1991 -2011، عامان ستُحفر حروفهما عميقاً في تاريخ التلفزيون. في الأول عرف صندوق العجب لحظة مجد حقيقية، وفي الثاني، ذاق طعم الانكسار فالانتصار. وما بين الاثنين، عشرون عاماً، ارتاح فيها التلفزيون لأمجاده، ظناً منه أن لقب «وسيلة الإعلام الأكثر شعبية وتأثيراً» لن ينافسه عليه احد. ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان. هبّت رياح التغيير فجأة، آخذة في طريقها كل شيء، هازّة عرش التلفزيون كمحرك للأحداث، مستبدلة اياه بمنافس شرس اسمه «فايسبوك». وشتّان ما بين بداية التسعينات من القرن الماضي والألفية الجديدة. ففي حرب الخليج الثانية، نجح التلفزيون، وتحديداً من خلال شبكة «سي أن أن» في ان يكون لاعباً اساسياً باحتكاره المشهد الإعلامي السياسي، الى حد اعتبرت معه الكاتبة الأميركية سوزان سونتاغ أن القناة الأميركية «حولت الحرب الى لعبة فيديو شغلت البلاد وأثارت المهتمين بالتكنولوجيا». وفي زمن الثورات العربية، انتزع لاعب جديد دور المحرك الأساس متحدياً حاجز الرقابة في عالم عربي مقيّد بألف قيد وقيد، الى درجة اعتبر كثر ان «فايسبوك» هو المسؤول عن إطاحة ثلاثة أنظمة استبدادية. لكن، هل خسر التلفزيون فعلاً المعركة لمصلحة الانترنت؟ مهما قيل او يمكن ان يقال حول انسحاب البساط من تحت قدمي التلفزيون لمصلحة وسائل إعلام تخاطب الشباب بلغتهم، فإن كلام الأرقام يدلّ على ان الشاشة الفضية خسرت الجولة الاولى في معركة الحريات من دون ان تخسر المعركة. وفي هذا السياق، يمكن الاستناد الى إحصائية أجريت في الأردن لمصلحة «مركز حماية وحرية الصحافيين»، تشير الى ان التلفزيون يتصدر قائمة المصادر التي يتابع من خلالها الأردنيون الثورات العربية بنسبة 98 في المئة مقابل 29 في المئة للانترنت. وفي مصر، كشف استطلاع لشركة «سينوفت» حول قياس آثار الثورة على المصريين ان 75 في المئة من المشاركين في الدراسة ارتفعت نسبة مشاهدتهم للتلفزيون عما قبل الثورة. كما ارتفع ترتيب القنوات الإخبارية من المركز الرابع الى الصدارة بعد الثورة، من دون ان ننسى ولادة فضائيات كثيرة باسم الثورات العربية، أو تحوّل أخرى عامة الى السياسة لمواكبة التغييرات والوقوف عند مزاج المشاهد. وبعيداً من لغة الارقام، يكفي فضائيات مثل «الجزيرة» و«العربية» فخراً ان تتهمها أنظمة مخلوعة او محتضرة بفبركة الأخبار. كما تكفي نظرة الى التظاهرات التي عمّت الشوارع العربية، للتيقن من أثر الفضائيات على الحراك الشعبي في العالم العربي. وهنا، تندرج لافتات كُتب عليها «شكراً الجزيرة» او «شكراً العربية» بالتوازي مع لافتات حملت كلمتي «شكراً فايسبوك». ولئن كانت الابواب موصدة امام كاميرات هذه القنوات في عدد من بلدان الحراك، ابتدعت ضرورات الثورة مهناً تلفزيونية جديدة في عالمنا العربي، فشاعت، مثلاً، مهنة «كل مواطن صحافي» أو مهنة «شاهد العيان» وسواهما من المصطلحات الفضائية التي عرفها عام 2011. كما عرف هذا العام نوعاً جديداً من البرامج السياسية، أُطلق عليه عنوان «حوار الكراسي»، ويستند إلى قدرة الضيوف السياسيين الجسدية بدلاً من التركيز على قدرتهم الذهنية. اول الغيث، انطلق من لبنان في معركة بالأيادي عبر «أم تي في»، ثم كرّ الاستنساخ عبر معركة مشابهة على التلفزيون الأردني وتلفزيونات اخرى. وإذا كانت القنوات الإخبارية الكبرى، عرفت كيف تخاصم الأنظمة التي انتفضت في وجهها شعوب لم تذق طعم الحرية، بتسليط الضوء على الاحتجاجات والتظاهرات، فإن «الربيع العربي» دق المسمار الأخير في نعش القنوات الرسمية التي دأبت على مغازلة أنظمة بلادها، ثم انقلبت عليها بعد سقوطها وكأن شيئاً لم يكن. في المقابل، اتخذت دول لا تزال صامدة في وجه رياح التغيير، سبلاً وقائية، وفي طليعتها تحرير القطاع السمعي-البصري بين إصلاحات أخرى، مثلما حدث في الجزائر التي اصدرت حكومتها قانوناً يجيز إنشاء قنوات خاصة بعد نصف قرن من سيطرة الإعلام الرسمي واحتكاره المشهد الإعلامي. امام هذا الواقع، يصبح ملحّاً السؤال الذي شكل محور احد اجتماعات الدورة الواحدة والثلاثين للجمعية العامة لاتحاد اذاعات الدول العربية: «ما هو مستقبل الإعلام الرسمي العربي؟ وربما تكون الإجابة الاقرب الى المنطق في ما آلت إليه النقاشات حول ضرورة الانتقال من إعلام سمعي-بصري حكومي الى إعلام الخدمة العامة، استناداً الى تجربة «هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي). وفي مقابل أفول عصر الإعلام الرسمي، شهدت الفضائيات الإخبارية انتعاشاً، إذ بيّنت دراسة أصدرتها مجموعة المرشدين العرب بعنوان «أسعار الإعلانات عبر القنوات الفضائية في العالم العربي 2011»، أن أعلى معدل لسعر الإعلانات في التلفزيونات العربية كان على القنوات الإخبارية الفضائية، ووصل معدل سعر الإعلان لثلاثين ثانية خلال وقت الذروة إلى 5,419 دولار. كما أمكن متابع الإعلام الأجنبي، رصد عشرات المقالات التي تناولت أثر الفضائيات في «الربيع العربي»، مثل تحقيق «تايمز» اللندنية بعنوان «الجزيرة والعربية وبي بي سي»... اشعلت التظاهرات في مصر وفشلت في ليبيا، او مقالة لمجلة «فورين بوليسي» الأميركية، رأت ان «توقعات بعض العرب بأن قناة «الجزيرة» ستساعد في اندلاع ثورة شعبية في الشرق الأوسط، اصبحت حقيقة». ويبقى ما قالته وزيرة الخارجية الاميركية هيلاري كلينتون من ان «لقناة «الجزيرة» الريادة والسبق في تغيير طريقة تفكير الناس وتشكيل توجهاتهم»، شهادة كبيرة على الدور الاجتماعي - السياسي للتلفزيون. بعد هذا كله، هل هناك ما يُقال عن تراجع دور التلفزيون في زمن «الربيع العربي»؟