تعود معرفتي بجريدتنا هذه الى الستينات، أي انها اقدم من غالبية القراء، ولا اذكر"الحياة"إلا وأذكر معها زاوية"حول المدينة"التي أشرفت عليها في تلك الأيام السيدة جاكلين نحاس، وكانت ارمنية لبنانية زادت شهرتها بفضل زاويتها على مشاهير المجتمع الذين كانت تنقل اخبار نشاطاتهم وحفلاتهم وأفراحهم. اليوم سأحاول تقليد"حول المدينة"بتقديم موضوع اجتماعي، وليس السبب منافسة مهنية، او ضيق عين, وإنما تشجيعاً على زيارة لبنان في الصيف، فأنا عائد من يومين في ربوع الأرز، ومن بيروت على وجه الدقة، لأنني لم أر الأرز منذ 30 سنة، وكنت اعتقد لإقامتي في الخارج بأن هناك أزمة سياسية واقتصادية، إلا انني وجدت البلد في احسن حال، او في الحال الذي عرفناه قبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري والزلزال الذي تلا ذلك، وبانتظار الزوار العرب الذين سيخسر كل واحد منهم يفوته موسم الصيف في لبنان. موسمي الاجتماعي بدأ قبل ان ادخل مبنى مطار هيثرو في لندن، فقد رأيت صديقين وزوجتيهما الأختين يصلون مع بعض الأولاد ونحو 25 حقيبة. وأسرعت داخلاً حتى لا أقف وراء هذا الحشد الغفير. وقدرت ان هؤلاء الأصدقاء في الطريق الى زيارة قصيرة للبنان. لأن 25 حقيبة تعني استعمال يومين عندهم، ويعتبر الواحد منهم انه مسافر"خفيف"مع هذا الحمل. ووجدت اصدقاء آخرين في صالة طيران الشرق الأوسط قبل صعود الطائرة، وعندما دخلنا الطائرة بدا لي ان جميع الجالسين في القسم الأمامي يعرف احدهم الآخر، ربما باستثناء سيدة كويتية تبادلت الحديث مع جميع من حولها، وفهمت منها ان لها بيتاً في قرنايل، وأن زوجها فيه ينتظرها، ودعتنا الى زيارتهما هناك. وجدت معنا السيدة منى الهراوي، وهي صديقة الكل كزوجها الرئيس الياس الهراوي. وكان هناك صديقان يسافران بمفردهما، وصديق زوجته، وهو كسا بالثياب يوماً نصف اهل بيروت ونصف الزوار العرب. لن اذكر اسماء منعاً للإحراج، خصوصاً ان الصديق الذي يسافر وحده قد يكون أبلغ زوجته انه في رحلة عمل الى نيجيريا، كذلك الكويتي الذي قال لزوجته انه ذاهب لأداء العمرة، فخطفت طائرته في تايلاند. طبعاً هو كان يستطيع ان يصل الى المملكة العربية السعودية اذا لف العالم، ووصل إليها من الغرب بدل الشرق. إلا ان زوجته لم تصدق ان هذا كان هدفه، وهو دفع الثمن فرداً ما دفعنا جماعة عندما انتظرناهم من الشرق فجاؤوا من الغرب. ابقى مع الرحلة الى بيروت فمطارها جميل ومريح، والخدمة فيه، من نوع معاملات الجمارك ووصول الحقائب، سريعة، والفضل في اكثر ذلك لرفيق الحريري رحمه الله. ثم ان المطار على بعد عشر دقائق من قلب العاصمة، مقابل معدل ساعة في اكثر مطارات العواصم الكبرى في اوروبا والولايات المتحدة. اتفقت قبل الوصول الى الفندق مع قريبة لي وزوجها على العشاء، في الأسواق، ووجدت المطاعم مملوءة تقريباً بالزبائن، وبعض المتاجر يفتح حتى ساعة متأخرة. وبدأت طاولتنا بثلاثة، وانتهت بثمانية وحديث سياسي عن الانتخابات والحكومة الجديدة. وليس الأمر انني"محلي"وأعرف الناس او يعرفونني، فالكل يعرف الكل في بيروت على ما يبدو، ولا اعتقد ان زائراً عربياً واحداً في بيروت لا يعرف بعض اهلها، او من دون اصدقاء فيها. ولبنان قبل كل شيء بلد خدمات وضيافة، والمصارف لا تعني لي شيئاً، غير انني اسعد عندما اجد ان البائعة الشابة في المحمصة التي اقصد لا تذكر وجهي فقط، وإنما تتذكر خلطة المكسرات التي افضل وتدلني إلى الطازج منها. كذلك احب ان يرحب بي الجرسون وكأنني قريب عائد من ديار الاغتراب، وأن تقول"الجرسونة"لي:"حبيبي"و"تقبرني"و"عيوني"... تقبري عظامي يا آنسة في مصر يوماً، قالت لي الخادمة: انت لو تطلب عينيّ يا بيه انا اديهم لك. وقلت لها محذراً انني لو طلبت فلن اطلب عينيها. في اليوم التالي لوصولي هاتفني الرئيس الياس الهراوي ليدعوني والزميل وليد شقير الى غداء في دارته في اليرزة. وكانت فرصة لنسمع منه، والعماد ميشال عون يزور القصر الجمهوري ضمن المشاورات الوزارية، قصة اخراج العماد من القصر بالقوة سنة 1989 بمساعدة القوات السورية. ورأيت الصديق جهاد مرتضى، السفير اللبناني لدى بريطانيا، بعد ذلك بيومين في لندن، فحكى لي جوانب اخرى من ذلك التاريخ المشهود، او المشهور، من واقع عمله في وزارة الخارجية آنذاك. وسرني ان اجد الرئيس الهراوي وصحته طيبة، ولبنان رأى السلام في ولايته، وهو لم يفقد شيئاً من ظرفه وعمق نظرته السياسية، وإن شعرت بأنه متأثر من موقف بعض ناكري الجميل، كما سمتهم السيدة منى. كل الناس خير وبركة، وكل البلاد والعباد، إلا ان هناك شيئاً إضافياً في لبنان. وكنت كلفت محامياً صديقاً ان يراجع لي اوراقاً رسمية تعود الى بيتي القديم في بيروت، وهو غيّر عقد البيت ليناسب قوانين جديدة، وعندما عرضت ان ادفع اجر العمل رفض وشريكه بإصرار ان يأخذا أي مبلغ على رغم إلحاحي، لأن القضية"مش حرزانة"، بل انني طلبت منه ان يعطيني اسم جمعية خيرية يهمه امرها فأتبرع لها باسمه، إلا انه رفض مرة اخرى، وكنت اود لو اسجل اسمه، إلا انني أعرف انني سأحرجه، كما اعرف ان لا بلد آخر في العالم يرفض محامٍ فيه ان يقبض أجراً. عدت سالماً غانماً من بيروت، وأوقفني رجال الجمارك في مطار لندن، وهو امر نادراً جداً ان يحدث، لمجرد انني عائد من بيروت. وسئلت تحديداً هل احمل سجاير او خموراً. وقلت انني لا ادخن ولا أشرب، ولم يحاول رجل الجمرك تفتيش الحقيبة التي كانت مملوءة مكسرات وقهوة وحلويات. غير ان توقيف راكب قادم من بيروت لم يكن عبثاً فالسوق الحرة في المطار هناك هي الأدنى اسعاراً في الشرق الأوسط كله، وأنا اعرف كل مطاراته. ومع ان بعض المطارات الأخرى اكثر شهرة، وأسواقها اكبر، فإن سوق مطار بيروت هي الأدنى اسعاراً، وهذا سبب اضافي لزيارة لبنان في الصيف.