في"حكايتي شرح يطول"كتاب حنان الشيخ الجديد الصادر عن دار الآداب - 2004، نقرأ اعترافات امرأة سبعينية تتخفّف بالكلام من أعباء ذاكرة مثقلة. قبل ان يدهمها المرض القاتل وتموت مبرأة من أسرارها، تحكي لابنتها حنان الشيخ سيرة حياتها الخالية من عيش حميمي مشترك بينهما، تُقرّ بعقوقها وارتكاباتها، وتسفح بما يشبه التوبة كل ذنوبها، عساها تحظى بغفران الإبنة المهجورة و"تتوقف عن لوم نفسها"ص 379. استرجاعات الأم المتقطعة كانت تستهلها دوماً بالعبارة اللماحة ذاتها:"حكايتي شرح يطول، لوما جرادة ما علق عصفور"، لكأنها تُلمح الى فخ سقطت في شباكه فالتهم عمرها وحدد مصيرها. فخ تختزله تلك العبارة الدارجة، التي تكاد لشدة سوقيتها تلامس عامية التعبير الشعبيّ، ألفنا سماعها على ألسنة أمهات مقهورات أميات أحياناً كما في حال الأم، صرفنَ حياتهن عاجزات عن مواجهة أقدارهن يدمنّها وينصعن اليها، حتى إذا ما بوغتن بسؤال يستدرج بوحاً حميمياً يتسترن عليه أو يتعرجن من الخوض في تفاصيله، اختصرن القول بالتلميح البليغ تملصاً، ليصرفن السائل السائلة على الأرجح عن المضي في أسئلة ملعونة تثير الشجون وتقلق سبات الكلام، أو ربما توسلن في العبارة الغاوية تحريضاً موارباً لفضول يستبد ويصر على سماع الحكاية كلها، خلالها يراق موروث القهر المزمن في سرد مستفيض. الحكاية التي روتها الأم كاملة بالتفصيل الممل أحياناً، استجابة لإصرار الإبنة حنان المشفقة، إما على ذاكرة الأمومة من الضياع الذي يصحب موت الأمهات لما يكتمن أسرارهن، تُدفن بموتهن، وتفنى بفنائهن لتبقى صورهن المعلقة على جدار البيت، العالقة بجدران الذاكرة، بيضاء، بكماء ومترعة بحكايات خائفة، أو الطامعة ربما برتق ذاكرتها تروم شفاءها بانتشالها من ذاك الصدع القديم الناجم عن حرمان طفولتها وجزء من يفاعتها من حضن الأم اللاهية، اللاهثة وراء عشق محرّم آثرته وضحّت في سبيله بأمومتها، علّ الاعتراف يشفع بالأم العقوقة ويمسح عن حنان ضغينة التخلّي والهجران. بهذا المعنى تبدو حكاية كاملة سيرة ذاتية. وفي وجه من وجوهها تشبه السير الذاتية فعل التطهّر، عبرها يسترجع الراوي أو الكاتب ماضياً، يستنبشه خبيئة الذات يعرّيها ليتعرف على وعي لم يتحصل له زمن أفعاله وارتكاباته، تصير السيرة مرآة الذات يرى اليها صاحبها مسقطاً عنها كل الأقنعة ليسائلها ويستصدر لها حكماً بالبراءة يُحلّه مطهر الذات. في الحكاية/ السيرة التي تشذ عن حكايات الأمهات المكتوبة بأقلام نسائية على وجه الخصوص تروي كاملة الأميّة سيرتها شفاهة، تعترف عن نفسها لنفسها ولابنتها حنان في آن واحد، وتتولى عنها الإبنة كتابة السيرة التي أقبلنا على قراءتها، علّها تتيح لنا أفقاً معرفياً غير مسبوق"يجاوز الفرد، لكن بما يبقى في دائرة الفرد... فقراءة السير الذاتية تعطفنا على غيرنا بما يسهم في تحرّرنا"على ما يقوله جابر عصفور، أو يسمح بإنطاق لا مقولٍ تتضاءل رقعته بقدر ما يتسع هامش السير الذاتية وتنتشر، فيها نفصح صراحة ومن غير تحرج عما نلمح اليه الماحاً في الروايات المحتجبة بالتخييل، المتلطية بالمجاز لندفع عنّا ريبة الاجتراء على حرمة اللامنطوق، على نحو ما سبق لحنان الشيخ ان ألمحت اليه في"حكاية زهرة"، روايتها الصادرة في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، حيث أسقطت القناع عن صورة الأمومة من خلال شخصية الأم المتورطة في زواج قسري مُبكر، تقع في شباك الحبّ فتخون زوجها ولا تتورع عن اصطحاب صغيرتها الى خلوات العشق المحرّم. على قاعدة هذين الإصدارين للشيخ"حكاية زهرة"و"حكايتي شرح يطول"يتعيّن الفارق بين فن الرواية وفن السيرة الذاتية، تنهل الأولى من معين الثانية بما لا يتعارض مع شرط التعريض من دون التصريح، بينهما وقع الالتباس الذي اقحمنا في الريبة، إذ نُسبت"حكايتي شرح يطول"الى الرواية تجاوزاً بحسب ما أشارت اليه الصفحة الثالثة من كتاب الشيخ الجديد. والحق ان اغتراف الكاتبات من سير الأمهات أو نسخهن لهذه السير نسخاً أميناً، أياً تكن دوافعهن الى الكتابة، هو ما يقيم الحد بين واقع مطابق وآخر افتراضي، مشتهى، وغير متحقق. فمقاربة الحياة، بمعيار السير، يفوق في واقعيته وصدقيته مقاربتها في الروايات، لذا تبقى السير أوفر حظاً في الكشف عن مسكوت عنه، شرط أن تلتزم ما يفترض بها مقاربته من عالم الواقع الذي هو عالمها بأمانة ودقة وإحاطة لا اجتزاء فيها ولا تعتيم أو تسطيح، ولا حيد عن خطابه وحقائقه ولغته، على نحو يتيح للخطاب المقموع أن يطفو لينطق وللحقائق أن تعرّى لتدين، وللغة أن تسفر عن وجهها، إن بعاميتها الدالة تكشف عن موروثها وتفضحه أو بفصيحها الذي يكفل للغةِ ابلاغ المراد منها ويُنجيها من الابتذال. ولا مراء ان كتابة النساء عن هذه السير لا تعني إلا أحد أمرين: إما التواطؤ في تكريس طهرانية الصورة الأمومية بتبجيلها إمعاناً في الامتثال والكتمان والموالاة، وإما الخروج عن طوعها والانعتاق من غلّ عرفها المستبد والملفق لهتك المستور بزحزحة الصورة المموهة بقداسة جبرية تحظى فيها المرأة/ الأم دون سائر صورها الأخرى باستحقاق يستدخلها في رحاب الأطهار والأخيار قربة لمشيئة السلطان صاحب المشيئة. هذا الخروج الذي تسعى اليه المرأة لاسترداد وجوهها الأخرى المنقطعة عن ذاتها من خلال كتابة جريئة تتعهدها بالأصالة أو بالإنابة على ما فعلت الشيخ، تقترف فيها المخاطرة وتجازف بالطاعة لتقول إن السائد باطل وإن الصراط المستقيم ضلال. هذا الخروج بالذات الى أي مدى تحقق في كتابة الشيخ؟ وهل أضاءت سيرة كاملة خلفية كاشفة للذات أو لأحداث منعطفات تاريخية لا نعرفها ولم نقرأ عنها في الكتب، على غرار ما يجدر بالسيرة أن تفعل، سيما وأن لها حدوداً مشتركة مع التاريخ الذي يعاصرها وينعكس في مرآتها انعكاسها في مرآته؟ ثم هل أضافت جديداً معرفياً على مستوى تكوين العمل الأدبي ومادته وتوافر لها التناغم المرجو بينهما، بما لم يتوافر في سير سابقة؟ ومن باب أول نسأل: هل نجحت كتابة سيرة كاملة، حاملاً ومحمولاً، في ملامسة وجدان القارئ وتحريك انفعالاته، لا من حيث التأثير الميلودرامي المكرور في الأفلام العربية القديمة التي أدمنتها كاملة وتماهت بها، فقلدت بطلاتها وعشقت أبطالها وصيرتها في مخيلتها بديلاً افتراضياً لواقع حالها البائس، المقيت، بل من حيث تصويرها لصراع حقيقيّ، بديهي ومقنع تعيشه المرأة عموماً وتخوضه الأم خصوصاً، حين يزاحم العشق أمومتها فتقهره أو يقهرها، أو لما تغالب ضعفها وخوفها فتتمرد أو تمتثل؟ لئن كنا لا نجادل في جرأة سيرة كاملة وخروجها عن السائد والمألوف من أخلاقيات المجتمع القمعي، يذهب بالجانحة الى الموت أو الجنون أو النبذ أو الدعارة أو الانتحار، وفق ما يفتي به زمن كاملة، بل حتى وفق ما أقرأتنا إياه سيراً وروايات لا تحصى. إلا أن هذا الخروج ظل أفقياً، سطحياً وشاذاً يُغفل أي حال صراعية ويتلطى بالجرأة ليداري نزوعه الى فضائحية منفرّة لسنا في صدد محاكمتها أخلاقياً. فمن عادة"البطلات"المقهورات الجموح والجنوح واستباحة الأعراف احتجاجاً. ما نحاكمه ونخالفه هو خروجها الأدبي عن شرط فني قصّرت عنه السيرة المكتوبة ولم تتكفل بإقناعنا ولا حملتنا على التصديق بأن كاملة التي لا تحسن فكّ الحرف وتكتب ذاكرتها بالرسوم لا بالكلمات قد يسعها مثلاً أن تعرف تصريف الأفعال كَنسِر، من فعل كسر، انكسر، ينكسر وتميز بين المجرد والمزيد ص 360 وبأن ذكاءها الفطري الحاد وتوقد حواسها لم يسعفاها في التمييز بين رائحة البطاطا المشوية ورائحة الحريق المنبعثة من صوف السجادة العجمية ص 314. الى ذلك تبدو اضاءات السيرة التي طال شرحها خافتة باهتة مثل أسلاك مهرّبة ومعلقة على خطوط اضاءة أصلية، تحمل في ثناياها ظلالاً مستعارة من نصوص سابقة وسباقة بادرت من قبل الى توظيف أفعال ومعتقدات وحوادث واقعية معينة بفنية كاشفة مقنعة في ما أبرزته وعرّته ودانته ضمن سياق سردي ذكي يحيط بالحدث/ الفعل الواقعة أسباباً ونتائج، نكتفي للدلالة عليها تمثيلاً، حصراً بما قاربته رواية علوية صبح"مريم الحكايا"من أمور التدين المحتجب خلف ستار الدين يتحول الى طقوس وممارسات جاهلية ينعدم فيها الرشاد والمعقولية. فالسور القرآنية المنقوعة بالماء تصفها الصديقة ف. علاجاً شافياً لكاملة هي قرين مشابه تبهت دلالته قياساً، لوصفات شخصية الطبيب في رواية صبح، يضمنها هو الآخر آيات من الذكر الحكيم يستعيض بها عن الدواء ليشفي مرضاه، والزواج القسري المبكر الذي لا يفرق عن فعل الاغتصاب تتعرض له يفاعة كاملة يوم تُزوج لزوج شقيقتها المتوفاة - اغتصاب ترويه كاملة باقتضاب أبكم لا يفصح سردياً عما أورثتها إياه بهيميته أو ما قد يتأصل فيها من نقمة أو ثأر أو أي شكل من أشكال الدفاع الضمني عن الذات سوى إنها امتنعت عن فراش زوجها لتعود بعد ذلك الى سابق عهدها عابثة، لاهية حتى عن أمومتها - مما يحيلنا تلقائياً الى اغتصاب مماثل في رواية صبح، ترويه أم مريم زمن تزوجها الشاطر حسن طفلة فأمات فيها أبدياً الرغبة في الآخر، رغبة أطفأتها بأمومة مضاعفة وفائضة، في إلماح دال يدعمه ويسوغه سرد يبيّن عن قهر الذات لما تسقط عنها جنسها وتنتمي الى جنس ثالث. مثل هذه الإضاءات وسواها لا يقتصر على الاغتصاب والزواج القسري المبكر، والتديّن المزعوم ونزوح الريف الى المدينة، بل يطاول قهر المرأة بمختلف أدوارها وصراع الأمومة لما تباغتها منازع الذات المكفوفة عن توقها "الرواية المستحيلة"لغادة السمان، أشرقت في سير سابقة "امرأة عند نقطة الصفر"لنوال السعداوي وروايات أقرأتنا ايهاماتها حقائق متوارية في وجودنا، نعيشها ولا ندركها، في حين بدت خافتة، باهتة في سيرة كاملة خلافاً لما نتوقعه من كتب السيرة التي يتسع فيها هامش القول والكشف بحكم التصاقها بالواقع، تشاكله وتنطقه بعيداً من الاجترار والاجتزاء والسطحية، إلا تهافتت السيرة وفقدت مسوغ كتابتها أو ظلت قاصرة عن تأدية وظيفتها فنياً ومعرفياً، خبراً وإخباراً. فهل يصح بعد ذلك أن ننسب إبداعاً لسيرة كاملة؟ في ظل هذا الإخفاق نقول، من باب الاحتمال وحسب، ربما وفّقت حنان الشيخ الى كتابة رواية جميلة لو أنها تسلمت حياة أمها ولم تكتب سيرتها، واكتفت بأن تغرف منها ما تغترفه الروايات عادة من حيوات البشر وحكاياتهم، لربما أمكنها إذ ذاك أن تدين وتنقض وتهدم ما شاءت في بنية روائية ناجحة، شيّقة وناضجة تحقق مسعاها في مقاربة المحظورات مسقطة عنها، الى هموم التاريخ والجغرافيا والفن السينمائي، هموماً وتفاصيل لم تضيء في سيرة الأم جديداً يتجاوز النوستالجيا ولم تشكّل خلفية كاشفة لخارج تتمارى فيه الذات التي تؤرشفه ويؤرشفها. فالسينما مثلاً علَّمت كاملة الحبّ، لكن لم تعلمها صراعاته، غابت عن حكايتها لا نقرأ فيها عدا التحايل لرؤية المحبوب بعد انقطاع ما يشي ولو عرضاً بتجاذبات الأم العاشقة بين تبعات أمومتها ورغباتها العشقية الفائرة، اسوة ببطلات السينما، هذا من دون أن نغفل شرطاً ينبغي توافره في رواية نفترضها للشيخ، ولا تفوتنا الإشارة اليه في السيرة الغارقة في رثاثة لغوية وركاكة تعبيرية لا تسوغهما حجّة مُدّع يتذرّع بأن خطاب كاملة الأمية لا يرقى بحكم البديهة الى خطاب الفصحاء أو يجاريهم في سلامة التعبير. فمثل هذه الذريعة باطل، ذلك أن من تعثّرت تراكيبها وفدحت أخطاؤها اللغوية - طغت على الجزء الغالب من السيرة مما لا يجدي معه تمثيل أو إحالة - لم تكن بطلة السيرة التي لا تحسن فكّ الحرف ولا الكتابة، بل هي الكاتبة نكلت باللغة واستهترت بأحكام بنائها تعبيراً ومضموناً، ابتذلت فصيحها وأعجمت عاميتها"الجنوبية"بعامية دخيلة، غافلة عن ثوابت لا تتهاون فيها الرواية أو السيرة على حدّ سواء، قد تغامران بتداخل أو تقاطع مفاهيم جنسيهما أدبياً وفنّياً، إلا أنهما لا تهادنان في شرط اللغة وحده يهبهما مثل اشراقها، جاذبيتها، رشاقتها وسلامتها بالطبع.