ما معنى النظرية الأدبية المعاصرة، وما هي دائرة اهتماماتها وأين توجد حقول عملها، وكيف تنظر إلى نفسها بصفتها ممارسة؟ علينا أن نسأل أنفسنا هذا النوع من الأسئلة لنفهم الأسباب التي جعلت أعداء النظرية يهاجمونها بهذا القدر أو ذاك من الشراسة عادّين ممارسة النظرية شكلاً من أشكال التعبد الصنمية التي اجتاحت الممارسة الثقافية في الجامعات والمؤسسات الأكاديمية بعامة، وصولاً إلى الصحف والمجلات وحتى البرامج الإذاعية والتلفزيونية في الغرب، وكذلك في العالم العربي. فعلى رغم صعوبة هذا النوع من الكتابة، الذي أطلق عليه بصورة خرقاء اسم "النظرية الأدبية"، وتعقده ولغته المتحذلقة في أحيان كثيرة، استطاعت النظرية أن تنتشر خلال ربع القرن الأخير انتشار النار في الهشيم آخذة في طريقها أشكالاً وأساليب كانت سائدة، مهدمةً قلاع التقليد في الدراسات الأدبية وسائر العلوم الإنسانية. النظرية الأدبية هي نوع من الكتابة العابرة لحدود التخصصات مما جعل انتشارها في المؤسسات الأكاديمية وغير الأكاديمية سريعاً وشديد التأثير، وقادراً على الحلول محل التخصصات الضيقة والمعالجات الموضعية في حقول مثل النقد الأدبي وعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرها من العلوم الإنسانية. في هذا السياق من تطور عدد من المعارف الجديدة، التي وضعت تحت عنوان عريض هو "النظرية الأدبية"، أخذت مظلة المصطلح تتسع لتشمل حقولاً من التحليل لا أظن أنه خطر ببال البنيويين الأوائل أنها ستنسب للبنيوية أو أنها ستكون نقيضاً لها طالعاً من داخلها. وبغض النظر عن مجال التحليل أو طبيعة الاهتمامات، أو التشديد على مفاهيم بعينها أو الرغبة في الكشف عن صيغ متباينة من الممارسة الإنسانية، فإن ما يأسر اهتمام النسل الجديد من المعارف والخطابات هو الإمكان غير المسبوق لغزو مناطق جديدة من التعبير والممارسات وصيغ الوجود الإنساني. لقد بدأنا بالنص الأدبي، ومحاولة إيجاد علم للأدب مع الشكلانيين الروس، مروراً بمحاولات البنيويين الفرنسيين والأميركيين لضبط النظام في اللغة والأدب، وانتهينا إلى تشظي المعارف وحقول التحليل التي تتراصف تحت العنوان العريض للنظرية. وهكذا فإننا عندما نتصفح أي كتاب يدور موضوعه حول النظرية الأدبية سنجد عدداً كبيراً من المدارس والتيارات والتخصصات والقراءات التي اجتمعت كلها تحت سقف "النظرية الأدبية". إن جولي ريفكين ومايكل رايان، على سبيل المثال، يضعان العناوين التالية لفصول كتابهما "النظرية الأدبية: مختارات"، والذي تزيد صفحاته على 1100 صفحة: شكلانيات، البنيوية واللسانيات، التحليل النفسي، الماركسية، ما بعد البنيوية والتفكيكية وما بعد الحداثة، النسوية، دراسات الجنس: دراسات المثلية الجنسية ونظرية الشذوذ، صيغ من التاريخانية، دراسات الأعراق وما بعد الاستعمار والدراسات الدولية، الدراسات الثقافية. وهي عناوين، كما هو واضح، تدل على انفجار ما يسمى "النظرية الأدبية" وتوزعها على موضوعات وخطابات لا تحصى. وإذا طالعنا الأسماء التي تضمها مختارات ريفكين ورايان فإنها تجمع إلى أسماء بوريس إيخنباوم وشكلوفسكي وميخائيل باختين، وكليانث بروكس ورومان ياكوبسون وكلود ليفي شتراوس وجاك لاكان وجاك دريدا وميشيل فوكو وجان فرانسوا ليوتار وهيلين سيكسو وأدريان ريتش وإدوارد سعيد وهومي بابا، أسماء أخرى مثل سيغموند فرويد وكارل ماركس وفردريك نيتشه ومارتن هايديجر وثيودور أدورنو وتوني موريسون. ومن الواضح أن جامعي هذه المختارات يقصدان الذهاب بعيداً للوصول إلى أسلاف هذا الخطاب الجديد الذي نطلق عليه "النظرية الأدبية". لقد أصبحت النظرية الأدبية علم العلوم، كما كانت الفلسفة في غابر الزمان، وأصبح الناقد الأدبي العتيق، الذي غاب تحت ركام الخطابات المتباينة، مطالباً بتوجيه اهتماماته لا إلى النصوص الأدبية فقط بل إلى جميع مظاهر الوجود إلى الحد الذي دعا واحداً من مؤرخي البنيوية الأوائل، هو جوناثان كَلَر، إلى القول إن النظرية الأدبية ليست معنية بالدراسات الأدبية فقط بل بمجموعة من الكتابات التي تتناول كل ما تقع عليه أشعة الشمس"إنها تتضمن أعمالاً في الأنثروبولوجيا وتاريخ الفن والدراسات السينمائية ودراسات الجنس Gender واللسانيات والفلسفة والنظرية السياسية والتحليل النفسي، والدراسات التي تدور حول العلم ومفهومه، والدراسات التي تتناول التاريخين الثقافي والاجتماعي، وعلم الاجتماع. كما أن هذه النظرية تعيد النظر في المعايير المتداولة والمسلمات وتبحث عن بدائل لهذه المعايير والمسلمات والافتراضات التي نعتقد بصحتها، وهي ليست كذلك. إنها تضع موضع المساءلة عدداً كبيراً مما نأخذه في حياتنا اليومية وكتاباتنا على عواهنه، ومن ضمن ذلك مفاهيم مثل المعنى، والمؤلف، والقراءة، والذات، وعلاقة النصوص بشروط إنتاجها. إن النظرية بهذا المعنى عابرة للاختصاصات، تؤثر في حقول معرفية بعيدة من الدائرة التي تعمل ضمنها. ولعل تيري إيغلتون مصيب إذ يقول في كتابه "النظرية الأدبية: مقدمة" 1983 إن النظرية الأدبية هي "كتلة من الخطابات الواهية الصلة ببعضها بعضاً نجمعها تحت عنوان موقت هو النظرية. ليس للنظرية تلك الهوية العتيقة المصونة التي تمتلكها الخطابات الأخرى، ومن ثمّ يمكن استخدامها لأغراض وغايات مختلفة". إذا كانت النظرية لا تستقر على حال، كما أنها تعمل في عدد لا يحصى من الحقول، فمن أين تنبع مقاومتها والتحريض ضدها، والدعوة للتخلص منها والحديث عن قصورها وصنميتها؟ يبدو أن الانتشار الواسع للنظرية الأدبية، وقدرتها على الامتداد إلى حقول ومناطق جديدة كانت في السابق حكراً على بعض المعارف والعلوم الإنسانية، وكذلك معالجتها للممارسات والتعبيرات الإنسانية المختلفة بصفتها نصوصاً خالصة، قد أدى إلى ترهل النظرية وابتعادها شيئاً فشيئاً عن إدراك الشروط السياسية والاجتماعية التي تجعل من "النصوص" التي تقرأها النظرية ممكنة الوجود. يرى إدوارد سعيد في كتابه "العالم والنص والناقد" 1983 أن" النصية Textuality فرع من فروع النظرية الأدبية غامض وملغز ومطهّر إلى حد بعيد … وغالباً ما تعزل النظرية الأدبية، كما تمارس في الدراسات الأكاديمية الأميركية الآن، النصية عن الظروف والأحداث والإحساسات الفيزيائية التي جعلتها ممكنة الوجود وصيرتها واضحة ومدركة بصفتها نتيجة للعمل والجهد الإنسانيين". ويختلف سعيد مع هذه الممارسة انطلاقاً من كونه يرى أن النصوص الأدبية "في أكثر أشكالها مادية منشبكة بالظرف والزمان والمكان والمجتمع. إن النصوص موجودة في العالم الدنيا، ومن ثمّ فإنها دنيوية". وعلى هذا الأساس فإن هدف النقد الدنيوي هو "الوصول إلى إحساس مرهف بما تستلزمه قراءة أي نص، وإنتاجه وبثه، من قيم سياسية واجتماعية وإنسانية". انطلاقاً من هذا الفهم لوظيفة النقد يميز إدوارد سعيد بين النظرية والوعي النقدي "فالوعي النقدي هو إدراك الاختلاف بين المواقف، وإدراك الحقيقة التي مفادها أن لا نظام، أو نظرية، يمكن أن يستنفد الموقف الذي منه انبثقت أو إليه انتقلت هذه النظرية ... إن الوعي النقدي هو إدراك مقاومة النظرية، وإدراك ردود الفعل التي تثيرها النظرية في التجارب والتأويلات الملموسة التي هي في صراع معها. وفي الحقيقة أنني أريد أن أذهب بعيداً وأقول إن عمل الناقد هو توفير مقاومة للنظرية، وفتح هذه النظرية على آفاق الواقع التاريخي، على المجتمع والحاجات والاهتمامات الإنسانية. إن عمله هو أن يحدد الشواهد الملموسة المستخلصة من الواقع اليومي الذي يكمن خارج أو بعد منطقة التأويل". تمثل الفقرة السابقة التي اقتبسناها من إدوارد سعيد واحداً من أكثر المواقف المضادة للنظرية قوة. إن سعيد، على رغم كونه واحداً ممن أسهموا في تطوير آفاق النظرية الأدبية المعاصرة في الغرب بخاصة والعالم بعامة، يفضل النقد على النظرية، ويسعى من خلال نقده لها إلى إعادة الاعتبار للنقد والتاريخ والوعي المستند إلى الممارسة الإنسانية التي وقفت منها النظرية، بعامة وعلى الأقل في أكثر أشكالها انحيازاً للنصية، موقف عداء. وهو الأمر نفسه الذي يتنبه له تيري إيغلتون عندما يقول: "أظن أنه عندما تتجاوز النظرية الممارسة، وأنا هنا لا أتكلم بالتحديد عن النظرية الأدبية بل عن النظرية بالمعنى الواسع للكلمة، فإن ذلك يؤشر باتجاه وجود مشكلة. إنه يشير إلى وجود مشكلة في الواقع الاجتماعي العملي، وهذا بالطبع سوف يدفع النظرية إلى الالتفات إلى نفسها بأشكال قد تكون غير منتجة: وهذا يعني أن النظرية تصبح في شكل من الأشكال مكتفية بنفسها، ومولدة ذاتياً". إن الافتتان الثقافي بالنظرية الأدبية، في أوساط المؤسسة الأكاديمية الغربية، يقابله تنبه إلى المشكلات التي تولدها والحدود التي تقيم ضمنها عبر تناسي الشروط المولدة للنصوص والممارسات، في بعض تيارات هذه النظرية. لكن نقد النظرية، بوضع تياراتها في سلة واحدة والتعامل معها بصفتها متشابهة، يغفل في الحقيقة كونها مجرد مظلة تجتمع تحتها أشكال متنافرة من الممارسات النصية والنظرية والتحليلات التي ترتكز إلى مفاهيم وتصورات مختلفة للنصوص والعالم. لكن مقاومة النظرية، سواء بأشكالها التقليدية المعادية للتجديد النظري والمعرفي أو من خلال نقدها من داخلها، كما يفعل إدوارد سعيد وتيري إيغلتون مثالاًً لا حصراً، هو نوع من الحيوية الثقافية والسياسية والاجتماعية التي ترفض أن يتحوّل الوعي النقدي للعالم إلى مجرد ممارسة نصوصية على الورق بحيث ينسحب المثقفون إلى شرنقتهم الداخلية ليمارسوا طقساً سحرياً في فصل البشر عن شرطهم التاريخي.