القمرُ، هذه اللّيلة، يُشعل شموسه بين قبور الأطفال، فيما تتقدّم ريحٌ غامضةٌ على كَتفي وردةٍ تكاد أن تذبل. هل يحقّ لي أن أمرَّ تحت شُبّاكِ البيت الذي وُلدت فيه؟ ولمن أوجّه هذا السّؤال، يا هذه الرّيح؟ تلك اللّيلة، في نيويورك، كنتُ، من أيّة نافذةٍ نظرت، ومن أيّة زاوية، أرَى الى القدس، كأنني أراها تحت سماءٍ لا وطن لها غير كرسيّ اللّه. وخُيّلَ إليّ: كلّ شيءٍ يريد أن يظهرَ في صورةٍ مختلفة، - فهل ترون مثلي كيف يتحوّل البحر الأحمر الى هَرَمٍ تنامُ فيه اللّغة؟ وكيف يَنْقلب النّاس: لا يموتون أو لا يعيشون مِن أجل راحة الأرض، بل من أجل راحة اللّغة؟ تلك اللّيلة، أَحسستُ أنّ شمسيَ العربيّة عَرْجاءُ خَرْساء مجدوعة الأَنْف ولم تتوقّف زيزانُ الحضارة عن عَزْفِها القاتل في أذنيّ. وكانت الحداثة خاتماً يَتَلألأ في الأرض الواسعة التي تَتحول الى إِصْبَعٍ الكترونيّةٍ في يد نيويورك. ورأيتُ غرباناً تزْرقُ على خُوَذِ القادة من أيّةِ سُلالةٍ انحدروا، فيما يتَوسَّدُ كلٌّ منهم ثَدْيَ مرضعةٍ سماويّةٍ، وفيما تغسل الصّواريخ أقدامَها بماء الملائكة. أنتَ، يا مَن تُدير وجهكَ نحو الشّرق، هل تظنّ حَقّاً أنّ الشّمسَ ستطلعُ غداً؟ أوه، يكاد علمي أن يقتلني! لكن، كيف حَدثَ ان صار الوقتُ يشنق المكان متى شاءَ وكيفما شاء؟ ربّما، لم يعد هذا العالَمُ في حاجةٍ الى البشر كيف تريدين مِنّي، إذن، أيّتها الأرض، أن أفهمَ دورانَكِ حول الشّمس؟ واَنْطمِسي، أيتّها الحواسّ، لا أقول ذلك انتصاراً لكِ، أقوله لكي أُعزّي الأبجديّة وَأُخْبِرُكِ: وُعِدْتُ بالجحيم، كما يُؤكّد أعداؤكِ المؤمنون، لهذا، يَخْطر لي أن ألمسَ الجنّةَ لكن بغير أصابعي، وأتحدّثَ إليها لكن بصوتٍ غير صوتي - في اللّيل، قُرْبَ جدارٍ عالٍ، فيما يعبر أمامي حصانٌ رومانيّ واضِعاً على رأسهِ خُوذةَ فارسٍ أَحبَّه. وكانتِ القدس قد جَدلَتْ شعرَها أَمراساً لِجَرّ التّاريخ، فيما كان المارقون يُهلّلون: للجيوش آلِهةٌ ليست للحقولِ وليست للينابيع. وكنتُ رأيت القدس، وسُحِرْتُ بحجَرٍ يَتحوّل الى جبينٍ للكون، بجدارٍ يَصيرَ سُلّماً للفضاءات. لكن، هوذا أرَى الأرضَ كمثل الحِساء، وأرَى ملائكةً يسجنون الهواءَ، ويحاربون العشب. أُوه - ليس في حُبّ السّماء للأرضِ، غير القبور! في هجرتي، غَيّرتُ كثيراً من الطّرُقِ إلى ما ظننتُ أَنّه المُستقبل. غَيّرت عَصايَ والوردةَ التي وضعَها الحبّ، يوماً، تحت وسادتي. غَيّرتُ لهجاتٍ كثيرةً في لغة النّبض - تلك التي تتحدّث بها هذه الآلة الصّامتة التي سمّيناها القلب. غَيّرت سمائيَ نفسها، وخطواتيَ نفسَها، غير أَنّني كنت أرَى غالِباً أَنّ الهاوية أمامي، وأنّها هي التي تنتظرني. حَقّاً، يكاد علمي ان يقتلني! وخيرٌ لي أن أنتميَ الى كلّ ما لا أراه. هديرٌ يهاجم الغيوم، والأسلاكُ الشائكة تغوص أكثرَ فأكثرَ في كبد الأرض، - هل ينبغي عليَّ، إذن، أَنْ أمتطيَ مدفعاً لكي أصلَ الى نفسي؟ لم أكن أصدّق أنَّ السّماءَ كُوِّرت لكي تغتصبَ الأرض، ولم أعد أعرف مِن أيّ غصنٍ تجيء هذه الثمرة، أو من أيّ فَمٍ ينزل في أذنيّ صوتُ السّماء؟ وماذا أقول عن خوذةٍ تؤكّد أَنّها وردةٌ وعن بندقيّةٍ تبشّر أنّها شجرةٌ من أشجار الجنّة؟ وكيف أشرح لماء التاريخ هذا الإنسانَ - هذا الطّينَ الإلهيَّ الذي يَحدُّه الرّمْلَ والتوهُّم؟ وما دمتَ، أيّها الأفق، لا تعرفُ أن تجيبَ عن أسئلتي البسيطة، فسوف أُعطيكَ اسْماً آخر. وأعرفُ أَنّ هذا أمرٌ لا يهمّ غيرَ المرأة - تلك التي تدخل الآنَ في سريري. هكذا، أَنتظرُ أن ينشقّ القمرُ بعد هنيهةٍ في جوف امرأةٍ عاشقة. هكذا، أعرفُ أَنّنا، وفقاً لِلتّقاويم، وَتِبْعاً للحظّ في الصَّحْو أو في المطر، ووفقاً لِلرّيح، سنخرج لملاقاةِ المستقبلِ في ثيابٍ سَأُرْجئ وَصْفها وإن كنتُ أَسْتَشْرِف لَوْنَها. وماذا، إذن؟ تُرانيَ لم أُولَدْ بعد؟ تَراها حياتيَ ليست إلاّ تمرّناً على الولادة؟ نيويورك، أواخر أيار 2001