يُشبه عنوان كتاب الناقدة أمينة غصن "قراءات غير بريئة: في التأويل والتلقي" * أن يكون مظلّة يمكن أن ينضوي تحتها الكثير من الاتجاهات النقدية المعاصرة مع انتفاء امكان حصرها من قريب أو من بعيد. فالصيغة المركبة التي يعبّر بها تشير الى احتمالات شتى لا تبدأ بإيضاح قصدية الناقد الذي هو المؤلف أو القارىء من باب أولى في التزامه وجهة نظر معينة - وهو احتمال قائم في كل حال - ولا تنتهي بالقدرة على القيام بعملية احصائية لضروب اتجاهات نقدية يمكن أن تشملها تلك الصيغة عينها. لقد ولى زمن الناقد الداعية والناقد المنافح عن "نموذج طاغ"، ونحن في زمن "القارىء" الذي يتلقى "النص" في "عملية سيرورة نوعية هي في نهاية التحليل تجربة انتاج سيميائي لتشكُّّلٍ نوعي جديد" كما يقول ستيمبل في شرحه للمظاهر النوعية للتلقي. غير أن العبارة التي اعتمدتها الناقدة غصن "قراءات غير بريئة" تحيل الى بارت القائل "ان الكتابة لا يمكن أن تكون ساذجة... لأنها قراءة تعيد تشكيل المادة المراد توصيلها..." وفي كل حال، فإن بارت جسّد هذا الفعل حتى قيل ان "كلمة قارىء أفضل ما يلخّص الوظائف التي قام بها". وتُنسب هذه القراءات الى "التأويل" الذي هو "ابداً معنى احتماليّ يعطي لكلّ مسمى عدداً لا نهاية له من المعاني" عند غصن التي تفرد له جزءاً من الفصل الثاني من الكتاب من دون أن تحلّ لغز التباساته لجهة نسبته الى "طريقة رؤية" بعينها مكتفية بعرضٍ موجز لإشكاليته على مذاهب النقد قديماً وحديثاً، وبإشارة الى "حركاتٍ ثلاث يستحيل بعدها أن نرى العالم ونعاينه كما من قبل: ماركس ومفهوم الجدلية والصراع الطبقي، بيكاسو والفن الحديث ثم البنيوية ومفاهيم التزامن والثنائيَّات الضدّيَّة والإصرار على أن العلاقات بين العلامات لا العلامات نفسها هي التي تعين...". ومعلوم أن "الفكر الحديث قد صار كلّه، منذ نيتشه الى اليوم، تأويلاً فحسب، إذ لم تعد المسألة الجوهرية هي مسألة الخطأ أو الصواب، بل هي مسألة "السراب العقلي" كما يقول ريكور. تأويل بات تقنيات تدفع دائماً "الى لعبة المرايا الأزلية" وفق فوكو، حوَّلت علومَه من علوم تبحث عن الدلالة الى علم الهيرمينوطيقا الذي يبحث في آليات الفهم عينها وهو "تحول جعل القارىء موضع البحث بدلاً من المتكلم" سيزا قاسم، وهو يحيل الى مفهوم "التلقي" الذي تُنسب قراءات غصن اليه أيضاً وفقاً لذلك العنوان المركب. ونظرية "جمالية التلقي" تبلورت في جامعة كونستانس في المانيا دافعةً الهيرمينوطيقا الفلسفية غادامير على الأخص والسيميولوجيا الى حقل الأثر الذي ينتجه العمل الأدبي في القارىء وآليات فهم هذا الأخير للنص استناداً الى مفاعيل "التلقّي" و"انصهار الآفاق" أو تنافرها فيما يمكن أن يُسمى إقراراً بفيتيشية Fژtichisme "القارىء" بعد أن سعى النقد المحايث في تنويعاته الألسنية والبنيوية والسيميائية والسردية الى مقاربة النص الأدبي بما هو بنية مغلقة مكرِّساً بذلك فيتيشيَّة النص ولا شيء سواه. وكان النقد التقليدي قبلهما يُسلّم باعتبار العمل الأدبي مرآة لمؤلفه تعكس ذاتيته النفسية والاجتماعية والإيديولوجية المنهج التاريخي والسوسيولوجي والسايكولوجي مكرِّساً بذلك فيتيشية المؤلف و"السياق" حسب تعبير د. بنحدو المغرب. "يُقرأ المكتوب من عنوانه" مقولةٌ تصحّ هنا بمعنى اشراع النص على آفاق متداخلة متشابكة وحيناً متوازية وأحياناً متنافرة وفي كلّ حين لا يركن النقد الى واحدٍ منها كأنّه مكتسبٌ وعياً شقيّاً بالحدس الذي تحيا به الرؤى الحديثة ب"الموت الضيف" الحاضر في كل نصّ ولا يمكن التقدُّم به إلاّ بدفعه جرّاً فوق الركام. وهذه هي الصيغة التي تتقدم بها "قراءات" غصن منذ الفقرة الأولى في كتابها: الركام... وتمهد لفصوله بمقدمة تستهلها ب"كولاج" مُستلّ من مقالةٍ قديمة لها لا تذكرها الفكر العربي المعاصر، شباط 1982 كأنها تحيل الى "مرايا محطمة" الركام بمعنى آخر معترفة بأنها تسعى الى "كوجيتو نقدي يُعدّ تجاوزاً للواقع باستمرار ووعياً لدينامية عظمته وعرائه وضعفه... وحيث يصير الناقد سيزيفاً يصوغ أسئلة ويشكّك في مصداقية أجوبته الى ما لا نهاية". هذا الكوجيتو المابعد ديكارتي يعي الكاوس Chaos الذي أنتجه اصطدام الفلسفات المعارضة وانهيار جماليات الوحدة الانصهارية ويعي "انهيار الأنا المفسِّرة للعالم وترك التفسير واكتشاف الروابط بين الموجودات للمتلقي تماماً"، كما أنه يعي "طبيعة الرؤية التجاورية للعالَم التي تركّز على ابراز التناقض والتعارض والتضاد والتنافي بين مكوّناته التي تعاينها، على العكس تماماً من الرؤيا التوحيدية التي كانت تركّز على إبراز علاقات المشابهة والتكامل...". وهذه الرؤيا التي صاغها كمال أبو ديب في "جماليات التجاور أو تشابك الفضاء الإبداعية" تبدو أنها المؤثر الطاغي في المآل على مسار قراءات غصن برمّتها. وهو تأثير يدعم "إحداث الشروخ في منظومة القراءات الشائعة انطلاقاً من بعثرة التصنيف والانسجام وصولاً الى التخريب الآثم والجميل الذي ينسف مفهومي الطمأنينة والاستقرار" كما تعلن غصن من دون مواربة. بل وتجد مسوّغاته في حقيقة أن كل نصّ هو "لقيط" ينتمي الى هويات متناقضة في واقع ذي حركة ديناميكية مليئة بالثقوب، على النقد أن يواجهها بموقفٍ صداميّ لا استهلاكي ولا اكتسابيّ بالوراثة بل بحركة لولبية حلزونية ما أن تكتمل حتّى تعود الى بدء الابتكار والتجريب وتجاوز المألوف. وحين تحدّد غصن منطلقات قراءاتها فإنها تقتبس من أبو ديب، إذ هي تعوِّل على "جماليات اللقطة التي تُحلّ العين The Eye محلّ الأنا The I وتعتبر المجاورة تكويناً مكتفياً بذاته". وتنبّه الى أن قراءاتها زاوجت بين التنظير والتطبيق. فما سبق يمكن اعتباره عيّنة من الأوّل، وأما الثاني فتظهر طلائعه ابتداء من النصف الآخر من الفصل الثاني بعد عرض إشكالية التأويل كما سبق وذكرنا أعلاه. بيد أن التطبيق يأتي إيضاحاً "لمقاصد صاحب النصّ من حيث هي أسباب مولِّدة له". فالتأويل الذي تأخذ به غصن لا يقارب آليّات تفكيك النص بالعدَّة الألسنية أو السيميولوجية. "فالنقد الحديث المرتكز على المصطلح المقعَّد صار في ذاكرة الماضي لأنه يقتل المتعة في النص، والقارىء العادي تجاوز هذا الكرنفال بعفوية وسليقة لتصير كلّ هذه القراءات جامعية بحتة..." بل هي تحاول "اعادة انتاج بعض اللوحات الفكرية والتاريخية" وصولاً الى كشفٍ يفصل بين "ما هو ظاهر في النص حسّيّ، وما هو باطن كيميائي يحيل على التدلال والترميز، وكلاهما مترابط ويحط الرحال حسب تفسير كريستيفا في التناص". هذا الأخير الذي قصَّرت عن طرح مسألته البنيوية بسذاجة كما تقول غصن. لذلك، فإن هي عرضت مقاصد كمال الصليبي في "التوراة جاءت من جزيرة العرب" فلكي تُلفت الى أن الصليبي أيقن "أن النصّ التوراتي لا يحمل في ذاته دلالة جاهزة ونهائيّة، بل هو فضاء دلالي وإمكان تأويلي... من هنا انفتاح النصّ على التعدد والاختلاف والكثرة...". وقرأت في التراث الإسلامي حول جحود ابليس أو توحيده لكي تبيّن تعدّد التأويلات بين قراءات ابن الجوزي والحلاّج والعظم ومكارم للقصّة عينها. وبرأيها أن هذا الوضع نتج عن "وضع ابليس / الضحيّة الحقَّ خارج كل تصنيف، وخارج كل تأويل". ثم عرضت لقراءة وضاح شرارة لأخبار مجنون بني عامر لتشير الى أن شرارة أراد بأن "خبر المجنون يكنى عن الدِّين ويقوم منه مقال المجاز". هكذا أيضاً عرضت لقراءة أدونيس للتراث الصوفي الذي "يتجاوز قراءةً وتأويلاً ظاهر النص الى باطنه ليؤدّي الى زلزلة الفكر القائم عليه". تريد غصن في خاتمة هذه القراءات أن تُعلن أنه "إذا كانت كل قراءة إثماً، فلنمْحُ الإثم بالإثم، والغياب بالحضور، والصمت بالنطق... فبهذا الوعي النقدي تكون النجاة من جمود المعتقد ودوغمائيّته وتشيؤه...". ثم تقارب غصن في فصلها الثالث مسألة التلقي. ولا تُشير الى جماعة كونستانس. ولا من قريب ولا من بعيد تحيل اليها إذ تريد أن تتناولها عبر مداخل تراثية يمكن اعتبارها جذوراً لحلحلة المعنى اللاَّبِد دون حراك. فتقتبس من القرطاجيين لتأكيد أن "المعنى في النفس ملتبس ومجهول ووحشيّ وغفل... فالكاتب والقارىء المبدِع والمتلقّي شريكان في فضيلة البيان". وتدفع هذا الاتجاه باقتباسات موازية من الجاحظ والسيوطي والقيرواني والرازي الذي يشير الى "تصوّرات فردية تجعل المعنى منفصلاً عن الشيء المدرَك ليبقى وثيق الصلة بقصد القاصد..." وتستنتج غصن من هذه "القراءات" أن وجهة النظر هي التي تخلق الأشياء، وهذا عامل جديد في انتشاء المعنى بين المتكلّم والمتلقّي. فالعلاقة بينهما إذاً هي علاقة تقاطع وتداخل حيث يلجأ الثاني الى التأويل سعياً للوقوف على المقاصد، ثم الى التفكيك الذي يهتمّ بفراغات النص وثقوبه والحفر في طبقاته. وإذا كانت "نظرية المعنى" تعني ترجمة الظواهر الخارجية الى مدركات ذهنية متواضع عليها فتجعل من المنطوق خادماً للمفهوم، فإن التأويل الذي يفزع اليه المتلقّي يتعلّق بالمعنى بقدر ما هو بحث عن احتمالاته وصولاً الى التحرّر من امبرياليّته. فالتأويل هنا هو استراتيجية للاختلاف والمغايرة لأنه يرتكز على مفهوم "النصّ اللقيط" من حيث أنّه يستند الى مجموعة أنساب وأصول، فليس هو بأيّ حال "وحدة منغلقة لا ترجع الى ما قبلها ولا تمتد الى ما بعدها...". ان احدى أهم اشكاليات الكتاب تكمن في مثول نظرية "جمالية التلقّي" جاوس وإيزر بقوةٍ في نسغ تحريره من دون الإفصاح عنها بجلاء، فكأنّها كامنة بالقوّة ومستعصية على الخروج بالفعل الى عيان التنظير وتطبيقاته. لقد أسس جاوس "نموذج اتصال" بين المرسِل والمستقبل في مقالةٍ أساسية له بعنوان "التاريخ الأدبي بوصفه تحدّياً للنظرية الأدبية" اعتُبر تغييراً لحقل البحث كما سبق ذكره. ومن المقولات التي اعتمدها لهذا النموذج على المثال: نفي المكانة الخاصة عن النصوص الأدبية، وعدم امكانية فصل اشكاليات المعنى عن التأويل، واعتبار المُرسِل والمتلقّي على الدرجة ذاتها من الأهميّة، وان دور الناقد يتبدى في الكشف عن الصراع المعتمل داخل النصوص. كما نرى عند إيزر، وهو المساهم الرئيسي الثاني في "نظرية التلقي" مقولات مثل أن قراءة النصّ إدراكٌ من إدراكات أخرى محتملة، وان القراءة هي مواجهة مع ثغرات النصّ وفجواته، وان للأدب وظيفة تقويض الإيديولوجية الخ. وكل هذه المفاهيم تدخل في صلب كتاب "قراءات غير بريئة..." من دونها يفقد معوَّله الجوهري الذي لا يستقيم له وجود لولاه. وكان يمكن أن تكون لمحاولة غصن سبق المبادرة لو أن بحثَها تطرَّق الى عمق الإشكاليات التي تثيرها في قلب دينامية فعل القراءة ذاته عملية التلقّي دون الاقتصار على نهج "العروض المتناقضة" للنصوص. كما كان يمكن للبحث أن يفتح آفاقاً أكثر خطورة لو أنه لم يتجاهل مفهوم "أفق التوقّعات" وانصدامه بمراياه المؤالفة أو المخالفة في خضمّ التلقي إياه وصولاً الى امكانية معاينة النتائج في ما يُسمَّى "انصهار الآفاق" وهي عمليَّة أساسية في نظرية جاوس. إنما، ومن دون اقتحام هذه المغامرة، مكتفيةً بما من شأنه خلخلة المعنى، توقَّفت غصن عند حدٍّ معيَّن من "التنظير" وانصرفت الى قراءات "لنصوصٍ تجاورت ولم تنصهر" مكرِّسة تأثّرها هنا ب"تشابك الفضاءات الإبداعية" عند أبو ديب، ومعيدة "انتاج بعض اللوحات الفكرية" تماماً، وبالضبط كما قالت. وتكاد الفصول المتبقية من الكتاب أن تنتمي الى قراءات مغايرة هي من الصعوبة بمكان أن ننسبها الى "تنظير" الفصول الأولى، فهي أقرب الى العرض شبه المحايد لآراء توفيق الحكيم في مذهبه الأدبي "التعادلية" وأحكام البناء الفنّي والأساليب في فصل. كما الى مواقف فرح أنطون في "مجلة الجامعة" وتعارضه مع الأفغاني، والمبدأ الذي يستخلصه حول التمدّن الجديد القائم على قاعدة العِلم وقاعدة العلمانية، ثم مناظرته مع الشيخ محمد عبده حول كتابه "ابن رشد وفلسفته"، ثم نشره بعض فصول كتاب رينان عن "تاريخ المسيح" وفصول من كتاب "هكذا تكلم زرادشت" لنيتشه في فصلٍ آخَر. وأخيراً سيرة نزار قبّاني ومؤثّرات الآفاق المفتوحة في رؤيته ل"الأميرة المائية بيروت". جلّ ما تفعله غصن هو سرد هذه الرؤى بمناظرتها مع رؤى معارضة ومغايرة معاصرة لها تذكيراً ب"أزمة" عجز النقد التقليدي عن معالجتها لغياب وعيه بها وكانّ "غياب هذا الوعي هو علامة وعي لم يعِ بعدُ كونه في أزمة، مع أنه غارق في قرارة الفرار من أزمة تغترب به عن العالم والتاريخ". وهنا تُطرح اشكالية أخرى في الكتاب هي قصور القراءات التطبيقية عن طموحات الوعود التنظيرية التي سبقتها، وهو أمرٌ يطرح بدوره مسألة كبرى جديرة بالبحث النقديّ الحديث عندنا هي ما يمكن تسميته بإشكالية "تلقّي التلقّي" ومفاعيله داخل آليات "المناهج" النقدية المحلية الواقعة في الفجوة السديمية بين تيارات الحداثة وتيارات "الما بعد"، إنما هذه قضية كبرى ينبغي طرحها ليس انطلاقاً من هنا في كلِّ حال. * صدر عن دار الآداب، بيروت، 1999.