عن روايته الجديدة"لعب حيّ البياض"الصادرة عن دار الآداب 2005، يقول حسن داوود:"... الرواية اذن... سيرة حياة أمي، مروية بلسانها، هي التي كانت تعتقد أنها لا تملك شيئاً مهمّاً تقوله". حرضني التعريف بالرواية فأقبلت عليها، تسبقني الى القراءة رغبة في الاصغاء الى الأم تروي ذاكرتها بحسب ما اختزنتها ذاكرة الابن/ الكاتب، أفسح فيها على ما يزعم، للخيال مطرحاً، من دونه لفقد النص نسبه الروائي والتحق بنسب كتابة أخرى. مضيت اذاً الى حديث الأم في الرواية/ السيرة، وفي ذهني تصور مسبق يفترض كشفاً مهماً ومضيئاً، أضيفه الى ما قرأته عن ذاكرة الأمومة في الروايات والسير وهي كثيرة، على ما فيها من تكرار وتقليد. ولطالما استفزت فيّ روايات الأمومة وسيرها مطارح الانفعال، فمحضتها دوماً اهتماماً بالغاً وأوليتها قراءة خاصة، تُعلي سؤال الأمومة وتقدّمه على كثير من أسئلتي العالقة. فمنذ أن قرأت"أمّ"غوركي، ثم عن أمهات أخريات، حدثت عنهن نصوص روائية من الغرب والشرق، حيث ترتسم للأمومة صورة كونية واحدة، تتجاوز حدود الجغرافية، وقد حاصرها تاريخ الجغرافية العربية بإجلال مشروط بعسف أشد. مذّاك لبثت اصطدم بالصورة عينها، ظلت صورة طائعة، تلتزم اطارها، لا تحيد خارجه قيد أنملة، سيان كبر هذا الاطار أم صغر، وفي كتابات النساء أو الرجال على السواء. في حديث الأمومة/ الصورة هذا جانب الروائيون والروائيات أي خوض في الوجوه المتعددة لذات المرأة/ الأم، أبقوا لها وجهاً واحداً أحداً، تشكلت منه الصورة النمطية، دامت ثابتة في الجوهر، متغيرة ومتحولة في تفاصيل جانبية لا تضيف، في ما تستبطنه في الواقع أو في التخييل والافتراض، جديداً مختلفاً ينزاح عن أعرافها ويمكّنُ هذه الصورة من حركية حيّة تتجسد في صراع يخالف مألوف الصراعات المباحة والمعلنة. على هذا النحو، سيجت الأمومة، في الكتابة وفي الحياة، بالجدار السائد ذاته من المحرمات، لكأن المرأة/ الأم كائن خُلق وسويّ من أجل هذه المهمة وحسب، لا تدنسه رغبات الأنا، يقهرها بإكراه طوعي، لتذوب وتمحي في أنوات الأبناء، ترضعهم الأم حليبها وعمرها، ومن غير ذلك لا معنى أو قيمة لكينونتها. وقلما شذت الروايات والسير العربية عن هذه الصورة، أو افتتنت باستنباش الداخل المحجوب، تهب في أطوائه زوابع الرغبات البشرية المغلولة، تسكتها الأمومة استهابة وإجلالاً لصورتها، أو خوفاً من أبالسة الذات الأمّارة بالذنب. وإن كان الإنصاف يلزمنا هنا، بالاشارة الى قلة من الروائيين والروائيات، خرقت نصوصهم خطوط التماس المحظورة في الكتابة عن الأمومة، حدثوا فيها عن تجارب مارقة لأمهات ضالات، عففن عن ثواب الصورة السجانة، لكن الأحاديث الجسورة لهؤلاء دامت تنذر بنهايات ومصائر محتومة تذهب بالعاصيات إما الى الاستغفار والتوبة واما الى الموت أو ما يشاكله من حياة لا تشبه الحياة. في هذا المعنى لبث التخويف المموه بالجرأة، أسلوب الكتابة عند الرجال والنساء من غير استثناء، فيما عتم بالكامل على تجارب عصيان فردية ناجية، غيبت عن الكتابة، غياب الكتابة السائدة والمتواطئة عن تجارب استثنائية تحدث في الواقع، وتنقض فعلاً مألوف الصور النمطية الشائعة. وعلى رغم تزايد عدد الأمهات الناجيات، حافظ حديث الأمومة عموماً على نبرته الزاجرة لأي اجتراء أو عصيان يحرج الصورة ويخدش طهرانيتها، فبقينا نقرأ عن أمهات الصور يسكن صورهن قسراً أو طوعاً، يجعلنها توابيتهن، مقابل وعود مرجئة تثيبهن بعد الموت بمقام في جنان الخلد، وفي الحياة بتحايا اكبار واجلال واعتراف بالفضل، تمجد اعطياتهن التي هي أعمارهن. تحايا تحدث عن أمكنة الأمومة المشرعة من غير شروط في كل ظرف وحين، تتسع وترحب، تهب وتسخو، ترحم وترأف وتغفر بلا حدود في البر كما في العقوق، أمكنة هي القلوب والضلوع أحياناً وفي أحيان أخرى هي التراب والأرض والهوية، يعظُم في العين جودها وبذلها بمقدار ما نعق بها ونجحدها الفضل. بقينا نقرأ عن ذاكرة الأمومة المكتوبة، مروية بلسانها أو بلسان الغائب، ما أدركته منها، أو شاءته لها ذاكرة الكتاب والكاتبات، ينسبون لأمهاتهم أو للأمومة عموماً أفعالاً وصوراً. أحاديث ومرويات، في سير وروايات، ليس بينها ما يخطف الذهن ويروح به الى السؤال عما يدور في قيعان الذات المقنّعة بالصورة، حيث تتقعر الأنا الموءودة. مكفوفة النطق بلجام من اسمنت الصمت أو الجهل أو العجز أو الخوف، اسمنت لن يذيبه ربما الا كلام يشعل لهب الكلام وينطقه بوقائع مكتومة تُقصر عن مجاراتها أخيلة الكتّاب، حتى في أقصى حالات جنوحهم الى التخييل، الذي هو - وفق التعريف المتفق عليه - بديل افتراضي يوهم بواقع مشتهى وغير متحقق، بموازاته ينكشف وجه الواقع الحقيقي، تسقط عنه الأقنعة وتتعرى الصورة/ النمط. فهل في رواية حسن داوود"لعب حي البياض"ما يشير الى مثل هذا التخييل أو يوهم به؟ وهل كشفت سيرة الأم التي هي"من انشائها ومروية بلسانها"عن شيء مُهّمٍ، بخلاف ما كانت تعتقده هذه الأم عن سيرتها، على ما يقوله داوود في تعريفه بالرواية؟ هذا ناهيك بسؤال اللغة والإخبار لا الخبر، أو في حدّ أدنى. تلازم مسارهما في الاقناع والامتاع والاستدراج الى عالم روائي. نروح اليه من غير تعب ولا مشقة! ولئن كانت الروايات والسير المكتوبة عن الأمهات، لم تجاوز في السواد الأعظم منها تحايا التمجيد والتبجيل للصورة الجليلة، من دون أن تعنى بالتوغل في مطارح العتمة وترفع الستر عن وجه آخر للأمومة، يسقط عرف الصورة المستبدة، وجه لا يعرف عنه الا المبدع الذي ينكشف الغطاء له وحده دون سواه، وهذا لا يعني بالطبع ما ادّعاه لنفسه بعض الروائيين والروائيات، زعموا أنهم انطقوا أمهاتهم بتجارب حية وواقعية ظلت على جسارتها قاصرة عن استيفاء شروط الرواية أو السيرة، حيث البون شاسع بين هذر المشافهة والكتابة، أو بين الارتجال والابداع. فهل في الرواية/ السيرة ما يتجاوز التحية؟ جميل أن نحيي الأمهات بتخليدهن في كتب نكتبها عنهن أو نهديهن اياها - أسوة بكبار الكتّاب - وأن نرسم لهن في ما نكتب وجوه الصبر والمعاناة والرأفة والتفاني والامحاء والتضحية ونكران الذات وكل كل مفعولات الصورة ومشتقاتها، وجميل أيضاً أن نرثيهن باستحضار أمكنتهن واستذكار أفعالهن في تلك الأمكنة التي عبرنها صغيرات في ديار الأهل، خبرن فيها أسئلتهن الأولى، ألعابهن الأولى وذاكرتهن الأولى، حفظن منها ما حملنه الى منازل الأزواج، أذاقتهن مخاضات مباهج قليلة ومرارات كثيرة، على ما أقرأتنا اياه"لعب حي البياض"، حاصرها خطاب التحية وضيَّق فسحة القول فيها، فلم نقع في ما روته الأم، على ما يزيل عتمة أو يسقط عرفاً أو يبدع اختلافاً، يزحزح الصورة ولو ببعض قليل، مما ييسر للنص مقاربة، تضعه في مصاف تحية داوود لشيخوخة الجد في"أيام زائدة"، أو لذاكرة الخبز في"سنة الأتوماتيك". فضلاً عن حصار التخييل الملجوم، تولى في الرواية دوراً حذراً أو ربما خجولاً، فنأى عن أي الماح محرج ينطق النص بغير الملفوظ المكرور الذي ألفناه على ألسنة أمهات الصور، ليظل الخيال بذلك مقصياً على أطراف الهامش المباح فقط، ملتزماً حرمة الصورة داخل الاطار، لم تغادره صبحية/ الأم حتى في أشد حالاتها قهراً وعذاباً واحتجاجاً. وان لم يفتنا هنا التنويه بسبق داوود. نعتقد، ما لم تخنا الذاكرة، انه أول روائي عربي رجل يحيي سيرة الأم في نص يقتطعه لها بالكامل. لكننا اذ نلجم الخيال ونكتفي بالتحية، انما نكون بذلك نفسخ واقعاً أخرس نبقيه أبكم، ونستعيد في كتابته صورنا نحن من خلال صور الأمهات، وأمكنتنا الرحبة لا محابسهن الضيقة، وذاكرتنا نحن لا ذاكرتهن، ننعش فيها ما نود رؤيته منا على خلفية ما يظل محتجباً عنا منهن، نروح اليهن رواح الضعيف الى الأضعف منه، لا يملك منّا سوى وهم قوة ولا نملك له الا الامعان في استضعافه، حتى لا نُجلُّ منه، في الحياة أو في الموت، غير الضعف، نستنزفه ونغتذيه ليصلب عودنا ونصير ما نصير اليه، ونسهو عن تواطؤ مزمن، أو ربما هي غفلة حجبت عنا وجوهاً أخرى لأمهاتنا، لم نعرفها أو ما كنا نريد أن نعرفها. من غير هذا السهو أو الغفلة، فقط، يمكن الابداع أن ينطق الحقيقة ويعريها في الروايات والسير وفي كل أجناس الكتابة الأخرى. هكذا الخيال يمتشق ابداعه ليشير به الى الواقع سيان بالتصريح أو التعريض، بالمجاز أو بالحقيقة، فالتحايا السخية مهما اشتد سخاؤها لا تشفي الموتى ولا المرضى ولا العجزة، ولا هي أيضاً تشفينا من رواسب زمن متصخر فاته الزمن، حيث لم يعد يجدي الأمهات استحضار صور نركنها لهن على رفوف الذاكرة، نشيلها من الألبومات المنسية ذات لحظة انتباه قد تكون دمعة، حسرة أو رواية، ثم نستريح هانئين من دون أن ندرك اثماً ارتكبناه مرتين: مرة حين استثنينا صورة الأمومة عن ضرورات تمردنا وعصياننا وشعارات التغيير والثورة على الأنماط، زمن هتفنا ضد أنظمة القسر والاضطهاد والعسف والتمييز، أبقيناها لنا في سر أنفسنا، ملكية خاصة لا يذهب بها الموت نفسه، وجعلنا منها جناحاً لا نخفضه ذلاً لهن، بل نثقله بمزيد من رهانات لئيمة على مزيد من ضعفهن، نلوذ به كلما وهنّا أو خفنا أو أثقلتنا الخيبات. ومرة ثانية حين أعدنا كتابة الصورة بشروط الصورة عينها وبخطابها عينه، من غير تخييل يكشف أو يلمح الى واقع بديل ومشتهى يُخرج الصورة من اطارها، يحررها من محبسها، ويعيد اليها الوجه او الوجوه المكفوفة عنها، لنخرج نحن أيضاً من أسر ذاكرتنا المتواطئة، وننقذ أنفسنا من ازدواجية شعارات العلن والسر، ونعرف حينها ما فاتتنا معرفته عن أمهات الصور. فوحدها المعرفة الناطقة العليمة تخبر"أشياء مهمة"هي الجديرة حقاً بالكتابة والقراءة، والا لانتفى مسوغ فعلهما، وتحول الى مجرد ترفٍ فائض لا تحتاجه مجتمعاتنا البائسة، لا تزال مكبلة بأعراف الصورة، نتواطأ في تكريس بكمها وعتمتها، فتكرس بدورها تصخرنا وبلادة نطقنا، أليست هي، من ينشئنا ويعلمنا أبجدية الذاكرة والعيش وطرائق الفكر الأولى؟ أليست هي الضحية الأولى لمجتمع يربى في كنف الأمهات/ الضحايا، يحيي أضحياتهن في ما ينتجه مبدعوه، ما داموا يزعمون لها قدسية ملائكية ملزمة تحجب عن الأمومة حقها البشري في أي عيش بشري خارج الزامات الصورة؟ معرفة عليمة وان ظلت ناقصة في رواية داوود، لم تكشف ما كشفته بعض نصوصه السابقة، ولم تنطق بشرطها الفني والجمالي كما يجدر بالنص الخلاّق، تلتحم فيه بنسيج اللغة التي تقال بها أو تنقل عبرها، حتى يستحيل الفصل بينهما. حيث تعثر قارئ الرواية مرة بتراكيب ترهقها أفعال الكينونة احتشدت في الجملة الواحدة ثم في التي تتلوها وتتلوها... مما لا تحتمله أو تطيقه الجمل الرشيقة، تصير وعراً محروثاً بصيغ زمنية تورط المعنى تثقله وتربك القراءة وتفسد كذلك المتعة. ومرة أخرى ببطء تعبيري ورط وأربك وأفسد هو الآخر انسيابية الأداء المشهدي للصور اللفظية لتصير اللقطات التعبيرية مشاهد ثقيلة ومملة نستعجل مُضيَّها كلما تثاقلت من دون أن تضيف بعداً جديداً يبئِّر حساً أو انفعالاً أو وصفاً أو سرداً. تتباطأ فقط ولا تخلّف فينا مثل ذاك الخدر اللذيذ الذي تبتعثه اللقطات التعبيرية الفذّة، تقرئنا ما وراء الصور اللفظية وتشرّع لنا من خلالها شبابيك التأمل والمتعة، بمثل ما فعلت نصوص مبدعة لروائيين جعلوا للبطء خفة كخفة الهواء، لا تثقلها أو تكدرها عوائق التغلغل والعبور الى أدق التفاصيل الماحاً وأكثرها خفاءً. كلام أخير نختتم به قراءتنا هذه: ما لم نعف عن أحاديث أمهات الصور، ونسرج أخيلتنا لنبلغ فضاءات قول ابداعي لم تقله بعد مرويات الأمومة، لن تبلغ هذه المرويات بأقلام النساء أو الرجال، من دون تمييز، شواهقها الابداعية أبداً، وسنظل نكتب أوهام ذاكرة فنية، بوهم ترف ابداعي، يروح الى هموم الهامش ويلغي المتن، ترف لا نجادل مشروعيته في الكتابة عن هوامش الحياة لا الحياة نفسها، أو هوامش الأمومة لا الأمومة نفسها، شرط ألا تغيب عنهما الحياة أو الأمومة.