لم يكن غريباً، ولا من قبيل المصادفة، أن تتجاهل حملات التكفير العاصفة التي شنَّتها جماعات الإسلام السياسي على رواية"أولاد حارتنا"تعدد أبعاد الرواية، وتنوع مستوياتها الدلالية، وذلك كي يتم اختزال الرواية في البعد الديني وحده، فلم يكن البعد الاجتماعي أو السياسي يهم أحداً من المكفّراتية في العاصفة التي أجَّجوها، والتي كانت نوعاً من استعراض القوة السياسية، ونوعاً من ممارسة الضغط على الدولة التي تغلب ثقافة التقليد على أجهزتها الإيديولوجية. ولذلك نجحت حملات الضغط وتقرر عدم السماح بإعادة طبع الرواية في مصر، وذلك بعد أن وافق الرئيس مبارك على مطلب المثقفين بالسماح بطبع الرواية في القاهرة. وهو المطلب الذي لم يتحقق بسبب اشتداد العاصفة التي سرعان ما وجدت ما زادها عصفاً وتدميراً. ولكي تكتمل صورة العاصفة في تعدد مجالاتها، ومراكز هبوبها، يمكن التوقف على بعض أعداد مجلة"الاعتصام"التي أعاد السادات الترخيص بإصدارها، في سياق تحالفه مع جماعات الإسلام السياسي، شأنها في ذلك شأن"الدعوة"التي كان يصدرها عمر التلمسانى الزعيم الإخواني الشهير، في موازاة مجلة"الاعتصام"التي كانت تصف نفسها بأنها"مجلة إسلامية أسبوعية"وپ"لسان حال الجمعية الشرعية". وقد عاودت الصدور مع"الدعوة"، وسارت في موازاتها، حريصة على تنسيق الأفكار، وتوحيد المواقف، ووحدة الأصوات، وظلت تصدر بعد اغتيال السادات، وبعد وفاة عمر التلمساني الذي لم يعمر طويلاً بعد اغتيال السادات الذي كان له موقف شهير معه، وذلك في سياق التوتر بين جماعة الإخوان التي أعاد عمر التلمساني المرشد الثالث لها تنظيمها بعد خروج أعضاء الجماعة من السجن، أيام السادات، وتصالحها معه. وكان ذلك قبل وفاة السادات 1981 الذي لحق به عمر التلمساني سنة 1986. وقد نشرت"الاعتصام"في عددها التاسع من سنتها الخمسين الصادر في كانون الأول/ ديسمبر 1988 صورة نجيب محفوظ على صفحة الغلاف مع عنوان بارز هو"ودخل نجيب محفوظ إلى نوبل من الأبواب الخلفية التي دخل منها الإرهابي بيغين والمؤمن السادات". وهو عنوان لا يخلو من السخرية اللاذعة لكل من السادات الذي كان يطلق على نفسه اسم"الرئيس المؤمن"، ومعه الهجوم على نجيب محفوظ الذي اقترن اسمه باليهود وبيغن، وذلك في التأويل الذي رأى في نوبل جائزة صهيونية لمحفوظ بسبب تأييده عملية السلام مع إسرائيل التي قادها السادات. وتتضح دلالة هذا الاقتران في داخل العدد في ما كتبه أنور الجندي المحرر الأدبي للمجلة تحت عنوان كبير 19 يتّهم فيه نجيب محفوظ صراحة، ويدعو إلى محاكمته في كلمات تقول:"هذا الأديب المصري الفائز بجائزة نوبل يجب أن تطاوله يد العدالة وسيف القانون". وإلى يسار هذه الكلمات عناوين شارحة تقول بالبنط الأحمر العريض:"سكرتير اللجنة التي منحت نجيب الجائزة يصرح بأن قصة"أولاد حارتنا""موت الله"هي التي رجّحت كفة الفوز بالجائزة عن الأدب". وبعده عنوان آخر يقول:"حتى يربط محفوظ أولاد حارتنا برسالات السماء في تعريضه الواضح، فقد قسّم روايته إلى 114 فصلاً بقدر سور القرآن الكريم وعددها 114 سورة". وبالطبع كان معروفاً للقاصي والداني أن كل هذه الدعاوى نوع من الافتراء الذي لم يكن غريباً على كتابات أنور الجندي في سبعينات القرن الماضي، وذلك في سياق تحوله من النقيض إلى النقيض، فقد عُرف الرجل بكتابته في الستينات التي كانت تعريفاً وتمجيداً لأعلام الأدب المعاصر، وعلى رأسهم طه حسين والعقاد وأمثالهما، ولكن الرجل انقلب إلى النقيض مع انتهاء الزمن الناصري، والتحالف الذي منح السادات بمقتضاه لجماعة الإسلام السياسي حرية الحركة مع حرية إصدار المنابر الخاصة التي توصل أصواتهم وأفكارهم إلى الجمهور القارئ. وهنا انقلب أنور الجندي، ونسي كتاباته في الخمسينات والستينات، أو - قل - تاب عنها، وأصبح يكتب من منظور ما أصبح يُسمى"الصحوة الإسلامية". وانطلاقاً من هذا المنظور، كتب كتابه عن"طه حسين في ميزان الإسلام"سنة 1976، واستبدل بالإعجاب بطه حسين النفور منه، وكان ذلك في موازاة التحولات العديدة التي أخذتها أشكال الانقلاب على ثقافة التحرر الوطني من ناحية، وعلى تيارات الإنجاز الإبداعي والفكري للستينات من ناحية موازية. ولذلك كان من الطبيعي أن يبدأ أنور الجندي مقاله عن"أولاد حارتنا"بأن ترجمتها الإنكليزية حملت اسم"موت الإله". وهو كلام لا أساس له من الصحة. المقصود منه الربط المتعسف بين المعنى المتعسّف لتأويل الرواية وصيحة الفيلسوف الألماني نيتشه 1844-1900 الشهيرة عن"موت الإله"، وذلك في نوع من التخييل الذي يوهم القارئ بأن رواية نجيب محفوظ نتاج لحركة الخروج على الدين الغربية، وامتداد للأفكار الملحدة التي لا بد من أن يحاربها المسلمون ويتصدَّوا لها. وينظر أنور الجندى إلى الرواية من خلال منطلقات أربعة: أهمها اثنان: أولها: ما يسميه منطلق الفكر الحر الذي صنعه الملاحدة تلاميذ مدرسة التنوير، وكُتَّاب الموسوعة، وبناة الفكر الماسوني الذين لم تتوقف محاولاتهم في هدم الأديان كلها، وعلى رأسها الإسلام الذي أصبح موضع كراهية متزايدة، خصوصاً مع انبثاق نور الصحوة الإسلامية. وثانيها: منطلق جماعة التجديد من العرب المارقين المعادين للإسلام، وفي مقدمها نظرية"الشك الفلسفي"التي حمل لواءها طه حسين، حين فتح الباب أمام شباب الجامعات إلى نقد القرآن الكريم بوصفه كتاباً أدبياً، ودعا إلى أن ينظر إلى القرآن كما ينظر الغربيون إلى الكتب المقدسة بوصفها نصاً بشرياً، وما دعا إليه أيضاً سلامة موسى من أن الأديان القديمة قد عجزت عن العطاء، وأن دين البشرية هو القادر على أن يحقق للبشر سعادتهم. وقد احتضن كل من طه حسين وسلامة موسى مجموعة من الشباب الذين انحرفوا بعقولهم، وأضلّوها بالكفر الذي زرعه سلامة موسى في نجيب محفوظ وطه حسين وفي تلامذته الذين حملوا راية الكفر من بعده. ويعنى ذلك - فيما يرى أنور الجندي - أن"أولاد حارتنا"نتاج خلفية عريضة من الفكر المادي والوثني الذي نشر في مصر في ما بين الحربين العالميتين، من خلال الماسونية، والاشتراكية، والعلمانية. وهي الفترة التي تتابعت فيها كتب الكفر، ابتداء من"الشعر الجاهلي"لطه حسين إلى"الإسلام وأصول الحكم"لعلي عبدالرازق، إلى"القصص الفني في القرآن"لخلف الله، إلى"أولاد حارتنا"لتكون قمة هذا الاتجاه الذي يدعو إلى هدم الإسلام في النفوس وإحلال العلم محله. ولا حاجة بي لأن أكشف للقارئ عن فساد القياس في كلمات أنور الجندي، ومسارعته إلى اتّهام أعداء التعصب الديني بالكفر، وجعلهم تياراً ملحداً، فالوقائع تقول غير ذلك تماماً، فما كتبه طه حسين عن القرآن يشهد له بعقلانية نظرته الإسلامية لا كفرها، وإيمان سلامة موسى بالعلم لا يعني التخلي عن الأديان بالضرورة، وما كتبه علي عبدالرازق عن"الإسلام وأصول الحكم"إنما هو تأكيد أن نصوص الإسلام المقدسة لم تفرض على المسلمين شكلاً بعينه في الحكم، وما كتبه خلف الله عن القصص الفني في القرآن إنما هو استمرار لمنهج التفسير الأدبي للقرآن، بوصفه كتاب العربية الأكبر الذي يتميز إعجازه - فيما يتميز - ببلاغته، أو إعجازه البلاغي الأدبي. وبالطبع، يضيف أنور الجندي إلى ما ذكره من رأي ما يسنده من آراء المنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين في تكفير الرواية أمثال مصطفى عدنان وغيره، وذلك ليصل إلى تأكيد أن"أولاد حارتنا"فكر مضلل من الأدب المحرم شرعاً، وإساءة بالغة للمقدسات الدينية، وعبث بالقيم، وتلويث للعقل، ونشر للزيف والباطل، وأنها - إضافة إلى ذلك - تمثل حرية الهدم والتخريب والتدمير، وتسخر من الله عز وجل وأنبيائه، وتعد كفراً بواحاً، وتركز على مقولة ماركس"الدين أفيون الشعوب"، وهي - فوق ذلك - تسمي المسلمين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالجرابيع، وتصف السيدة مريم بأوصاف كريهة تردد ما يقوله اليهود ضد المسيح عليه السلام. هكذا تنتهي مقالة أنور الجندي التي نجد ما يشبهها وما يكرر منطقها في صحافة الإسلام السياسي التي أطلق السادات سراحها لتقضي على خصومه من ممثلي الفكر الليبرالي والقومي واليساري، وأهم من ذلك كله الناصري. وكانت الاتهامات بالكفر جاهزة في هذه الصحافة، سابقة التجهيز، تعتمد على قنابل جاهزة للتفجير الفوري ضد أب مفكر تراه هذه الصحافة مختلفاً أو مخالفاً أو معارضاً لاتجاهها، حريصاً على دعم الدولة المدنية ضد دعاوى الدولة الدينية التي أخذت ترفع شعاراتها منذ بدايات عهد"الرئيس المؤمن"الداعي إلى"أخلاق القرية". ولا غرابة - والأمر كذلك - في أن يكون تكفير"الاعتصام"لنجيب محفوظ، بسبب روايته التي كانت واحدة من أعماله التي أشارت إليها مبررات منحه الجائزة، هو جزء لا يتجزأ من تيار العداء للمفكرين المدنيين الذين اقترنت أفكارهم بالدفاع عن الدولة المدنية الحديثة التي تقوم على احترام كل الأديان والمعتقدات قيامها على الفصل بين السلطات والحرية التي لا معنى لها من دون حق الاختلاف والحق في التعبير. ولذلك هاجمت المجلة زكي نجيب محمود 1905-1993 الذي وصفته المجلة عدد حزيران / يونيو 1984 بأنه الفيلسوف الهرم الذي أفنى عمره داعية لثقافة الغرب وكارهاً للحياة في ظلال الإسلام، ووصفه مقال للدكتور مصطفي عبدالواحد بأنه"شيخ التغريب الذي أراد المرأة مبتذلة مهينة يتاجر بها، ابتداء من الإعلان بها عن السلعة، وانتهاء ببيع جسدها في سوق الرذيلة والآثام"، ووصفت المجلة أنيس منصور - في العدد نفسه - بأنه"صديق جداً لأحفاد يهوذا الإسخريوطي بفضل رئيسه ورئيس العيلة"، ولم تترك المجلة - في عدد أيلول سبتمبر من العام نفسه - طه حسين، فجعلته"من أهم القوى المناهضة للإسلام، وداعية الفكر الوثني الإباحي، وهادم القلاع الحامية للإسلام"، وعاودت المجلة الهجوم عليه - في عدد تشرين الثاني نوفمبر - كانون الأول ديسمبر - بأنه"هالة كاذبة، هادم للتراث الإسلامي، سارق للمستشرقين الذين صنعوه، وأن التاريخ لن ينسى له محاولته الفاضلة لإدخال مذهب الشك الفلسفي إلى الأدب العربي، وأنه يخالف حتى يعرف، ويضمر حقداً عميقاً ضد الإسلام والمسلمين". وبالطبع لا يمكن التذكير بما كتبه طه حسين عن الإسلام مرآة الإسلام، الفتنة الكبرى بأجزائها، فجر الإسلام، على هامش السيرة، فالهجوم على أمثال طه حسين يعتمد على الادعاء وتجاهل كل ما ينقض الهجوم، وهو المنطق نفسه المتبع في تكفير نجيب محفوظ وأمثاله في قائمة بالغة الطول، تشمل طه حسين ونجيب محفوظ وأنيس منصور ويوسف إدريس وصلاح عبدالصبور وكثيرين غيرهم.