في جامعة هارفارد التي تعتبر إحدى أشهر الجامعات في أميركا، بل وفي العالم قاطبة، وأمام حشد من أعضاء هيئة التدريس والطلاب في تلك الجامعة العريقة، أطل الجنرال الأميركي جون أبي زيد ليلقي محاضرته الغريبة العجيبة، التي أعلن فيها على الملأ ان العالم سيواجه حرباً عالمية ثالثة، بسبب تزايد التشدد الإسلامي! وقبل القائد العسكري الجنرال ابي زيد الذي تولى منصب قيادة الحملة العسكرية الاميركية في الشرق الأوسط، كان رئيسه السيد بوش قال ان المتطرفين والإرهابيين الإسلاميين يخططون لقيام امبراطورية تصل حدودها الى الأندلس. وأبي زيد هذا الذي أصبح متنبئاً، هو نفسه أبي زيد الذي كان يصدر الفرمانات من بغداد، ويتلقفها الإعلام الغربي مبرزاً الرجل كبطل مغوار، يبشر بالحرية والديموقراطية ونصر أميركي وشيك، لكن الوعد بالنصر ذهب أدراج الرياح، وتحطم على صخرة إرادة العراقيين الصلبة، الذين ابوا ان يخضعوا لإرادة المحتل، فالانعتاق من قبضة ديكتاتور لا يعني عندهم السقوط في هاوية المستعمر! وأبي زيد وهو الخبير العسكري المخضرم الذي له باع طويلة في إدارة الحروب، وعلى دراية علمية بالأوضاع الجيواستراتيجية والتكتيكية والديموغرافية والجيوبوليتيكية... الخ، يعلم ان الحرب العالمية الثالثة بالفعل بدأت، وانتهت بنهاية حقبة الحرب الباردة، وما يعيشه العالم اليوم ما هو إلا توابع لزلزال تلك الحرب. فالحرب العالمية الثانية سجل التاريخ نهايتها بسلاح نووي أميركي، بعد نجاح تفجيره في تموز يوليو 1945، ولم تفوت بلاد الجنرال صاحب التنبؤات أو التخبطات المنادية بتحريم السلاح النووي فرصتها بعد معركة انتحاريي بيرل هاربور، فبعد شهر واحد من نجاح التجربة قصفت هيروشيما وناغازاكي بقنابل العم سام الذرية، ولقي اكثر من 250 الف إنسان حتفهم، لتسجل أميركا اكبر مأساة كارثية عرفها بنو البشر، والآثار السوداوية لتلك القنابل الشريرة شاهد عيان حتى اليوم! هذا المشهد المخزي يعرفه الجنرال، لكنه تجاوزه عمداً، ويعرف كيف بدأ الصراع بين المعسكرين الشرقي الشيوعي والغربي الرأسمالي، بما أطلق عليه الحرب الباردة، التي استغرقت نحو نصف قرن، وتبارز المعسكران وقامت حروب وصراعات وثورات في ارجاء المعمورة، أدارها العملاقان الروسي والأميركي على اراضي دول العالم الثالث. دخلت أميركا الحرب الفيتنامية لتخرج منها منهكة بعد خسارتها الفادحة، وفقدها عشرات الآلاف من القتلى، وأضعاف أضعافهم من الجرحى، وكانت دخلتها من اجل إنهاك الدب الروسي، وبالقدر نفسه كانت أزمة الصواريخ الروسية على ارض كوبا في عقر دار أميركا بين القطبين، وكان الصراع فيها من اجل توازن القوى بين الدولتين الكبيرتين، احداهما شيوعية والأخرى رأسمالية، ولكل منهما مغامراتها لتحقيق احلامها التوسعية. والواقع يقول، والتاريخ يحدّث، ان كثيراً من الدول النامية او قل الضعيفة، كانت ضحية لهذا الصراع، ووطئتها اقدام الفيلة في صراعها من اجل السيطرة على العالم وخلق توازن القوى، فتعرضت معظم تلك الدول للتدخل السافر في شؤونها، فكانت العربدة الأميركية في لبنان والصومال وغيرهما، وكانت المغامرات الشيوعية تنتشر من كوبا بجوار العدو الأول أميركا، مروراً بأفريقيا والشرق الأوسط، وصولاً الى أفغانستان. وعلى ارض الدولة الأفغانية حدث ما كانت تتمناه الرأسمالية، وقعت الامبراطورية الروسية في الفخ، غزت أفغانستان لتنقض عليها الامبراطورية الأميركية بعصي عربية واسلامية، فانخرط في الدفاع عن ذلك البلد أكثر من 250 الف مجاهد من العرب والمسلمين، لتحرير ارض افغانستان السليبة من الشيوعية، التي تعتبر"الدين افيون الشعوب". لقد أتقن الأميركيون اللعبة ونفذوا السيناريو بذكاء، واستطاعوا بذلك ان يجعلوا كثيراً من العرب والمسلمين يصدقون الكذبة الكبرى، وسالت دماؤهم من اجل التحرير، ولم تسفك قطرة دم أميركية واحدة، وكانت بذلك بداية النهاية التي أوصلت الى النهاية المعروفة، وهي سقوط الامبراطورية الشيوعية، فانهار الاقتصاد، وتخلت عن اذرعها الممتدة في دول افريقيا وآسيا وأوروبا وغيرها. لقد كان الانهيار مدوياً وكبيراً، وجاء مصاحباً للانهيار الاقتصادي بسبب التمدد هنا وهناك، والهزيمة العسكرية القاسية في افغانستان، وسقط حائط برلين الذي كان رمز الفصل بين الشيوعية والرأسمالية، وتوحدت المانيا التي شنت على العالم الحرب الكونية الثانية، وتفكك الاتحاد السوفياتي السابق. بهذا انتهى ما أطلق عليه كثير من الخبراء والاستراتيجيين والمفكرين الحرب الكونية الثالثة، مع غياب شمس الحرب الباردة، ليبدأ النظام الدولي الجديد ذو القطب الواحد أميركا. إذاً، الحرب العالمية الثالثة كانت انطلقت شرارتها فعلاً في اوائل الخمسينات من القرن المنصرم، وانتهت فعلياً بتناثر الامبراطورية الروسية الى دويلات، وبقيت أميركا صاحبة الهيمنة توجّه احداث العالم من البيت الابيض، لكن بسياسة استعمارية جاهلة! وبعد ان حيدت الأطراف الأخرى غزت أميركا افغانستانوالعراق، فوقعت في الفخ، وارتكبت الخطأ الفاحش الذي ارتكبه الاتحاد السوفياتي السابق، ولم تتعظ من العبر ولم تستفد من الدروس عبر التاريخ، في انهيار الامبراطوريات، فها هي تغرق في العراق وتنادي طالبة النجدة، وقد يحل بها ما حل بالامبراطورية التي انهارت قبلها. ان أميركا تدير حروباً غير عادلة، بقوة معراة ضد قرارات الاممالمتحدة ومجلس الأمن والشرعية والقانون الدوليين، هذه المغامرات العسكرية غير المحسوبة دفع اليها المحافظون الجدد رئيسهم القصير النظر دفعاً، وهي معارك خاسرة بلا شك، وما هي في الحقيقة الا توابع زلزال الحرب الكونية الثالثة، التي انتهت بالسقوط التاريخي للإمبراطورية الروسية. الجنرال أبي زيد على رغم ما يفترض فيه من ذكاء الخلوصيين، اذ هو خليط أميركي - عربي، وما يتوقع من عمق تجربته العسكرية خلال 30 سنة، لم يفسر للناس أسباب فشله في ادارة المعارك هو ورئيسه بوش، والمخطط لها تشيني، ورئيسه المباشر رامسفيلد، الذي انصرف مسرعاً متجرعاً الهزيمة في ادارة المعارك. ولم يتعرض القائد الهمام للاضطراب المشين والفشل الذريع الذي تواجهه قواته في العراق، حتى بلغ من فقدوا حياتهم من العراقيين في شهر تشرين الاول أكتوبر وحده 3709، وهاجر 8 في المئة من سكانه طبقاً لتقرير الأممالمتحدة الأخير الصادر أواخر الأسبوع الماضي، ولم يقل كلمة واحدة عن كيف قررت الإدارة الأميركية الخبيرة بالشؤون العسكرية والدولية تقديم العراق على طبق من ذهب الى ايران، العدو اللدود على حد قول بوش اذا صدق! لكن المضحك المبكي، انه صب نار غضبه على التشدد الإسلامي، وجعله على حسب زعمه سبباً متوقعاً لحرب عالمية ثالثة، ولم يقل حرفاً واحداً عن التشدد الصهيوني والأميركي! ولن تستجيب الغربان لنقيق بعضها بعضاً، فقد صرح بلير شريك بوش في تحويل العالم الى غابة من الحروب والصراعات والدمار الاثنين الماضي، من كابول التي وصلها سراً، بأن"مصير الامن في العالم سيتقرر في صحراء أفغانستان". يا له من تخبط وشيء عجيب واستهزاء بعقول الناس! فهل هناك عاقل يستطيع ان يصدق ان هؤلاء الذين يتنقلون بين كهوف أفغانستان محاصرين جواً وبراً وبحراً، بإمكانهم امتلاك المطارات والموانئ والطائرات والبوارج والأسلحة الذكية والنووية، والهجوم على العالم هجمة رجل واحد لتعلن الحرب الثالثة! ان الشيء الذي لم يقله لنا الرجلان او لا يستطيعان قوله، ان بوش هو الخطر الحقيقي على العالم وأمنه واستقراره، هو وتشيني وبلير وأولمرت ورامسفيلد وأبي زيد ومحافظوهم الجدد المتشددون، لم يقولا ان الخطر الحقيقي على العالم يأتي ممن يمتلكون أسلحة الدمار، التي احتلوا بها افغانستانوالعراق، ليبقى المجتمع الأميركي يواجه ساعة الحقيقة المرة، ورئيسه في ساحة المعركة... وحسابه في ذمة التاريخ. وإذا كان العالم سيشهد حرباً رابعة تنذر بفنائه، فإن زعم ابي زيد الملطخة يداه بالدماء جانبه الصواب، فالمتشددون والمتطرفون والارهابيون يقف كل العالم ضدهم، والأسلحة التي سيديرون بها حرباً عالمية هي لحسن الحظ بعيدة المنال عنهم، لكنها في متناول الحلم الأميركي والصهيوني، الطامع في الثروة والاستراتيجية، وهذه الثروة التي احتل من اجل عيونها افغانستان لأهميتها الاستراتيجية، وإطلالتها على نفط بحر قزوين باحتياطيه البالغ حوالي 40 - 50 بليون برميل، وانقض على العراق باحتياطيه 115 بليون برميل، وضمن موقعاً استراتيجياً على المحيط النفطي الخليجي، ومن اجلها ايضاً اخذ يغازل ايران باحتياطيها النفطي حوالي 132 بليون برميل وسورية باحتياطيها 3.15 بليون برميل، متناسياً أعداء الأمس. اذاً، اذا كانت هناك حرب فناء جديدة فسيكون سببها النفط، ومسرحها الرئيسي الشرق الأوسط، الذي يختزن حوالي 70 في المئة من الاحتياطي النفطي العالمي، وهذا هو مربط الفرس، فالحروب والصراعات والأحداث ستكون من اجل ثروة النفط، والذين سيشعلونها هم المحافظون الجدد المتشددون الكارهون للأديان، المتعصبون لمذهبهم، المنادون بالسيطرة على خيرات العالم، خصوصاً خيرات العالم العربي، فالثروة تثير لعاب الطامعين، وما أشد طمع المحافظين الجدد وأشباههم! * مفكر سعودي - رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية