كيف يمكن العمل الأدبي الجديد، الذي ينتهك القواعد المستقرة المعروفة لدى القراء، أن يقدم نفسه؟ كيف يمكنه أن يغير الذائقة الأدبية ويقلب المعايير، التي استند إليها القراء على مدار عقود أو قرون أو عصور، في تقويمهم الأعمال الأدبية ووضعهم تلك الأعمال في تراتبيات تجعل الواحد منها في رأس القائمة بينما تقوّم أعمالاً أخرى بوصفها دون مستوى الذائقة؟ شغلت عملية تشكل الذائقة النقاد والباحثين ومنظّري الأدب على مدار العصور. لكن مدرسة التلقي الألمانية الشهيرة، التي تدعى مدرسة كونستانس، تيمناً باسم الجامعة التي ظهرت فيها هذه المدرسة، هي من ركز بصورة أساسية على تحليل العلاقة بين العمل الأدبي والقارئ. وما زالت أعمال منظري هذه المدرسة تثير الكثير من الجدل وردود الفعل في المؤسسات الأكاديمية في العالم، وفي دوائر النظرية الأدبية، وفي عمليات تحليل الخطاب، وكذلك في آفاق تطور الدراسات الثقافية. الناقد والمؤرخ الأدبي الألماني هانز روبرت ياوس 1921 - 1997 يعد من أبرز أعلام مدرسة كونستانس التي عني أفرادها، بصورة عامة، بعلاقة دلالة النص الأدبي بالقارئ. وقد طور ياوس، مع زملائه في جامعة كونستانس الألمانية، وعلى رأسهم وولفغانغ آيسر، ما عرف في سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي بنظرية التلقي. وكان لأستاذه هانز جورج غادامر، الذي درس على يديه في جامعة هايديلبيرغ، أكبر الأثر في أفكاره التي دارت حول معنى التأويل وعلاقة ما يتوقعه القراء من العمل الأدبي، في زمن بعينه، بمعنى هذا العمل وتاريخيته. وينتمي عمل ياوس إلى التيار الذي يشدد على تأويل النص وتاريخيته، وتركز أعماله الأولى على تجديد معنى التاريخ الأدبي وجعله يحتل قلب الدراسة الأدبية. ومع أنه لا يدعو إلى العودة إلى التركيز على حياة المؤلف وبيئته التاريخية، كما يفعل النقد التقليدي، فإن جوهر دعوته النقدية يتمثل في محاولة التوفيق بين الجدل التاريخي الماركسي والشكلانية الروسية. لكنه في الوقت نفسه يرفض النظرية الماركسية في الانعكاس لأنها تختزل العمل الأدبي إلى عملية نسخ وظيفي للواقع. وهو، على رغم تأثره الواضح بالشكلانيين الروس وخصوصاً بمفهوم"نزع الألفة"الذي صكه الناقد الشكلاني الروسي فكتور شكلوفسكي، يشدد على أن عملهم غير كاف لأنه"لا يرى العمل الفني في التاريخ، أي في أفق إنتاجه التاريخي، ولا يعاين وظيفته الاجتماعية، وأثره التاريخي". في اعتراض مواز لنقده عمل الشكلانيين الروس، يقول ياوس إن إصرار الناقد البنيوي الفرنسي رولان بارت على"لعبة التناص الحر، التي لا حدود لها"لا تنتج قراءات تاريخية، أو جمالية. وفي المقابل، فإن مدرسة التأويل الأدبي الهيرمونيطيقا"تقدم فرضية شديدة الأهمية، وهي أن تعيين معاني الأعمال الأدبية يتطور تاريخياً ويستند إلى منطق محدد مما يساعد في تشكل المعايير الأدبية، ويضيف على الدوام جديداً إلى سلسلة الأعمال الأدبية الكبرى، كما يساعد في عملية تحول هذه المعايير على مدار التاريخ. والأهم من ذلك أن هذه الفرضية تسمح بعملية التمييز بين"التأويلات الاعتباطية وتلك التأويلات التي حظيت بنوع من الإجماع"بين القراء والنقاد والدوائر الأدبية المختلفة". في هذا السياق صاغ ياوس تعبير"أفق التوقعات"ليفسر أسس عملية الاستقبال الأدبي حيث تتحدد قيمة أي نص بالاستناد إلى المسافة التي تقوم بينه وبين"أفق التوقعات". ويذكرنا مصطلح"أفق التوقعات"بتعبير"اندماج الآفاق"الذي صاغه أستاذ ياوس، هانز جورج غادامر، وفسر استناداً إليه عمليات فهم الماضي والآخر، إذ بدلاً من الحديث عن الفهم كحقيقة موضوعية، يرى غادامر أن الفهم لا يتحقق إلا من خلال تكييف المعنى وتسوية الخلاف في وجهات النظر. إن عملية القراءة، بحسب غادامر، هي نوع من تجسير الفجوة بين الماضي والحاضر"ونحن إذ نمارس فعل القراءة في الحاضر لا نستطيع التخلص من الأفكار الجاهزة والتحيزات المستقرة في ثقافتنا. ولكننا مع ذلك نستطيع في هذا الأفق المحدود تاريخياً أن نتوصل إلى بعض الفهم الذي يمكننا من إلقاء بعض الضوء على النصوص القديمة. وفي أثناء عملية الفهم هذه قد يحصل نوع من الاندماج بين"أفق توقعاتنا"وآفاق كتابة الماضي وقراءته. مع أن ياوس يحاول في فهمه علاقة العمل الأدبي بالمتلقي، أن يفسر الطبيعة المتغيرة لمعنى العمل الأدبي، إلا أن تأثيرات غادامر ومدرسته التأويلية، التي تشدد على أن المعنى لا يتحقق إلا عبر علاقة مجاورة أو من خلال المصادفة، واضحة في عمله. لكن الاختلاف بين غادامر وياوس يكمن في طبيعة مشروع ياوس. إنه لا يعنى بالتركيز على المؤلف، أو النص، أو التأثيرات الأدبية بل على عملية تلقي النص بدءاً من زمن كتابته وانتهاء بعملية تأويله من جانب القارئ أو مجموعة القراء في الوقت الحاضر. ليس النص، في هذه الحالة، وجوداً موضوعياً محاطاً بعدد غير محدود من التأويلات التي تشكل ظلالاً شبحية له، بل إن هوية هذا النص لا تتحقق إلا في أفق عملية استقباله، ومن خلال عملية التأويل الجماعي لأجيال متتالية من القراء. يقول ياوس في مقالته الشهيرة"التاريخ الأدبي بوصفه تحدياً للنظرية الأدبية"1970:"لا تستند تاريخية الأدب إلى مؤسسة"الحقائق الأدبية"... بل إلى التجارب السابقة للقراء مع العمل الأدبي". يثير العمل الأدبي، بهذا المعنى، أصداء مختلفة لدى القراء، ومن ثمّ يحرر نفسه من مادية الكلام ويحقق وجوده في العالم المعاصر. ومن هنا، فإن تاريخ الأدب يتشكل من عملية التلقي والإنتاج الجمالي على صعيد القارئ والناقد والمؤلف، في سيرورة إنتاجه الأدبي. إن النص يقيم حواراً لا ينقطع بين الماضي والحاضر حيث يتم فهم الماضي واستقباله من خلال الأفق الثقافي للحاضر. ولكي يصبح فهم الماضي ممكناً يطالب ياوس بنوع من"اندماج الآفاق"لتوحيد الماضي والحاضر. إن ياوس يموضع العمل الأدبي في"أفقه"التاريخي، وفي سياق المعاني الثقافية التي سبق إنتاجها، ثم يعمل على تفحص العلاقات المتغيرة بين هذه المعاني وپ"الآفاق"المتغيرة لقراء العمل التاريخيين. وهدف الناقد الألماني، من هذا الاختبار، أن يبدع نوعاً جديداً من التاريخ الأدبي الذي لا يركز على المؤلفين والتأثيرات والتيارات الأدبية، بل على تأويلات الأدب في لحظات"استقباله"التاريخية. وبحسب نظرية ياوس، فإن الأعمال الأدبية لا تبقى ثابتة، في وقت تتغير التأويلات، بل إن النصوص والتقاليد الأدبية ذاتها تتغير استناداً إلى"الآفاق"التاريخية التي تستقبل ضمنها. وهو يرى، من ثمّ، أن العمل الأدبي الجديد لا يقدم نفسه للقارئ بوصفه جديداً تماماً. إنه يعرض نفسه على القارئ من خلال الإشارات الصريحة والمقنّعة، والتلميحات الضمنية والخصائص المألوفة بالنسبة الى القارئ"موقظاً بذلك بعض الذكريات في نفسه، جاعلاً إياه يتوقع شكل بداية العمل ونهايته، حيث يعمل في هذه الحالة على مخالفة توقعات القارئ أو إعادة توجيهه، على مدار النص، أو إيقاظ حس المفارقة فيه، بحيث يكون باستطاعة الكاتب أن ينوّع على هذه التوقعات أو يقوم بتغييرها أو تصحيحها أو إعادة إنتاجها. كل ذلك يحدث استناداً إلى القواعد والقوانين الخاصة بالنوع أو بالشكل الأدبي للنص لكي يُحدِثَ، ما يسميه ياوس،"تغيراً في آفاق التوقعات". وهو يخالف بذلك جماعة سوسيولوجيا الأدب الذين يعتقدون بأن الكاتب موثق إلى جمهور قرائه، إلى الوسط الذي يوجد فيه، والى الآراء والأيديولوجيا السائدة في زمنه بحيث يتوجب عليه أن ينتج كتاباً يوافق"توقعات قرائه"، ويقدم لهم الصورة التي يحبون أن يروها لأنفسهم. إن هذا النوع من الحتمية الوضعية مرفوض من جانب ياوس، وهو من خلال تفسيره كيفية دخول الأعمال الجديدة، التي تنتهك"توقعات"القراء وكيفية استقبالهم الأعمال الأدبية، في السلسلة الأدبية، يفسر عملية التطور الأدبي وتطور الأشكال وتغيرات النوع. وأثارت مقالة هانز روبرت ياوس"التاريخ الأدبي بوصفه تحدياً للنظرية الأدبية"ردود فعل كثيرة في ألمانيا. وقد واصل الناقد الألماني الغربي، بتأثير ردود الفعل هذه، الدفاع عن تصوراته النظرية التي طرحها في مقالته الشهيرة. ولكنه في الوقت نفسه قام بتعديل هذه التصورات منذ سنوات السبعينات أكثر من مرة، في معاركه النقدية مع ممثلي مدرسة فرانكفورت، ونخص بالذكر هنا انتقاداته لعمل ثيودور أدورنو. إن ثيودور أدورنو إذ يبحث في كتابه"نظرية علم الجمال"وقد نشر بعد وفاته، معنى الثيمات الأساسية في علم الجمال - استقلالية العمل الأدبي، والعمل الأدبي بوصفه ظاهرة اجتماعية - تاريخية، والجمال المشترك بين الطبيعة والفن - يشدد على دور علم الجمال الفلسفي في فهم طبيعة الفن الحداثي، الذي يصر على النفي السلبي للمجتمع كنوع من النقد الاجتماعي والكفاح ضد التكيف الاجتماعي والسلبية اللاعقلانية التي سادت في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية. وهكذا، فإن الفن العظيم بالنسبة الى أدورنو هو بمثابة المزولة التاريخية - الفلسفية التي تضيء جوانب من الواقع الاجتماعي ولكنها تنكره وتوجه أشد الانتقاد له في الوقت نفسه. إنه، بهذا المعنى، ينكر أي دور تغييري مباشر للفن في المجتمع. يعارض ياوس نظرية أدورنو قائلاً إن في إمكان الأدب والفن أن يلعبا دوراً تقدمياً في المجتمع، وينتقد النظرة النخبوية للفن ومفهوم استقلالية العمل الأدبي، والتجربة الجمالية نفسها، والمتعة المتضمنة في التواصل مع العمل الأدبي أو الفني. وهو يقوم من ثمّ باستبدال مصطلحه، الأثير على نفسه،"أفق التوقعات"بتعبير"التجربة الجمالية"بوصفها المتعة الذاتية التي يحصل عليها المرء من خلال التواصل مع متعة جمالية أخرى. وهو في تصوره النظري الأخير للعلاقة بين النص والقارئ يرى أن هناك خمسة أنماط من التفاعل بين العمل الأدبي وكيفية تلقيه: وهي علاقات التداعي، والإعجاب، والتعاطف، والتطهير، والإحساس بالمفارقة. ومن ثمّ فإنه يوفر نموذجاً شاملاً لفهم العلاقة بين علم الجمال وعملية استقبال الأعمال الأدبية، متوجاً بذلك نظريته في التلقي التي ركزت في البداية على بنية"توقعات"القراء وانتهت إلى التشديد على معنى التجربة الجمالية ووظائفها المتحققة من خلال عملية القراءة.