات متعددة، منها عمله الجميل «مثل صيف لم يتكرّر»، تناول فيه فتنة الماضي وأرق الذاكرة. كان للحياة بقية واسعة آنذاك، قبل أن يأتي زمن «موت مختلف» حيث يتكامل الضيق والفزع. وإذا كان في «الصيف القديم» ما ترك الكتابة عفوية متدفقة، فإن مجيء حياة تلاشى معظمها، جعل الكتابة مرهقة وأقرب إلى «التصنيع» وأملى على الروائي، العارف بتقنية السرد الروائي، أن يوظف في سرده مفهوم: مرونة الجنس الروائي، وسيولته، التي تسمح بتجريب مألوف وغير مألوف. استهل الروائي عمله بما يدعى، نظرياً، العتبة الروائية، التي اتخذت من تقوّض الزمن مرجعاً لها. نقرأ في الاستهلال: «ليس الزمن سوى حاضر مؤلم، محمّل بالذكريات» و «كيف نكتب ونحن نستحضر الموت أفقاً لنا». جمع القولان بين استحضار الألم واستباق الموت وأفصحا عن شقاء الكتابة التي تحاصرها ذكريات متباعدة. ولعل هامش الموت، الذي يرزح فوق زمن تولى، هو ما فرض الفصل الأول: «زيارة مسقط الرأس»، قرية مغربية بعيدة الأطياف، وتأثيثها بما يجب روائياً به، حيث المكان والشخصيات وأحلام شاب بمغادرة مكان انحدر إلى غفوة النسيان، يشتاق إلى التحرّر والتكامل. ومع أن «للعتبة» ما يسبقها وما يتلوها، فقد آثر الروائي، الذي يزهد «بالسرد الخطي»، أن ينقلها سريعاً إلى «أدوار الرواية العليا»، معتمداً على توسطات كتابية توسّلها من اتجاهين: القرين، الذي هو صديق يحاوره الكاتب كي يحاور ذاته و «تقنية اليوميات» التي تتجلى في عناوينها مهارة الكتابة واتساع الثقافة: الفرح قليل، الأحلام تنسحب، يا من وراء البرزخ، مثل قطعة سكر...، وتعبّر عن فكر الكاتب وشخصه، وقدرته على استنطاق الكلمات والأحلام. صنع الكاتب الفصل الأول من روايته بمواد فنية جمعت بين الاستذكار والقرين والرسائل وشذرات حكيمة تتاخم نيتشة، ودخل إلى فصل تالٍ عنوانه «في بلاد الأنوار»، حيث باريس المرصعة بالحركة والجديد والرغبات الطليقة. حاول الروائي في الفصل الثاني، وهو الأطول في الرواية ويصل إلى أربع وثمانين صفحة، أن يستذكر مناخ الثورة الطالبية، التي أمدّت حياته بالمعنى وبذاكرة مضطربة. عثر من جديد، وهو الذي ينكر السرد الخطي الذي هجاه الراحل إدوار الخراط، على «حوامل فنية» تمد السرد بمدى مرغوب، تجسّد في عناصر ثلاثة: مادة ثقافية فرنسية، متواليات من حكايات العشق و «الحرياتية»، ومقولة « راوي الرواة»، ذاك الذي يسرد مسار حياته الشخصية وسيرة فرنسا السياسية معاً. وبقدر ما أن «يوميات منير» في الفصل الأول، عبّرت عن ذاتية الكاتب، وتركت العتبة الروائية جانباً، فإن سرد وقائع «بلاد الأنوار» دار حول رغبات السارد، واختصر «الثورة الشهيرة» في إعلاناتها الأيديولوجية. جسّد الروائي المقاطع الكتابية، المحدّثة عن باريس وثورتها، بإشارات ثقافية شائقة، تضمن سيمون دو بوفوار والاحتفاء بالجسد الحر، وفرانسوا ساغان وروايتها «مرحباً أيها الحزن»، وظاهرة الكاتب رومان كاري، الروسي الأصل المتألق في كتاباته الفرنسية والإنكليزية، والكاتب الروماني أوينسكو ومسرحيته «الكراسي»، وصولاً إلى جيل ديلوز والمخرج السينمائي ماتيو كاسوفيتز...، ليس في الإشارات الثقافية، على رغم فتنتها وتنوعها، ما يدفع «بالفعل الروائي» إلى مركزه، بقدر ما يتراءى فيها مثقف واسع الثقافة يميل إلى التأمل. وواقع الأمر أن الروائي ساوى بين «حاضر الرواية» وحاضر الشخص الذي يكتبها، إن لم يجعل الحاضر الثاني مرجعاً للأول ومركوزاً له. ولهذا نقف أمام سيرة فكرية روحية، قبل أن نرى باريس «العملاقة»، كما يقول الكاتب. متواليات يتجسّد احتفاء السارد برغباته في «متواليات نسائية»، ساوت بين ثورة الطلاب والأجساد النسائية المنتمية إليها: جوسلين وكاترين وكوليت وإيفيلين... يشكّل هذا بداهة جزءاًً من النص، لولا عنوان الفصل «في بلاد الأنوار»، كما لو كانت الأنوار الفرنسية قد اختصرت في نساء يعشقن التمرّد و»الحرياتية». حاذر برادة «التقليد الكتابي» فألغى هذه المرة فكرة «البطل الروائي» وجاء بتعبير «راوي الرواة»، الذي يكسر رتابة السرد الخطي بقصص ذاتية وشذرات ثقافية. بيد أن هذا الراوي، الذي يريد أن يكون جديداً ومجدداً، لا يلبث أن يقود إلى السرد الخطي، في شكل منقوص، متحدثاً عن وقائع السياسة الفرنسية المتعاقبة. فبعد عنوان: «قال راوي الرواة» في الصفحة 74 نقرأ: «في مطلع 1970، شرع فرنسوا ميتران في جمع فصائل الاشتراكيين المبعثرة» مشيراً، في الوقت ذاته، إلى امرأة متمردة «كاترين»، في انتظار عودة جديدة لراوي الرواة يقول فيها: «كانت 5 سنوات قد مرّت على عودة الاشتراكيين إلى الحكم»، مستحضراً في هذه المرة متمردة جديدة تدعى كوليت، وصولاً إلى ظهوره المتجدد ثالثة، حيث نقف فيه أمام امرأتين تتبادلان العشق وإشارة إلى حكم الرئيس شيراك، يتلوه حضور آخر لراوي الرواة، وهو يقول: مع إهلال الألفية الثالثة، كان اليمين قد استقر من جديد في دواليب الحكم برئاسة جاك شيراك. أراد برادة بمصطلحه «الجديد»، الذي يعني ضمنياً «الراوي العليم»، تجاوز التقليدي في الكتابة الروائية، من دون أن يحقق هدفه، فالمصطلح بقي لفظياً، لم يغير في علاقات البنية الروائية شيئاً، فتكونت ولم تتكوّن في آن. جاء الانزياح من وهم «التصنيع الروائي»، الذي يبدأ «بالمعطيات الفنية الأولية ويطبقها، تالياً، على الموضوع الذي تعالجه الرواية، كما لو كانت الرواية هيكلاً شكلانياً وجملة أفكار. كان من الممكن أن يستغني الراوي عن صيغة «راوي الرواة» بكتابة فصل يزاوج بين مسار فرنسا السياسي وحياة المثقف المغربي، لولا «التنكر الكلي للتقليد» واللهاث وراء شكلانية جديدة. بعد «العتبة الروائية»، التي استعانت بالقرين واليوميات، و «النواة الروائية»، في الفصل الثاني يأتي «المآل الروائي»، أو «العظة» باللغة «التقليدية»، الذي استقر في فصل جديد عنوانه «كابوس مقيم»، يقرأ خيبة الحلم الفرنسي حلم الاشتراكيين يأتي هنا تصنيع فني جديد، قوامه أب يحاور ابنه حول زمن الغرباء والكراهية. أخذ بناء الأفكار هنا شكل «حوار يدور فوق خشبة المسرح»، كما يقول راوي الرواة. والحوار المفترض يدور حول الهوية والتعددية والوهم واليوتوبيا ودعوة حارة إلى «أفكار عصر التنوير» وضرورة «اللائكية»، أي العلمانية، والذي يمكن أن يمتد إلى مالا نهائية. يلاحظ قارئ «موت مختلف»، من دون صعوبة تذكر، أمرين: المادة الثقافية الواسعة التي أدرجها الروائي في نصه، الممتدة من باسكال وسبينوزا إلى دانييل كوهن بندت، كما لو كان يرمم نصه بمادة من خارجه، وحِرْص المؤلف على تكثير «الحوامل الفنية»، التي تتضمن اليوميات والرسائل والمسرح والرسائل المسرحية...، ما يعيد إلى الذهن، ولو من بعيد، الفرق بين الإقناع والإبهار، بلغة قديمة، على اعتبار أن ما يبهر يقنع القارئ المستعصي على الاقتناع. صنع محمد برادة، في كتابه «موت مختلف» نصاً روائياً، معتمداً على معرفته الماهرة بالتقنيات الروائية، مساوياً بين الواقع المعيش والوسائل الفنية التي يمكن أن تعالجه، ومحولاً البشر الفعليين إلى شعارات نظرية، ترثي التنوير وتدافع عنه، وتحتفي بالحلم الاشتراكي وتنقد، بتحفّظ، سياسات الاشتراكيين. وضع المؤلف كل هذا في لغة أدبية رفيعة «متوسلاً أشكالاً كتابية متنوعة: الرسائل، الحوار، الوصف، المراجع الثقافية الأدبية. فصل، من دون إرادة منه، بين الوصف والسرد واكتفى بالأول وهرب منه الثاني، علماً أن الأول يلبّي معطيات لا حركة فيها، بينما الثاني يقبض على علاقات الحياة، المتحوّلة في حاضر قابل للتعيين، لا يختصر في راو مفرد يقف فوق الرواة، ويقول ما يريد، ولا في جملة نساء ينشغلن برغباتهم الجسدية. ولهذا يبدو تعبير «راوي الرواة» غائماً وتسكنه المفارقة، فهو مفرد وموغل في فرديته، لا يستشير رواة مفترضين، ولا يلتفت إليهم، إن وجدوا. يقول الراوي في الصفحة الأخيرة: «سأعطي لنفسي، قبل أن تقطف روحي، حق التوهم بأن ما عانقته طوال رحلتي في الحياة الدنيا، سيستمر ميمّماً صوب الحلم الإنساني الجميل. ص: 174». الجملة التي أخطأت التعامل الروائي مع علاقات الواقع المعقدة، تعبّر عن شخص محمد برادة لا عن خطابه الروائي الهارب، أي عن ذاك المثقف المغربي النبيل، المدافع عن كرامة الإنسان وحريته، الذي حاول أن يوحّد ذاته، وهو يقف أمام تحوّلات الألفية الثالثة، فاستجمع شتاته القديم والجديد، وهو في الثمانين، وأعطى درساً نبيهاً عن: تقنيات الكتابة الروائية واستعمالاتها المحتملة.