هل يعكس إعلام الفضائيات العربية المجتمعات العربية أم أنه عامل من عوامل تغيير الواقع؟ هل تبث نشرات الأخبار الفضائية الحقيقة؟ هل برامج الأخبار على فضائياتنا هي مجرد تغطيات للحدث أم أنها رسائل سياسية أو ربما غايتها الإثارة؟ هل تدعم برامج الحوارات"الصراخية"السياسية التغيير أم أنها تكرس الوضع القائم؟ وهل الحوارات الاجتماعية الفضائية تهدف إلى دعم عجلة التغيير الاجتماعي والسياسي أم انها مجرد تحطيم للتابوهات العربية؟ هل غَيّر تلفزيون الواقع العربي من سلوكيات الجمهور العربي؟ وهل يمكن نانسي وهيفا وروبي أن يساهمن في جعل العالم العربي ديموقراطياً؟ عشرات الأسئلة الباحثة عن أجوبة، ليست بالضرورة شافية، طُرحت في ورشة عمل عنوانها"الإعلام الجديد وعملية التغيير الاجتماعي - السياسي في العالم العربي"، وكانت استضافتها العاصمة اللبنانية يومي 1 و2 حزيران يونيو الجاري. أما جدول أعمال الورشة التي نظمها المركز اللبناني للدراسات بالتعاون مع مؤسسة كونراد أديتاور الألمانية فحاول النظر في خلفية ما تبثه الفضائيات العربية وسبل الإعلام الجديدة التي غزت العالم العربي، وهي ذات تقنية مستوردة وفحوى متأرجحة بين الاقتباس الغربي وحدود الهوية العربية، والمعرضة لكم هائل من الاتهامات بالتآمر، والتطييف، والتسييس، والأمركة، والأسلمة إلى آخر القائمة. إنحياز المؤكد أن المواطن العربي متشوق إلى مناقشة الأحداث الجارية على الساحة السياسية، وهذا ليس بغريب، فهذا المواطن نفسه ظل محروماً من هذا الحق لعقود، منذ دخل التلفزيون عالمنا العربي في مطلع الستينات من القرن الماضي وإلى مطلع التسعينات مع بدايات تقنية الفضائيات - هذا ما يؤكده الإعلامي غسان بن جدو من تلفزيون"الجزيرة"الذي لا يرى أملاً في القنوات التلفزيونية الرسمية نظراً لارتباطها بحكومات. لكنه أيضاً لا يرى الفضائيات العربية الخاصة من دون مشاكل""ففي لبنان مثلاً، إن لم تكن برامج محطة ما منحازة لجهة ما، فهذه مشكلة إذ كثيراً ما يرفض طرف ما المشاركة في برنامج في حال وجود طرف ثانٍ ومعارض للأول، محاولاً بذلك إلغاء وجود هذه المعارضة". ولذلك يرى بن جدو أن ليس على الإعلام أن يكون حيادياً، بل عليه أن يكون موضوعياً،"فلا حيادية في البرامج السياسية والحوارية. ولفت بن جدو إلى ظاهرة أخرى في البرامج الحوارية الفضائية العربية بحيث يميل الضيوف إلى الحديث المطول، والأسلوب الإنشائي والحشو والديباجة، وبعد ساعات من"الحوار"يخرج الضيف وهو يشعر أن الوقت لم يكن كافياً ليقول ما أتى ليقوله. مأزق آخر تقع فيه البرامج الفضائية العربية، لكنه هذه المرة من نصيب البرامج ذات الطابع الاجتماعي، إذ ترى الأستاذة في كلية العلوم والتوثيق الدكتورة نهاوند القادري عيسى أن البرامج الاجتماعية على الفضائيات العربية متشابهة لأنها تتبع الآلية نفسها، وهي أصبحت بديلاً لمكبوتات وصراحة مفقودة في مجتمعاتنا. وثمة مواضيع مرفوض سلفاً البحث فيها داخل معظم العائلات - والمأزق - كما تراه عيسى - أن هذه البرامج لشدة التكرار تستهلك المواضيع والمشكلات، وتتعامل معها من طريق السبق الصحافي أو الحكي لتسجيل الموقف. من ضمن البرامج الفضائية العربية التي نجحت في تسليط الضوء على المشكلات المخبأة والمكبوتة في مجتمعاتنا - وربما من دون قصد منها - برامج تلفزيون الواقع. الاستاذ في جامعة الملك عبدالعزيز الدكتور عبدالسلام السليمان قال إن هذه البرامج - لا سيما ذات الطابع الفني مثل"ستار أكاديمي"- أوضحت أن ثمة مشكلات يحملها الإنسان ولا يعلم أنه يحملها"فمثلاً حازت هذه البرامج نسبة مشاهدة عالية بين الشباب لأنها عكست طبيعة العلاقة بين الجنسين في عالمنا العربي. وإضافة إلى متعة التلصص على حياة الآخرين والتي يتيحها تلفزيون الواقع، فإن مثل هذه البرامج أتاحت للجميع مشاهدة مراحل انتقال الشخص من الكواليس إلى بؤرة الاهتمام، و أتاحت أيضاً الفرصة والأمل لأشخاص مجهولين كي يتسلقوا الهرم الفني بسرعة كبيرة. ويرى السليمان بصيصاً من أمل ينبع من برامج تلفزيون الواقع العربية قد ينعكس سياسياً -"فهي قدمت صورة نموذجية للمشاركة، فاعتلاء القمة يكتسب الشرعية من الجماهير، واعتلاء السلطة من خلال اختيار جماهيري فكرة جديدة في عالمنا العربي". ومن الأفكار الجديدة كذلك في عالمنا العربي انخراط الرقص والغناء في اللعب على أوتار الأنماط السائدة من قيم وعادات وتقاليد وغيرها، وهو ما نراه يومياً من خلال نحو 20 قناة فضائية عربية غنائية راقصة. وقد عرضت"الحياة"وجهة نظر في شأن الفيديو كليب المتأرجح بين الإثارة والقدرة على التغيير المضمر"فالكبت الجنسي والسياسي الذي ظل - وما زال - ملازماً للمواطن العربي، أمامه فرصة وقنوات للتنفيس تحت مسميات فنية وإبداعية. وعلى ما يبدو فإن قنوات الفيديو كليب بدأت تلعب دور"المعالج النفسي"للملايين من المحبطين والمكتئبين والمفلسين والعاطلين عن العمل والمحرومين - فعلى القنوات الإخبارية لا يجدون سوى أخبار امتهان العراقيين، وقتل الفلسطينيين، والأزمة في لبنان، والتخبط في مصر، والإذلال الذي تتعرض له المنطقة برمتها والمقروء ضمناً بين سطور تصريحات البيت الأبيض، و10 دواننغ ستريت. وفي خضم كل هذا يُقّلب المواطن قنوات التلفزيون وتستقر به الحال عند برنامج ديني معاصر يرد على أسئلة الشباب الدينية، فيجد أن الأسئلة التي تشغل البال وتمنع المنام على وتيرة: هل الدباديب حرام؟ وهل ممارسة اليوغا حرام؟ وهل الاحتفاظ بالكؤوس والتماثيل في البيت حرام لأنها تشبه الأصنام؟ وهل يجوز للمرأة أن تصلي من دون ارتداء جوارب؟ وهل تحاسب المرأة لو فضلت التردد على طبيب رجل على رغم وجود طبيبة امرأة؟ وهل دخول المرأة الانترنت من دون محرم حلال؟ وهل عمل المرأة الطبيبة في مستشفى يرتاده الذكور حرام؟ إنتعاش سوق الفيديو كليب وبين هذا وذاك ملايين من الشباب المتلطعين في المقاهي وعلى النواصي وفي المراكز التجارية من متخرّجي الجامعات والباحثين عن وظيفة تضمن لهم دخلاً شهرياً يريحهم مادياً من أهلهم، وذلك بعد ما أنكرتهم الوظائف الحكومية التي لم يعد فيها موطئ قدم، وبعدما لفظتهم سفارات الدول الغربية وأغلقت أو كادت كل"ثغرات"السفر أو الهجرة. وفي هذا الجو المهيأ تماماً لانتعاش سوق الفيديو كليب، بدأت هذه الصناعة تفهم وتجيد لغة الجمهور أو المتلقي على الطرف الآخر، فظهر من يتقن استفزاز المشاعر وتهييجها، ثم تهدئتها، ومغازلتها، ومن ثم استثارتها مرة أخرى، واللعب على الأوتار الحساسة والضعيفة. ان أغاني الفيديو كليب من نوعية ما تقدمه نانسي عجرم، وروبي، ونجلا، وبوسي سمير، وغيرهن ممن يعشن معنا في غرف جلوسنا في صيغة يومية على مدار الساعة، تؤصل قيم"الجرأة"وكسر"تابو"الإثارة، وقد ينتج عنها أعراض جانبية عدة - وأحد أبرز هذه الأعراض أن تسفر أغاني الفيديو كليب - ولو عن غير قصد - عن نشر أو تعميق أفكار عن التعددية وحرية الاختيار، وكيفية عمل هذا الاختيار، والتخلص من فكرة"الدولة الوصي"وربما في نهاية المطاف قليل من الديموقراطية. وشئنا أم أبينا، فأن العولمة وصلت بلادنا وتسربت إلى حياتنا وعملنا وبيوتنا وأبنائنا وآبائنا وحتماً إلينا، وهي عابرة للقارات خارقة لوسائل الحماية والوصاية والرقابة الفردية والأسرية والحكومية. ويمكن تلخيص الوضع الحالي كالآتي: الرقابة والوصاية - أو ما تبقى منهما - إلى زوال، والفضائيات وتقنيات المعلومات الحديثة عابرة الثقافات والحضارات وجدت لتبقى، والمتلقي العربي واقع بين شقي رحى، فهو خارج لتوه - أو مقبل على الخروج - من عقود وقرون طويلة من المنع والوصاية، وأنظمة كثيرة سائدة منشغلة ببذل محاولات مستميتة للحفاظ على مقاعدها لأطول فترة ممكنة، وبالتالي فإن فحوى ما تقدمه الفضائيات لا يهمها كثيراً ما دام بعيداً من السياسة. هناك جيل بأكمله من العرب يوشك على الدخول في مرحلة المراهقة، وهو مشبع بالفيديو كليب معتبراً إياه جزءاً لا يتجزأ من واقعه، وجيل آخر يغادر مراهقته متوجهاً إلى شبابه وقد كون الفيديو كليب جانباً من نظرته للحياة، إما باعتبار فحوى الكليب أملاً يصبو إليه، أو باعتباه شراً تجب محاربته ومناهضته - أما الكبار، فمنهم من عاش ليشهد ولادة الفيديو كليب ومر في مراحل الاستهجان والتقبل فالاعتياد، ومنهم من يوشك أن يودع الحياة الدنيا وهو سعيد بأنه سيبرح العالم الذي سمح بهذا التردي والاهتراء. وإن كان ذلك لا يعني أنه استمتع باختلاس نظرة هنا ورنوة هناك بينما كان يلعن اليوم الذي دخل فيه الفيديو كليب بيته.