وصلت الى بيروت مساء مع العائلة، وتبعتنا الحقائب بسرعة الى الغرفة، وفتحت الباب المطل على الشرفة لأفاجأ برجلي رجل يتدلى على سلم من حبال من الطابق الأعلى. وقفزت الى خلف وأنا أفكر في ما أفعل. وكان أول ما طرأ لي، كعربي صميم، هو الفرار، ثم فكرت ان الأمن مستتب، أو هذا على الأقل ما تقول الحكومة، وقررت ان استنجد بموظفة الاستقبال، فقد كانت حسناء، وقد ترمي اللص بسهام لحظها، وهذا ما يقول الشعراء لا الحكومة، فترديه قتيلاً، وهو حل ممتاز لأن قتيل الهوى لا يودى، أي لا تدفع عنه ديّة. غير انني عدت وقررت أن أشعل النور، فاللص سيراه ويهرب. واكتشفت تحت الضوء ان الرجلين لما تسمى في لندن "سانتا كلوز"، وما يسمون في باريسوبيروت "بابا نويل"، ويبدو ان ادارة فندق فينيسيا انتركونتيننتال، قررت ان تزين شرفات بعض الغرف برمز عيد الميلاد هذا، من دون ان تقدر ان بعض النزلاء مصاب بضعف في القلب. الفندق كان مملوءاً في مناسبة نهاية السنة، كما لم أره من قبل، مع انني أنزل مرة أو مرتين في الشهر بحكم العمل. وفي حين لا يحب أحد الزحام، فإن مما يعوض عنه فرصة ان يرى الضيف أصدقاء من لبنان وخارجه في مكان واحد. ورأيت بعض الأصدقاء الذين أجتمع معهم عادة في جنوبفرنسا في الصيف، فلم أعرفهم وهم مرتدون ثيابهم. ويفترض ان يزور الواحد منا لبنان ويرى أصدقاء لبنانيين، ورأيت هؤلاء، ورأيت معهم أصدقاء من المملكة العربية السعودية والكويت والبحرين وغيرها. وتحدثت الى كثيرين لم أسمع من واحد منهم شكوى، ربما باستثناء كلمة أو اثنتين عن الغلاء. غير ان الكل بدا معجباً ببيروت الجديدة، والجبل والبحر وما بينهما. وأعجبني في شكل خاص استمرار عملية البناء، على رغم الصعوبات الاقتصادية وأناقة وسط المدينة الذي أجده من بين الأجمل في الشرق الأوسط والعالم. وكلمة حق، فالفضل في هذا الانجاز للرئيس رفيق الحريري وسيذكر له ويحفظ عندما ينسى الدين العام والخاص. والناس مثلي الذين أمضوا طفولتهم وشبابهم في بيروت يستطيعون ان يلعبوا لعبة ذاكرة، للربط بين المباني الجديدة، وما كان قائماً قبلها. وقد وجدت في وسط المدينة صوراً فوتوغرافية كبيرة، تصور الحاضر والماضي، وأيضاً الدمار الذي لحق بالمباني والشوارع خلال سنوات الحرب. طبعاً لا أحتاج أن أحكي لقارئ عربي عن الطعام في لبنان، فهو ما كان يعرف قديماً مع اضافات "حداثية" من مطابخ الشعوب المجاورة، وأخرى بعيدة تركب الأفيال، أو تحاول انقاذ دب "الباندا". غير انني فوجئت بالاصرار على أن يرافق العشاء موسيقى وغناء، ولا أدري لماذا لا يستطيع اللبناني أن يبلع طعامه من دون مغنية تفتح الشهية. وكنت قبل يومين ضيفاً في مطعم فحصته بدقة ولم أجد كمنجة أو دربكة واحدة واطمأن قلبي. وانتهى العشاء في منتصف الليل بهدوء، فاقترح المضيف أن نذهب الى ملهى. وقلت ان الساعة هي الثانية عشرة ليلاً، ورد: من ينام في هذه الساعة؟ قلت: أنا، إلا أنه لم يصغ إليّ وانتهينا حيث أراد. قبل أن يعتقد القارئ انني في بيروت للهو فقط، أسجل انني عملت حتى نهاية السنة بين مكاتب "الحياة" في الوسط التجاري ومقر تلفزيون LBC في أدما. وبما انني أكتب صباح الأول من هذا الشهر، فمعنى ذلك انني بدأت السنة الجديدة بالعمل، كما أنهيت السنة الماضية. طبعاً إذا خيرت بين العمل والغناء والرقص، مشاركاً لا ممارساً، لاخترت الثاني، غير ان العمل ضروري لتوفير دخل يمكن الراغب من الاستمتاع بالغناء والرقص. وكلمة "الراغب" تذكرني بالصديق راغب علامة، فقد كنت أود لو استمعت اليه، الا أنني وجدت أمامي خياراً بين أسماء لم أسمع بها من قبل، والسبب اقامتي في الخارج، فأعتذر عن هذا التقصير الفني، وأعد بأن أربط الليل بالليل لتكتمل ثقافتي الموسيقية. على كل حال، إذا فاتتني رؤية راغب علامة وسماعه، فقد شاء الحظ أن أرى مصادفة المغنية الحسناء لطيفة التونسية في مطعم، وأنا أعرفها منذ حوالى عشر سنوات، وقبل أن تشتهر، فلعل القارئ يعتقد انني لا أعرف شيئاً خارج عصابة اسرائيل في الإدارة الأميركية، مع ان الواقع انني أعرف أشياء بعضها لا يصلح للنشر. لطيفة كانت لطيفة كاسمها، وغنت بناء على طلب الحاضرين والحاحهم، مع انها كانت ضيفة. بيروت عادت، أو في طريق العودة، عاصمة للعرب كلهم، وهي في النهاية ليست وسطاً تجارياً جميلاً، أو مباني حديثة، وانما الناس الذين يجعلونك تشعر وكأنك تعرفهم طيلة عمرك. وأخيراً، فقد اتصل بي صديق للتهنئة بالسنة الجديدة، وبادلته التهنئة، وقلت له "بوس لي زوجتك"، فهي قريبتي. وسكت الصديق لحظة على الهاتف، ثم سأل: ضروري؟ وقلت له ان الدنيا عيد، فقال: معك حق، وأضاف انه سيلبي طلبي بصورة استثنائية، غير انه عاد إليّ بعد قليلٍ ليعتذر ويقول اننا في اليوم الأول من عام جديد، ولا يريد ان يبدأ أموراً لا طاقة له بتحملها 365 يوماً. بعض الأمور لا يتغير، حتى إذا تغيرت الدنيا.