الطريق الى بنت جبيل - 1 - طيورٌ كثيرةٌ في رأسي. قيودٌ كثيرةٌ بين قدميّ. تستطيع، مع ذلك، أيها الوقت، أن تغسل وجهك في مائي المضطرب. هيّا، لا تتردد. لن أتردد في نبش قلقي من مجرّاته، لكي أتسلّح وأهجم. لا أجوبة لديّ. لكن، ما تلك الأضراس التي تطحن عظامك، أيها الوقت؟ ما هذه الأقلام التي تتخذ من الجلد الآدمي رُقعاً تكتب عليها التاريخ؟ لماذا لا أريد أن أتّعظ حتى بأشلائي؟ لا أجوبة لديّ. في فمي بحارٌ، وليس لي أظافر. مع ذلك سأُغمغم: السماء كلها جيوشٌ، وليس في حقولها غير الألغام. - 2 - يكاد كل شخص في الطريق، أن يبدو كأنه نردٌ أحمر. - 3 - لا يزالٌ أفق الجنوب يلبس رداء الصيف. كانت أنحاؤه تحتضن البشر وتذروهم في حركة تقودها المصادفات. مصادفات لا يخترقها حتى ضوء اليقين. - 4 - الهواء يمنح شعره القصير لمقصات الشمس. - 5 - الأرض، بين عينيّ، غزالةٌ شاحبة. - 6 - ما الذي يتدحرج ويرجع القهقرى؟ لا الذروة ذروة. لا الهاوية هاوية. وأين أبحث عن عكاكيز تتوكأ عليها أيامي؟ - 7 - كلا، ليس لديّ وقتٌ أبدده في الكلام على الغيب. يكفي أن أنزل في النهار كأنه سائلٌ، وكأنني مادة صلبة. - 8 - سألت رفيقيّ في الطريق، فهيمة شرف الدين وغسان صفيّ الدين: - هل عليّ، إذاً، أن أعتقد كمثل غيري أن العروبة فرسٌ لها هيئة البُراق؟ ان البحر الأحمر عربةٌ يركبُها نبيٌّ قائدٌ، وتجرّها يد الله؟ ان الإنسان لا عمل له إلا أن يقشر بصل السماء؟ - 9 - ماضياً، كنت أقذف بوقتي في سلة تظل فارغة. حاضراً، أرميه في سلة تظل طافحة. ولا شيء مما مضى يتآخى مع أشيائي. وكنت قد حلمت، عبثاً، بفجر يتسع حقاً لشمسي. لكن، لا تزال الدقائق تلتف على جسدي، باردة، كمثل عباءة مليئة بالثقوب. وليس في سريري إلا لحاف اللغة. - 10 - بيوتٌ أُصغي إليها كأنها تغني. لكن، لا بشفاهها، ولا بأجنحتها. تُغني بأشلائها. - 11 - مرّ رجل ضائعٌ في الطريق الى بيته. - 12 - تذكرت ضياعي الآخر، تلك الليلة، عندما أخذت يدُ الليطاني تبلل ثياب عُشاق يسهرون مع الحرية، فيما كان المساء يمد لهم الأسرّة. كنتُ كمن يُسافر في نهر جوفيٍّ من الضوء. وكانت الأشجار من كل نوعٍ تتأبّط ذراعيّ. غير أن جسدي كان في أوج المعنى. - 13 - في الطريق، يتحوّل الحجر الى قلب، والقلب الى فضاء. كل شيء يرقد في رماده، إلا الجذر، وإلا جمل لا يأنف من أن يتدثر حتى بالهباء. وكل شيء يكاد أن يغيب إلا الذاكرة، تلك الشمس الأخرى التي يدور حولها فلك التاريخ. - 14 - تضع صور رأسها على خاصرة الشاطئ، وتمسح غبار قدميها بأهداب البحر. - 15 - لا أعرف ان كنت أسير في بنت جبيل، أم داخل لغتي. وأكاد أن أنفصل عن خطواتي. كأنني شُبهة في عين الواقع. الغبار كرسيٌّ، سريرٌ، كتاب. الغبار مسحوق دبابات وقنابل وصواريخ. الغبار يضحك ويبكي بفم واحد في لحظة واحدة. الزمن غبار سائح، هل القديم هو، وحده، الحديث؟ ولكل صخرة وجه امرأة. سلاماً، يا روح المادة. حقاً، يمكن الضوء أن يكون رجلاً أو امرأة. يمكن الوردة أن تتلقفكِ، أيتها النار، كما لو أنك ماؤها الطيب. - 16 - وطنٌ كمثل كُرة في يد الليل. - 17 - ثمّة عناقيد لهب، ومجازر عالقةٌ في الهواء. الجو زفيرٌ أسود. كأنما لا شيء يثق أنه حيٌّ إلا الموت. ألكِ رأيٌ، أيتها الأنقاض، أيتها الشظايا؟ أتشرد فيكِ - لا أرى إلا أسلحة تكتب الحياة، ولا تقرأ إلا العدم. هل عليّ، إذاً، لكي أبدوَ مسالماً، ضد هذيان الليطاني ونباتاته الكريمة، أن أصلّي لصاروخ يشق أحشاءه؟ هل عليّ أن أكون لطيفاً، وأن ألعب الغولف مع جندي قاتل؟ هل عليّ أن أقول: الحربُ ملحٌ في اللغة العبرية، والملح حربٌ في اللغة العربية؟ أيّها الصفصاف الخجول، واصل بكاءك وعلّمني: الأرض كلها أسيجة وحراس - هل أهرب، هل أواجه، هل أستسلم للقتل؟ ليس لي رايةٌ لكي أسير وراءها، أو لكي أرفرف باسمها فوق رؤوس المارة. حياتي قبرٌ محفورٌ في الهواء. والشمس، هذه اللحظة، تشبه بقرة ليست حلوباً. هل الوطن، هو كذلك، قبرٌ محفورٌ في الهواء؟ - 18 - نِمالٌ ألكترونية تعشش في الجهات كلها. إن شئت أن تقتلني، أعطني فرصة أخيرة لكي أرقد قليلاً في أحضان قصيدة لم تكتمل. - 19 - لم يترك بعضهم كلمة جميلة إلا وصف بها حظي. هكذا يسهل عليّ الآن أن أجمع الكلمات القبيحة كلها، وأقذف بها في وجهه. حظّي؟ قدمٌ في القيد، وقدمٌ تقطرُ دماً.