وجدت وأنا أزور الجامعة الاميركية في بيروت بصحبة صديقين ان الشارع القصير الذي يفصل بين الكلية الثانوية والجامعة الاميركية وينتهي بدرج الى البحر، اصبح يقوم عند بدايته حاجز عليه حارس. وفزعت من مظاهر الأمن ومغازيه الى يوم لم يكن هناك في لبنان سوى امن وطقس، حتى انني اذكر ان باب بيتنا في الخمسينات بقي اسابيع من دون اغلاق كامل بعد ان كسر المفتاح في القفل. حيث تقوم الآن بنايتان للطلاب كان هناك ملعب كرة سلة، وبناية الرياضة التي سكن فوقها المربي الكبير فؤاد سليمان الذي احتفل قبل ايام بمرور 50 سنة على غيابه. وكنا نصعد الدرج حتى منتصفه لنصبح فوق الجدار ونطلب سندويش فلافل من مقهى "خالد" عبر الطريق، او يتسلل احدنا الى محل "طرزي" المجاور. وترحمت والصديقين على ايام كانت معدة الواحد منا تهضم "الزلط" فنقول لبائع الفلافل ان يكثر من كل شيء. في تلك الايام في الخمسينات كان الحادث الوحيد الكبير الذي اذكره اغتيال غسان جديد سنة 1957 امام بيت عمي مباشرة. وكنا نلعب بلياردو عندما سمعنا الرصاص، فأسرعنا نحو مصدره لنفاجأ برجال الشرطة يحيطون بمبنى التجأ اليه القاتل الذي اعتقل ثم قتل. الضحية نقل الى مستشفى الجامعة القديم، غير انني اختصر الزمان الى 17 ايلول سبتمبر 1974، فهو تاريخ مهم في حياتي ولدت فيه ابنتي الكبرى. وولادة بنت لا تهم القراء، ولكن كما قلت امس فكل شيء في راس بيروت يذكرني بشيء آخر. وقد ذهبنا الى المستشفى ولاحظت وجود عدد كبير من رجال الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وبما ان اكثر طلاب الطب العاملين من زملاء الدراسة، فقد علمت ان الدكتور جورج حبش اصيب بنوبة قلبية. نشرت "الحياة" و"الديلي ستار" الخبر، وهاتفني فوراً الصديق بسّام ابو شريف وقال ممازحاً انني مطلوب "حياً او ميتاً". وذهبت وحقق معي الاخوان حول كيفية معرفتي بالخبر الذي كان يفترض ان يبقى سراً. وشرحت لهم ان زوجتي في الطابق السادس، او طابق الحوامل، وطوي الامر. وكانت السيدة هيلدا حبش، زوجة الدكتور جورج حبش، عاتبتني في مطلع الشهر على شيء قلته عن الجبهة، مع ان علاقتي بأركانها كانت جيدة دائماً، وهم كانوا يتحملون نقدي أحياناً لأنهم يعرفون انه اجتهاد، لا اكثر ولا اقل. ولعل بساماً لا يزال يذكر يوم خطف فدائيون طائرة ركاب اميركية في مطار روما، وهم واجهوا مقاومة، وألقيت قنبلة يدوية داخل الطائرة اسفرت عن احتراقها وموت حوالى 30 راكباً. ولم تدَّعِ اي منظمة فلسطينية المسؤولية، وكتبت ان عدم ادعاء العملية يعني ان الفلسطينيين براء، لأن بياناتهم العسكرية تدعي المسؤولية عن كل شيء، بما في ذلك هطول المطر او انحباسه. وغضب "الحكيم" واستدعيت مرة اخرى "حياً او ميتاً" وفهمت ان سبب الغضب ان معنى مقالي هو التشكيك في البيانات الفلسطينية. وقلت ان هناك مئة بيان او اكثر كل يوم، من المستحيل ان تكون صحيحة كلها، وقيل لي ان مشكلتي انني "بورجوازي صغير" افكر بعقلية بورجوازية صغيرة. طموحي ان اكون بورجوازياً، الا ان مقدراتي محدودة، ولم استطع ان اتخرج طبيباً او مهندساً، فقنعت بهذا "الهباب" الذي يسمونه صحافة. غير انني لا اشكو، فللصحافة نفوذ غير متوافر لمهندس حتى لو حفر مجارير البلدة بيديه، وجنى الملايين. وانتهيت مع الصديقين المهندسين في شارع المقدسي، وهو شارع بيتي، وأيضاً شارع بيت اسرة البروفسور ادوارد سعيد، وأذكر بوضوح انني رأيت في صالون بيته صوراً للأسرة في القدس، مع ان بعض انصار اسرائىل حاول التشكيك في "فلسطينيته" عندما عجز عن انتقاد "اكاديميته". وفي حين انني اتحدث عن اصدقاء موجودين معنا في لندن او بيروت، فإنني لا أسجل اسماء لأنه لا يجوز ان اسخر منهم، وهم لا يستطيعون الرد. وهكذا، ومن دون اسماء، كان هناك الصديق الذي عرف الجميع وعرفوه في المدرسة، فهو لم يترك الحضانة، الا وقد اصبح يحلق شعر ذقنه، والصديق الذي اعتقل خارجاً من بيتي وهناك منع تجول، ولم نفتقده الا بعد ان نقل من "كركون حبيش" الى مقر الأمن العام قرب المتحف حيث قضى الليل واقفاً خوفاً من الشاذين، والصديق الذي سرق علبة سردين من "سوبر ماركت" في ميونيخ وضبط، فقال انه اسرائىلي، وترك الألمان يعبرون عن رأيهم الحقيقي في الاسرائىليين. وفي حين لم يدركني الصباح، فإنني ابتعد من الكلام المباح مع انه الجزء الاجمل من ذكريات راس بيروت. وكان الصديق سمير صنبر فعل مثلي فلم يذكر اسماء في حكاياته التي وردت في كتابه "ناس من راس بيروت"، وهكذا فأنا ايضاً لا اسجل اسم الزميل الذي اعتقل بعد ان وجده رجال الشرطة مبلولاً كان من عادتهم ان يرشوا المتظاهرين بالماء، ثم يأتي رجال الأمن لاعتقال المبتلّين بالماء والمبتلين بالوطنية. وقيل في حينه ان فلاناً اتهم بالوطنية. الوطنية اصبحت اليوم تهمة حقيقية، والنضال اصبح ارهاباً، ولم يبق لأمثالي سوى تذكر ما فات.