في تلك الايام... في تلك الأيام واليالي التي أعقبت نكبة العرب في فلسطين وشردت أهلها، فنال لبنان العبء الأكبر منها بحكم شراكة الجغرافيا والتاريخ. في تلك الأيام ومتاعبها وانعكاساتها على وضعنا الداخلي، رأى الإمام موسى الصدر ان يطوف دنيا العرب ويطرح الصوت على من فيها من ملوك ورؤساء وحاملي مقدرات، كي يجتمعوا في أي مكان وزمان ويتداولوا كيفية دلاء الكارثة التي تهدد لبنان. وعندما انتقل الإمام الى المغرب العربي وقابل الرئيس هواري بومدين في الجزائر لهذا الغرض، سأله هل قابل العقيد معمر القذافي في ليبيا فأجاب بالنفي "لأن العلاقات بيننا ليست كما يرام" فأصر بومدين على الإمام ان يزور ليبيا وقال انه سيتصل بالعقيد القذافي لترطيب الأجواء وتوجيه دعوة رسمية اليه. عاد السيد موسى الصدر من جولته الى بيروت، وبعد أيام قليلة تلقى من السفارة الليبية في لبنان دعوة القذافي مع بطاقة سفر. وشاء الإمام ان أرافقه الى طرابلس الغرب، فاعتذرت لأسباب صحية اقتنع بها لأنه يعلم أنني أعاني مشاكل في القلب، فكان ان اصطحب الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدرالدين. وفي 26 آب اغسطس غادر الإمام ورفيقاه بيروت الى طرابلس الغرب، تلبية للدعوة التي وجهت اليه لمقابلة القذافي. وكانت الوفود تتقاطر الى طرابلس لحضور احتفالات ما يسمى "الفاتح من ايلول". ومرت ثلاثة ايام من 26 آب الى 29 منه ولم يتلق الإمام اتصالاً بتعيين موعد المقابلة، فاستغرب ذلك وتذمر وأظهر تذمره أمام بعض اللبنانيين الموجودين هناك، وقال لهم انه لا يستطيع الانتظار أكثر مما انتظر وانه سيغادر ليبيا غداً. وبعد ظهر ذلك اليوم شوهد الإمام يهم بالخروج من الفندق، ورآه المفكر منح الصلح والزميل اسعد المقدم الذي سأله: "الى أين سيدنا الإمام؟" فأجاب: "الى المقابلة". قال كلمته ومشى، ولم يعد من المقابلة الى الآن، كما لم يعرف أحد ماذا دار في هذا اللقاء، وماذا حدث، لأن الإمام ورفيقيه لم يظهر لهم أي أثر. كيف حدث ذلك؟ هل انشقت الأرض وابتلعته بعد خروجه؟ أين اختفوا؟ أين ذهبوا؟ أم ان عاصفة صحراوية حملته الى الفضاء اللامتناهي وحالت دون عودته الى الأرض؟ كان السيد موسى يتصل يومياً من ليبيا بعائلته وأصدقائه واخوانه في المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى. ولما انقطع الاتصال بين طرابلس الغرب وبيروت جرت اتصالات من هنا مع فرنسا أولاً لأنه كان مقرراً ان يزورها لوجود زوجته فيها لأسباب صحية، فلم يسجل انه دخلها، وبالاتصال بالمانيا حيث يقيم فيها ابن شقيقته صادق الطباطبائي الذي كان يدرس في جامعاتها، قيل انه لم يصل اليها. وجرى اتصال بطرابلس الغرب فجاء الجواب انه سافر الى ايطاليا، ولماذا ايطاليا ولم يكن في برنامج رحلته انه سيزورها؟ وساد القلق وبدأت الشكوك، وكان ان مرت ستة أو سبعة ايام على الغياب، فارتأى أهله والمجلس الاسلامي الشيعي الاتصال بإيطاليا وبسفيرنا هناك محمد صبرا، فكلفوني هذه المهمة لمعرفتهم بالصداقة القوية القديمة العهد التي تربطني به، فلم أتردد وسافرت فوراً الى روما فاستقبلني السفير صبرا وأخذ علماً بمهمتي وقال: "ليس معقولاً أن يأتي الإمام الى روما ولا يتصل بي، مع ذلك سوف نرى". وقام باتصالات عاجلة مع السلطات الايطالية، وله عندها تقدير خاص كسفير وصديق، فجاء الجواب انه سجل في مطار روما وصول الامام موسى الصدر ومحمد يعقوب ونزلا في فندق... فقصدنا الفندق للاطلاع على مزيد من المعلومات، فقال مديره ان رجلين حضرا الى الفندق عند منتصف الليل وحجزا غرفة ورأينا ان شكلهما لا يوحي بالثقة والاحترام فطلبنا الأجر سلفاً، فخرجا ولم يرجعا، والحقائب بقيت في الغرفة حتى تسلمتها السلطات المختصة. واجرى السفير صبرا اتصالات بالسلطات الايطالية فقيل له ان الحقائب كانت مفتوحة، وجوازات السفر مكشوفة على نحو يوحي التضليل. وبعدما شاهدنا العموض، ارتأينا الاستعانة بمحام يلاحق القضية. فوقع اختيار أهل المعرفة على محام كبير معروف في روما اسمه فاسالي أصبح في ما بعد وزيراً للعدل ثم اقترب من الوصول الى رئاسة الجمهورية. قابلنا المحامي الذي قبل التوكيل لكنه طلب ان يحضر الى روما أحد أفراد عائلة الإمام ويقوم باجراءات التوكيل بحسب الأصول، وليأخذ منه بعض الايضاحات عن الإمام وغير ذلك. فعدت الى بيروت لاصطحب الى روما حرم الامام وشقيقته رباب وزوجة محمد يعقوب وزوجة عباس بدرالدين واجريت معاملة التوكيل، واطلعني السفير صبرا على ما توصل اليه مع السلطات الايطالية وأنا أعرف موقعه في روما كسفير جنتلمن واعرف ما له من صداقات في الأوساط الرسمية. قال: "لقد قصدنا الفندق الذي نزل فيه الرجلان المزعومان وسألنا مدير الفندق عن كل معلوماته وانطباعته عن الرجلين، فأدلى بما ذكرته سابقاً عن وصولهما الى الفندق عند منتصف الليل، ثم غادرا الغرفة وتسللا من الفندق الى الخارج بعدما دفعا حساب الغرفة مقدماً بطلب من الادارة التي ارتابت في شكلهما وأمرهما، فخرجا ولم يرجعا الى الفندق في الصباح كما هو مفروض". عند ذلك ابلغ مدير الفندق السلطات التي اجرت تحقيقاتها واخذت الحقائب، بعد ختمها بالشمع الأحمر، وكذلك الجوازين فقط، ولكن أين الثالث؟ أتوقف هنا عند هذه التمثيلية لاتساءل: أليس المقصود ان يقال، كما ادعت السلطات الليبية، ان الإمام ورفيقه خطفا في روما؟ انه مجرد تساؤل. وبعد مدة وجيزة اتصل بي السفير محمد صبرا من روما وقال ان المحقق يطلب حضور أحد أفراد عائلة الامام لأمر يتعلق بالحقائب، فسافرت مع السيدة رباب الصدر وعقيلة محمد يعقوب وسميح فياض، وكان رئيسا لمحكمة التمييز، ومحمد شعيتو المدير العام للمجلس الشيعي، وفي حقيبتي صور الامام. واستحضر المحقق مضيفات الطائرة التي زعموا انها نقلته الى روما، وعرضت أمامهن صور الامام، فأخذتهن الدهشة وقلن: "من يرى مثل هذا الرجل لا يمكن ان ينساه، لم يكن بين ركائب الطائرة شبيه له، نتذكر جيداً شخصياً كان بين الركاب ولكن ليس بمثل هذه الوسامة والجاذبية والأوصاف التي نراقب. كان قزماً لا يثير اهتمام أحد". وقدمنا غيرها من الأدلة التي تهم كل من يدعي غير ذلك، وأذكر موقفاً لرباب الصدر عندما استدعاها المحقق لرؤية الحقائب والتعرف الى حقيبة الإمام وانتظرت اكثر من ساعة، فاستشاطت غضباً ودخلت غرفة المحقق وفاجأته بقوله: "أهكذا تعامل امرأة في مثل وضعي ومصابي؟"، فاضطرب واعتذر منها وقادها الى الغرفة حيث وجدت حقيبة الإمام التي تعرفها جيداً، وما ان فتحها المحقق حتى شاهدنا فيها الجبة والعمة الى جانب أشياء لا علاقة له بها ولا لزوم لذكرها، وهنا انهمرت عينا رباب الصدر بالدموع وكادت ان تنهار وصرخت: "هل هذا معقول؟" فهدأت من روعها وكذلك المحقق الذي اعتذر ثانية منها، ثم فتحت حقيبة الشيخ محمد يعقوب في حضور زوجته فاستغربت هي ايضاً وجود بعض الثياب التي ليس لزوجها علاقة بها، وتبين ان بعض ثياب الحقيبة الثالثة هي لعباس بدرالدين فقد بعثرت ثيابها واختلطت مع بقية الثياب، ولأن جواز سفر عباس بدرالدين لم يكن معه لدى ذهابه لمقابلة القذافي بل كان مع سفير لبنان في ليبيا وقد سلمه اليه ليحصل له على تأشيرة دخول الى فرنسا. بعد هذا قال المحقق انه يريد ان يذهب الى ليبيا ليتابع القضية هناك، فانتظرنا يومين عاد بعدها الى روما ليعلن: "ان السلطات الليبية تصر على ان الثلاثة غادروا ليبيا على متن طائرة ايطالية بتاريخ 30 آب وان هناك شهوداً قدمتهم السلطات الليبية وأقسموا على ذلك". وهنا تبين لنا ان المحقق بدأ يتغير موقفه بعد زيارة ليبيا، فرجعنا الى بيروت واقترحت على السيدة رباب الصدر مقابلة رئيس الجمهورية الياس سركيس. فذهبنا سوية وروينا له ما شاهدنا، وكيف ان المحقق بعد زيارته ليبيا تغير موقفه واصبح غير حيادي على الإطلاق. فتجاوب الرئيس سركيس واستدعى السفير الايطالي ولفت نظره الى ما نقلته السيدة رباب الصدر. وبالفعل اتصل السفير بحكومته واطلعتها على مقابلة رئيس الجمهورية، فأصدرت وزارة العدل الايطالية قراراً بتعيين محقق آخر كان بالفعل حيادياً واعاد التحقيق، ثم حضر الى بيروت واستمع الى شهود عدة بينهم اسعد المقدم الذي سأل الإمام "الى أين؟" فأجابه انه ذاهب لمقابلة القذافي بناء على استدعائه. وزاد قائلاً: "ولم نعد نشاهده لا في الفندق ولا في أي مكان". وعاد المحقق الايطالي الى روما وقدم مطالعته الى النائب الذي اطلع على التحقيقات وبخاصة على شهادة المضيفات اللواتي رأين صورة الإمام وقلن "ان هذا الشيخ الوسيم لم يكن على الطائرة ولا يمكن لأحد ان ينسى مثل هذا الوجه"، فالرجل ذو العمة الذي أرسل من ليبيا الى ايطاليا شيخ مزور حتماً يحمل جواز سفر الامام الذي صودر منه عند اعتقاله. وبعدما أحيل التحقيق على النائب العام اصدر مطالعته نافياً ان يكون الإمام دخل ايطاليا. كانت السيدة زهرة زوجة عباس بدرالدين تنجز معاملة في أحد المصارف في بيروت فسألها الموظف: "أنت زوجة عباس بدرالدين الذي كان يرافق الامام الصدر الى ليبيا؟" فأجابت: "أجل". فقال لها: "هناك شخص لبناني لديه معلومات مهمة تتعلق بموضوع الامام موجود في البرازيل، وقد أخبرني بذلك". ولما استوضحته الأمر قال لها: "ليس لدى أي تفاصيل، ولكن اذا شئت اعطيتك اسم الشخص وعنوانه". عادت السيدة بدرالدين من المصرف الى منزل الشيخ محمد مهدي شمس الدين ونقلت اليه أقوال الموظف، وقالت انها تريد السفر الى البرازيل للاتصال بالشخص المذكور. ورأى الشيخ شمس الدين ان هذه المهمة هي فوق طاقة امرأة فاستمهلها للتأكد من الخبر، ولكنها أصرت وألحت بالسفر فلم يستطع ان يردها خائبة وأمن نفقات السفر مع نجلها فضل الذي كان لا يزال شاباً. سافرت السيدة بدرالدين الى البرازيل وقابلت الشخص، بحسب العنوان المعطى لها، فرحب بها وأكد ان لديه معلومات مهمة وخطيرة، ولكنه لا يستطيع البوح بها إلا لأحد المسؤولين من المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى ويكون مزوداً تفويضاً رسمياً، فقالت له: "أرجوك ان تطلعني على شيء من هذه المعلومات التي لديك لأعود بها الى لبنان". فأجابها: "لي صديق ذو مركز مرموق في المخابرات الاميركية السي.آي.ايه C.I.A وهو على معرفة بكل هذه القضية، وعندما يحضر الشخص المفوض من المجلس نزوده كل التفاصيل". وعبثاً حاولت معرفة أكثر، وقبل ان تغادر البرازيل سلمها الشخص المذكور كتابين، الأول الى الشيخ محمد مهدي شمس الدين، والثاني الى الشيخ عبدالأمير قبلان المفتي الجعفري الممتاز، ليوقعاهما على ان يحملهما الشخص الذي ينتدبه المجلس الشيعي. فعادت السيدة بدرالدين الى بيروت وأخبرت الشيخ شمس الدين بنتائج رحلتها، وقرر المجلس الشيعي وعائلة الإمام تكليفي هذه المهمة، فلم اتردد. وقبل ان أغادر بيروت تسلمت من مكتب الشيخ محمد مهدي شمس الدين، بصفته نائب رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الاعلى، كتاباً يفوضني مقابلة أي كان لملاحقة قضية الامام الصدر والاتفاق باسم المجلس والتعهد بتنفيذ كل ما يطلب للوصول الى معرفة مصير الامام، كذلك حملت معي الكتابين اللذين أرسلا مع زوجة عباس بدرالدين موقعين من الشيخ شمس الدين والشيخ قبلان. ولقد كان سماحة الشيخ شمس الدين يشارك الامام الصدر في المسؤوليات الجسام، أما الآن فقد وقعت على كتفيه أكبر مسؤولية عرفها في عمره المديد، مسؤوليات البحث عن الامام المغيب في أي مكان من الأرض وبأي ثمن. قبل مغادرتي البيت الى المطار، توجهت الى منزل الإمام شمس الدين، ترددت أولاً في الدخول لأنها كانت السادسة صباحاً وخشيت ان يكون سماحته نائماً، لكنني عندما دخلت البهو وجدته يجلس وحوله الكتب والصحف وفنجان من الشاي. فقلت معتذراً: "ترددت كثيراً في المجيء في هذه الساعة خوف ايقاظك!"، فقال بابتسامته المعهودة: "أتخشى ايقاظ من يصلي الفجر يا زهير؟ هل عدلت عن السفر؟" قلت: "هل تعتقد سماحتك ان ثمة شيئاً يمنعني من أي عمل في سبيل عودة المغيب الكبير؟ ان أصغر طفل في الجنوب أو أكبر عجوز في لبنان لا يتردد في مهمة من هذا النوع، فكيف برجل عرف الإمام عن قرب وأدرك مدى حاجة لبنان الى هذا الحجم من الرجال؟". بعد ذلك اسرعت الى القول: "عذرك يا سماحة الشيخ، ولكن يساورني شك في اننا أمام ضرب من الاحتيال، أو على الأقل شيء كثير من الغموض سيزيد المسألة كلها غموضاً". قال: "ماذا تعني؟". قلت: "هل اطلعت على نص الكتاب الموجه الى السيد موريس؟". قال: "ومن هو موريس هذا؟ وماذا في الكتاب؟ كل ما في الأمر أنني وقعت كتاباً قيل لي ان السيدة بدرالدين احضرته معها ولم اطلع على محتوياته". قلت تفضل واقرأ: "حضرة الصديق موريس المحترم، نغتنم فرصة ذهاب ممثلنا لطرفكم لكي نكتب اليكم هذه الكلمات. وليكن معلوماً لديكم اننا جد مسرورين حيث توجد صداقة وتعاون مع الطرفين. وبكل تأكيد نحن نأسف جداً حيث بالماضي لم تكن لنا فرصة لتجديد علاقاتنا وأهدافنا ولكن نتأمل ان نعوض عن ذلك بالمستقبل القريب. التوقيع: محمد مهدي شمس الدين" مع خاتم المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى هكذا جاء نص الكتاب باللغة العربية "المفركشة". فنظر الي بدهشة واستغراب فقلت: "هل تعرف من هو موريس هذا؟". قال: "ومن أين لي أن أعرف"؟ قلت له: "إنه ضابط المخابرات الاميركية"، فازدادت دهشته وقال: "معاذ الله ان أوقع مثل هذا الكتاب. وما ترى الآن؟ هل نترك المسألة ونغض النظر؟". قلت: "أبداً... لا بد ان نطرق جميع الأبواب، ولا يمكن ان نسمح لأنفسنا بالندم على شيء، والأفضل ان نندم على السفر من ان نندم على عدم السفر. وسنرى ماذا يقصدون وماذا في نيتهم. وقد نحصل على بصيص أمل وان يكن ضعيفاً". بعد هذا سلمته الكتاب وودعني قائلاًَ: "الله يحفظك ويرعاك ويبعد عنك كل مكروه، سر على بركة الله فإنك مثال الإخلاص والشهامة، وأرجو ان تعود بأخبار تكشف لنا بعض الحقائق، اذا أمكن، وأطلب منك ان تكون على حذر". وتركت منزل الشيخ ومضيت الى المطار وفي نفسي تختلط الآمال والتساؤلات. غادرت بيروت الى البرازيل في شهر شباط فبراير من عام 1983 ولما وصلت الى سان باولو، كان الشخص المذكور في استقبالي في المطار بعدما اتفقنا على كيفية التعارف، فاصطحبني مع رفاق له الى أحد الفنادق حيث دعاني الى العشاء، ثم استأذن من رفاقه واختلينا ودار الحديث عن لبنان، طبعاً. ورأيته على اطلاع بأحوال البلاد وما يجري فيها من أحداث مؤسفة. وبعدما طال الحديث قلت له: "وماذا عن الإمام الصدر؟"، فرد سائلاً: "هل تحمل التفويض الرسمي؟" فسلمته الكتاب الذي أحمله من المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى. وبعدما قرأه بدت على وجهه أسارير الابتهاج، وقال: "أما قضية الإمام فسنبحثها غداً بالتفصيل لأنك الآن متعب من السفر الطويل". وقبل ان يودعني سألني: "أين الكتابين اللذين سلمتهما الى زوجة عباس بدرالدين ليوقعهما الشيخ شمس الدين وقبلان؟" فضربت على رأسي مظهراً الأسف الشديد وقلت له: "لقد سلماني اياهما موقعين، ويظهر ان قيامي في الصباح الباكر انساني حملهما في حقيبتي، وأعدك بأن أرسلهما اليك فور عودتي الى بيروت". فقال: "حسناً والآن الى الغد". وفي اليوم التالي حضر الى الفندق بصحبة رجل طويل "جسيم" اشقر اللون، وقدمه الي بأنه المستر "موريس" الذي لديه المعلومات عن قضية الامام الصدر. فرحبت به، وبدأنا بحديث عام. ولما رأيت ان البحث قد تطور بادرته بالسؤال: "وماذا عن قضية الإمام الصدر؟ تفضل واشرح لي ماذا عندك وكلي آذان صاغية". فقال: "لا بد ان صديقي أخبرك عن علاقتي بالمخابرات الاميركية، وانه هو الذي اطلعني على اهتمامكم بهذه القضية، ولكن قبل ان اطلعك على التفاصيل لي شروط يجب ان نتفق عليها". قلت: "تفضل بما عندك، ونحن مستعدون للتنفيذ. فكل شيء يهون في سبيل الحصول على معلومات تساعد على كشف ملابسات موضوع الامام ورفيقيه". قال: "ان المخابرات الاميركية على علاقة وثيقة مع ضباط في ليبيا، وهؤلاء يؤكدون وجود الامام فيها، ولا يمكنهم القيام بأي حركة الآن، فإذا كان باستطاعتكم تنفيذ الاعمال التي سأشرحها لك نستطيع الوصول الى نتيجة". قلت: "هات ما لديك". قال: "المطلوب نسف خمس سفارات ليبية في العواصم التالية: لندن، باريس، روما، القاهرة، بيروت. وكذلك خطف بعض الطائرات الليبية، فإن قمتم بهذه المهمة، وهي ولا شك خطيرة، تقوم الدنيا ولا تقعد في ليبيا ويجتمع مجلس قيادة الثورة فيطلب الضباط الذين لنا علاقة بهم من العقيد القذافي اطلاق الإمام لتهدئة الوضع، فإن لم يطلق يقومون هم بانقلاب عليه، وهكذا يكون مبرراً لدى الرأي العام الليبي. وعند ذلك نتعهد عودة الإمام سالماً". بعد هذا الشرح، لاحظ الرجل انني أصبحت في عالم آخر، وانا أسمع كلامه دون ان اتكلم. فسألني: "ماذا بك لا تجيب؟ ما رأيك فيما أقول؟ ألا توافق على هذه الخطة؟". فاستجمعت شجاعتي وقلت له: "يا سيد، انت تطلب خطف طائرات ونسف سفارات في عواصم كبرى بأعصاب باردة جداً، فلا بد انكم علمتم بقيام بعض الشباب في لبنان بخطف طائرة دون طلب من احد لأنهم يحبون الامام ويموتون في سبيله. واعتقل لهذا السبب كثير من الشبان الذين حامت حولهم الشبهات، وانت الآن تطلب ان نقوم بعمل خطير جداً من خطف ونسف بهذا الحجم. ألا تعتقد ان المخابرات الاميركية أقدر منا على ذلك بما لديها من امكانات؟ فلتتفضل ولتقم بهذه الأعمال، وعلينا نحن المشاركة والمساعدة". فارتبك الرجل ونظر الى صديقه ثم قال لي بكل هدوء: "أرى صعوبة في الحديث معك. حبذا لو ارسلتم رجلاً عسكرياً نستطيع التفاهم معه، فهو أقدر منك على فهم مثل هذه الامور والتعاطي في شأنها". فقلت له فوراً: "أنت على حق، سأفعل وسأنقل طلبك هذا الى اخواني في بيروت". وانتهى الاجتماع فودعت الرجلين شاكراً بعدما طلبا منى ألا أنسى ارسال الكتابين المذكورين مع المندوب العسكري الذي يفهم بمثل هذه الامور أكثر مني. أخذت طريق المطار، وأنا لا ألوي على شيء، وعدت الى بيروت على عجل وفي نفسي أشياء ومخاوف من حديث الپ"سي.آي.ايه". المخابرات الاميركية وغيرها من دوائر المخابرات العالمية. ولدى وصولي الى بيروت اطلعت الشيخ محمد مهدي شمس الدين وعائلة الإمام الصدر على ما عدت به من البرازيل، وقلت لهم ان استنتاجي من كل هذه العملية ان هذ العميل للمخابرات الاميركية كان يرغب في الحصول على ما لم يتمكن منه، ولله الحمد، أي الوصول بأية وسيلة خداع كانت الى وثائق موقعة من شخصيات مهمة ترفع من شأنه لدى رؤسائه. طبعاً، صرف الشيخ شمس الدين وآل الصدر النظر عن ارسال أي مندوب عسكري أو غيره، بعدما توضحت لهم هذه اللعبة الخبيثة... بشير الجميل بعدما بلغ الاجتياح الإسرائيلي مشارف بيروت عام 1982 وتصدت له المقاومة الوطنية وأوقعت في صفوف جيش ارييل شارون خسائر فادحة، جن جنون شارون وشرع في قصف العاصمة برا وجوا وبحرا، غادرت وعائلتي على اثره، مع من غادروا، في اتجاه المناطق الشرقية بعدما فتحت الطرق لتسهيل المرور. واستقررت في بلدة برمانا فندق "برنتانيا". وبعد أسبوع من وصولي الى برمانا اتصلت بي إدارة الفندق وقالت: "في الصالون شخص يطلب مقابلتك". فخرجت من غرفتي الى الصالون، فتقدم نحوي شخص لا اعرفه فرحب بي وقال: "احمل اليك رسالة شفوية من الباش"، أي الشيخ بشير الجميل قائد "القوات اللبنانية". فوجئت بالرسالة وتساءلت: ترى ماذا يريد الشيخ بشير مني في هذه الظروف الحالكة، والحرب الشرسة بين "الشرقية" و"الغربية" قائمة، مع العلم ان بيني وبين والده الشيخ بيار الجميل مودة وصداقة تعودان الى الأربعينات أيام قمنا معا، الكتائب والنجادة، بمقاومة مشتركة عند اعتقال الحكومة الشرعية وإلغاء الدستور وقيام التظاهرات الصاخبة ضد سلطات الانتداب. بالإضافة الى ان بين ولدينا باسل وبشير رفقة دراسة، إذ كانا معا يدرسان الحقوق في اليسوعية، وصداقة الأهل تقرّب بين الأبناء طبعا، واصبحا يتبادلان الزيارات البيتية. قال لي رسول "الباش" انه "يريد الاجتماع بك إذا لم يكن لديك ما يمنع". فأجبت: "اني مستعد لهذا اللقاء ولكن كيف؟ ومتى؟". وبعد يومين عاد الرسول وأبلغني: "ان الشيخ بشير سيوافيك الى مكان معين وسآتي لاصطحابك اليه" وقفل عائداً. ثم جاء بعد يومين واصطحبني الى "المكان المعين" فاذا هو منزل الدكتور جان غانم الكائن في محلة الحازمية، وهو المقرّب جدا من الشيخ بشير. فرحب بي صاحب البيت وجلسنا قليلا، فقامت ضجة في الخارج رافقتها قرقعة سلاح. فقال الدكتور غانم: "لا بد ان الشيخ بشير ومرافقيه قد وصلوا". ودخل الشيخ واختلينا معا في إحدى غرف المنزل وشرع في الحديث فقال: "عندي أشياء لم أجد اقرب منك للإفضاء بها اليه، لذلك رغبت في هذا الاجتماع". وأضاف: "تعلم انني مرشح لرئاسة الجمهورية، وقد أعلنت رغبتي على الملأ قبل ان يبدأ الحديث في الانتخابات. وأول ما فكرت فيه هو معرفة ماذا يريد المسلمون في لبنان. وما هي شروطهم ليؤيدوا ترشيحي، ونتعاون معاً على إعادة بناء لبنان وسدل الستار على الأيام السود التي مررنا بها. فكيف السبيل الى عقد اجتماع مع الزعماء المسلمين او بعضهم؟ فعندي أشياء مهمة أقولها لهم تتعلق بالمستقبل، وقبل إنجاز الاستحقاق الدستوري والانتخاب". قلت: "لا املك جوابا فوريا الآن، لا سيما اني هنا الآن كما ترى وقد تعطلت أسباب اللقاء بمن تريد الاجتماع اليهم. انما لي صديق لا بد انك تعرفه هو الأخ محمد شقير على صلة دائمة بشخصيات اللقاء الإسلامي ومن المفيد إشراكه في الأمر". فوافق وقلت: "لكن كيف السبيل للانتقال الى غرب بيروت الآن وأنت تعرف الصعوبات مع الأسف؟". قال: "علي أنا تأمين نصف الطريق والنصف الآخر عليك". وبالفعل أرسل معي سائقاً ليقود سيارتي الى الحازمية ومنها انتقلت الى غرب بيروت حيث قمت ببعض الاتصالات وعدت برفقة الأخ محمد شقير الى منزل الدكتور جان غانم، وكنا اتفقنا سابقاً على الموعد. ولاحظ الأخ محمد انني اعتصم بالصمت، ونحن في الطريق الى الاجتماع. فسأل: "ما وراء هذا الصمت يا زهير؟". فقلت: "اسمع يا صديقي، عندي ما يشغل بالي. فأنا اعرف طباعك وسرعة غضبك، اذا لم ترق لك الأشياء أحيانا. ونحن الآن في الطريق الى اجتماع مهم ستثار فيه أمور حساسة، فرجائي اليك ان تلوذ بالصبر والحكمة وتملك أعصابك وأنت تحاور الشيخ بشير، فقد نخرج من هذا اللقاء بما يفيد وينفع هذا البلد المعذب". فوعدني خيراً وانه سيفكر ب "أيوب" دائما وسيكون عند حسن الظن. ... ها نحن في منزل الدكتور غانم وجها لوجه مع "الباش" الذي بدأ حديثه بالأسباب التي أدت الى التباعد بين جناحي لبنان، وأخذ على المسلمين انهم "تعاطفوا مع الفلسطينيين وناصروهم حتى اصبحوا دولة ضمن الدولة". وان "تجاوزاتهم تخطت الحدود، وهي التي أوصلتنا الى هذا المصير". ورد عليه محمد شقير وفنّد التهمة وعدد أخطاء الآخرين وسوء تصرفهم. فانتفض الشيخ بشير وقام وقعد وعلا صراخه فنظر الي محمد شقير نظرة طويلة، وهو يوجه كلامه الى الشيخ بشير ويقول له: "لقد أرحتني. الله يريحك". وسأله الشيخ: "شو بتقصد يا أخ محمد؟". قال: "لقد فلقني زهير طول الطريق وهو يتحدث عن فلسفة الصبر والصابرين ومنافع هدوء الأعصاب عندما نجتمع، وان لا انفعل عندما أتحدث معك. واذ بي أرى الآن ان أحدا لم ينصحك ويحدثّك عن أعصابي". فضحك الشيخ بشير طويلا وعادت الرطوبة الى الجو. وانفض الاجتماع وعاد محمد شقير الى إخوانه في "اللقاء الإسلامي" واطلعهم على ما دار في اجتماع الحازمية، وان الشيخ المرشح للرئاسة مستعد للاجتماع بهم والاستماع الى ما يطلبون. واجتمع "اللقاء الإسلامي" لتداول الحديث الذي نقله إليهم الأخ محمد شقير، وانقسم الرأي وبخاصة ان أكثرهم لم يكن يحبذ وصول الشيخ بشير الى سدة الرئاسة بسبب مواقفه المعروفة، والاتجاه عندهم يميل الى ترشيح كميل شمعون. واختلفت الآراء ثم تم الاتفاق أخيرا على ان يحصل الاجتماع مع الشيخ بشير أولا، وفي ضوء نتائج هذا الاجتماع يتخذ القرار المناسب. وانتدب الرئيسان صائب سلام وتقي الدين الصلح لحضور الاجتماع بالشيخ بشير، على ان يصير الاجتماع في القصر الجمهوري باعتبار ان الرئيس الياس سركيس شهابي النهج، ويرتاح اليه اهل اللقاء، لكن الرئيس تقي الدين الصلح اعتذر ورأى ان يمثل صائب بك "اللقاء الإسلامي" منفردا. وعدنا محمد شقير وأنا الى الاتصال بالشيخ بشير وأبلغناه القرار الذي اتخذه اللقاء والموافقة على الاجتماع على ان يكون مكانه في القصر الجمهوري، فرحب بذلك وهنا سأل الشيخ بشير محمد شقير: "من هو مرشح اللقاء الإسلامي للرئاسة". فأجابه بأن "الاتجاه يميل الى كميل شمعون". فرد الشيخ بشير: "خذوا علما ان كميل شمعون ليس مرشحا، وابلغني شخصيا انه لن يترشح، ولمعلوماتكم أيضا ليس هناك مرشح غيري". وطلب منا ان نبلغ اللقاء انه يوافق على ان يكون الاجتماع يوم السبت المقبل وفي القصر الجمهوري كما يريد اللقاء. انتخاب الشيخ بشير قبل انعقاد الاجتماع بين الشيخ بشير و"اللقاء الإسلامي" حدثت مفاجأة غير منتظرة، اذ دعا رئيس مجلس النواب كامل الأسعد النواب الى عقد اجتماع لانتخاب رئيس الجمهورية، وعيّن المكان في ثكنة الجيش في الفياضية. وقاطع معظم النواب المسلمين الجلسة وحضر منهم المقيمون في المنطقة الشرقية فقط، كما هو معروف، وانتخب الشيخ بشير رئيسا بعد ما استعملت جميع الوسائل لتأمين هذا الانتخاب وقبل يومين من موعد الاجتماع في القصر الجمهوري المقرر يوم السبت، دعا وزير الأشغال يومئذ الياس الهراوي فريقا من أصدقائه الى غداء في منزله، حضره الأباتي شربل قسيس رئيس الرهبانية المارونية، وتقي الدين الصلح، ونصري معلوف ومحمد شقير وأنا. ومن منزل الهراوي اتصل محمد شقير بالسيد زاهي البستاني، أحد مساعدي الشيخ بشير، وذكّره بالموعد المعين يوم السبت مع الشيخ، فرد البستاني: "اي اجتماع يا صديقي؟ فالوضع تغيّر الان، وتم انتخاب الشيخ بشير رئيسا للجمهورية، والأصول تقضي بان يتقبل التهاني أولا في منزله من اللقاء الإسلامي قبل انعقاد الاجتماع، ثم يتفق مجددا على المكان المناسب والموعد الذي يحدده الرئيس المنتخب". فغضب محمد شقير وسأله: "ما هذا المنطق يا زاهي؟". فأصر زاهي البستاني على موقفه ونرفز محمد شقير وصاح به: "صحيح بعدكم ولاد". واقفل الخط. وعاد الى المجتمعين في منزل الهراوي وأبلغهم حديث البستاني فقال الأباتي شربل قسيس: "ربما زاهي البستاني على حق، والواجب يقضي بزيارة الرئيس أولا لتقديم التهاني، ثم يصير البحث في الاجتماع". فلم يوافق أحد على هذا الاقتراح. واتصل محمد شقير بالرئيس سركيس الذي كان يؤيد ضمنا انتخاب الشيخ بشير، كي يتدخل لإقناع الشيخ "بان يتم الاجتماع أولا في القصر بحسب الاتفاق"، فاعتذر الرئيس سركيس وقال: "أنا لا أستطيع ان أتدخل بمثل هذا الأمر". وكلف الوزير الهراوي المهمة ذاتها فقال: "اعفوني من هالشغلة". وخيم السكون على الجميع. هنا رأيت أن أقوم أنا بمحاولة أخيرة لإنقاذ الموقف، فنهضت وخرجت من الصالون الى الدار وسألت السيدة منى الهراوي: "هل هناك تلفون آخر غير ذلك الموجود بالصالون؟ لأنني لا أريد ان أزعج الجماعة، فعندي مكالمة خاصة ليس من المصلحة ان يسمعها أحد". فقادتني الى غرفة اخرى فيها تلفون خاص فاتصلت "بالمجلس الحربي" قيادة "القوات اللبنانية" وقلت للمتحدث: "أنا فلان، الرجاء إبلاغ فخامة الرئيس الشيخ بشير انني أود التحدث إليه لأمر مهم جدا". وأعطيته رقم الهاتف الذي تكلمت منه وعدت الى الصالون. وبعد دقائق رن الهاتف في الغرفة الثانية فاستدعتني السيدة منى الهراوي وقالت بصوت خافت: "تلفون من المجلس الحربي، شو القصة يا زهير؟" قلت: "سوف تعلمين بعد عودتي". وقال المتحدث من المجلس الحربي: "الشيخ بشير ينتظرك الساعة الثانية تماما في مكتبه بالمجلس الحربي". وفي الموعد، توجهت الى المجلس الحربي واستعنت بسائق الياس الهرواي، فسألني السائق في الطريق: "من تريد ان تقابل هناك؟" فانزعجت من سؤال السائق وسألته بدوري: "لماذا تسألني؟" فقال: "لأن الشيخ بشير اصبح وراء سيارتك". فقلت للسائق: "افتح له الطريق ودعه يمر، لان موعدي معه". وتبعته حتى المدخل والتقينا في الساحة العامة، فقال: "أمر، ماذا تريد؟" قلت: "هناك شيء طارئ أريد التحدث معك على انفراد". فقال: "هيا معا الى المكتب". فدخلنا وقال: "أهلا وسهلا. هل عندك مانع ان يحضر الاجتماع زاهي البستاني؟" فترددت لحظة لأنني جئت لاشكو موقف زاهي البستاني واستوضح موقفه الجديد ثم أجبت: "كما تريد". وقال: "ما وراءك؟" فأطلعته على الأزمة القائمة بسبب الاجتماع المتفق عليه، وكيف ان زاهي البستاني قال ان الأمور تغيّرت ونقلت له فحوى الحديث فرد بالقول: "انا لا أتوقف عند هذه الشكليات، فالاجتماع في القصر قائم، وسأحضر في الموعد المحدد. تحياتي للإخوان". غادرت المجلس فرحاً بهذا الإنجاز، وعدت الى منزل الهراوي متأخرا عن موعد الغداء، ورأيت الرفاق حول المائدة فتساءلوا: "أين كنت؟ خير إن شاء الله!" قلت: "لقد كنت في موعد أهم من الطعام". وأطلعتهم على اجتماعي بالشيخ بشير والتوصل معه الى حل لازمة اجتماع القصر. فصاح تقي الدين الصلح بغضب: "ولماذا قمت بهذه المهمة قبل ان نتشاور؟". فضحك الجميع وعلق نصري المعلوف: "لماذا الغضب يا دولة الرئيس؟ لقد قام بعمل جيد يشكر عليه". وكان ان انفرجت الأزمة وشكلياتها وعقد الاجتماع في القصر الجمهوري بين الرئيس المنتخب والرئيس صائب سلام وأسفر عن شبه تفاهم تام. اذ سأل الشيخ بشير صائب بك: "ماذا يريد المسلمون ليطمئنوا؟ أنا مستعد لاعطائهم اكثر مما يطلبون. فالتعيينات في عهدي ستكون بمعدل تسعين في المئة للمسلمين حتى يتحقق التعادل وبعد ذلك الكلمة للكفاية والولاء للوطن، والرجل المناسب في المكان المناسب، ونبني معاً دولة المستقبل". لكن الوعود والآمال ذهب بها القدر اذ بعد يومين كان الشيخ بشير في ذمة الله بفعل انفجار بيت الكتائب في الاشرفية. * يصدر كتاب "زهير عسيران يتذكر، المؤامرات والانقلابات في دنيا العرب" عن دار النهار في بيروت الشهر المقبل