تكاد الدائرة تكتمل، وتعود الصين إلى مكانتها في سلم أولويات السياسة الخارجية الأميركية. إن التركيز الشديد في الآونة الأخيرة على المسائل الخلافية، التقليدية والناشئة، في العلاقات بين الولاياتالمتحدةوالصين، يثير الظنون بأن جماعة الحكم في أميركا بدأت تستعد لحملة الرئاسة المقبلة. لا يستعدون بالبحث عن شخص بعينه، فهذا أيضاً لم يفعلوه خلال الاستعداد لحملة انتخابات عام 2000، وإنما يستعدون بالقضية التي سيجتمع حولها الناخبون الأميركيون. هؤلاء الناخبون الذين بُذل في تعبئتهم وطنياً ويمينياً جهداً واضحاً خلال السنوات الست الماضية، ولا قضية تستحق هذا الحشد الوطني اليميني أكثر من قضية دولة صاعدة بسرعة وحزم لتتبوأ مكانة القطب المنافس للولايات المتحدة، فما البال والدولة هذه هي الصين التي عوملت من جانب الولاياتالمتحدة معاملة الدول الشريرة، وتكونت لها سمعة سيئة لدى الرأي العام الأميركي، وفرضت عليها العزلة لأكثر من ثلاثين عاماً، وكان يمكن أن يستمر تطويقها لمدة أطول لولا حاجة كيسنجر ونيكسون إلى الخروج من فيتنام. وبتدرج متصاعد ومكثف تتكون حالياً صورة قد تكون أسوأ كثيراً من الصورة التي كانت عليها الصين قبل زيارة كيسنجر السرية لباكستان والصين عام 1972. فالصين يدعون أنها سبب البطالة في أميركا، وبخاصة بطالة عمال النسيج والملبوسات بسبب انخفاض أسعار صادراتها من المنسوجات إلى أميركا وأوروبا الغربية. والصين يتهمونها بأنها تهدد أميركا، والغرب عموماً، بأزمة اقتصادية حادة لأنها تتعمد الإبقاء على عملتها المحلية اليوان فوق مستواها الحقيقي مقارنة بالدولار الأميركي، والصين أذنبت حين تجاوز إنفاقها على التسليح حدود الإنفاق على الدفاع في دولة لا تهدد أمنها دولة أجنبية أو صراعات حدودية أو إقليمية. ومن ناحية رابعة يتهمون الصين بالتقصير في دور واجب القيام به للمساعدة على فرض إرادة واشنطن على بيونغ يانغ في ما يخص الموضوع النووي. ويكتب معلقون أميركيون اعتادوا إثارة زوابع الخوف لدى المواطن الأميركي من تهديد خارجي أو آخر، يقولون إن الصين تتعمد في الآونة الأخيرة رفع مستوى التوتر في شرق آسيا. ولا دليل لدى هؤلاء أقوى من التهديد الذي تعرضت له اليابان على أيدي متظاهرين صينيين احتجوا على الغطرسة اليابانية في التعامل مع جرائم الحرب العالمية الثانية وما قبلها. كذلك يتعمد دبلوماسيون أميركيون، ومفكرون في مراكز صنع السياسة الخارجية الإشارة إلى العدد الكبير من اتفاقات ومعاهدات الصداقة التي وقعتها بكين أخيراً مع دول أجنبية، ومن بينها دول لا تتمتع بالرضاء الأميركي مثل فنزويلا وزيمبابوي ونيبال وبورما. تعني هذه الاتفاقات، وبعضها أمني ودفاعي ولكن أكثرها اقتصادي، لهذا التيار المتصاعد بجنون ضد الصين في الولاياتالمتحدة، شبكة تحالفات تقيمها الصين بهدف عزل الولاياتالمتحدة وإضعاف مكانتها في كل مكان، وبخاصة في ساحتها الخلفية أي أميركا اللاتينية وفي أفريقيا، وبالتأكيد، حسب هؤلاء، في آسيا. ويدللون الى ذلك بسعي الصين الذي تحقق بإنشاء جماعة إقليم شرق آسيا لا تضم الولاياتالمتحدة رغم إلحاحها. وتكاد الحملة الناشبة ضد الصين في كثير من أجهزة الإعلام الأميركية تغطي كل شيء يتفوه به المسؤولون الصينيون أو يمارسونه، إلى جانب التركيز على المشكلات الاجتماعية التي ترافق عملية الصعود. فأوضاع حقوق الإنسان تزداد تدهوراً، وعلاقات التوتر الاجتماعي بادية في الريف وضواحي المدن، والفجوة بين الأغنياء والفقراء تتسع، وكذلك الفجوة بين المناطق الصناعية والريف. وتعددت في الآونة الأخيرة التقارير الصحافية التي تتحدث عن مشكلات تثيرها الأقليات الصينية في جنوب آسيا، وبخاصة في ماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة، وعن عمليات تجسس يقوم بها الصينيون في أستراليا. وكان من الممكن عدم التوقف كثيراً عند هذه الحملة لولا أن دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي ألقى بقنبلة دبلوماسية شديدة الصدى في شكل خطاب معد سلفاً ومخصص له منبر محاط بالانتباه الإقليمي والدولي، اتهم فيه الصين بأنها تجاوزت الحدود في الحصول على أسلحة حديثة وزيادة الإنفاق على الدفاع. وقال إن هذا الإنفاق العسكري هدد التوازن الأمني الدقيق في آسيا، لأنه، وبخاصة الإنفاق على إنتاج الصواريخ والتكنولوجيا المتطورة، يهدد تايوان والمصالح الأميركية ودول في آسيا. وتساءل عن دوافع هذه الزيادة في وقت لا تتعرض فيه الصين إلى تهديد خارجي. وقال إنه إذا لم تنفتح الصين وتفتح مجتمعها فسوف"ننمي علاقاتنا مع الهند بينما سنضعف علاقاتنا مع الصين"، فكان قولاً غريباً لأنه احتوى على تهديد بإعلان العداء الصريح. جاء خطاب رامسفيلد الذي ألقاه أمام المشاركين في مؤتمر في سنغافورة عن الأمن الآسيوي مفاجأة للكثيرين في آسيا، وفي أميركا ذاتها، وأظن أن بينهم هنري كيسنجر، الأب الروحي للجماعة الحاكمة في واشنطن. كان الخطاب مفاجأة باعتباره قفزة واسعة غير محسوبة بدقة. وهو تقريباً ما أراد هنري كيسنجر الإعراب عنه من دون أن يبدو معلقاً على رامسفيلد. يقول كيسنجر إنه من الخطأ الاعتقاد بأن الصعود الصيني يشبه في الخطورة الصعود الألماني في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، فالصينيون لم تعرف عنهم"الإمبريالية العسكرية"كوسيلة للتوسع. ويخطئ من يعتقد أن الصعود الصيني يشبه في نتائجه النهائية نتائج الصعود السوفياتي خلال معظم القرن العشرين، فالصين لن تنفرط كما انفرط الاتحاد السوفياتي، لأن الصينيين على عكس السوفيات"دولة - أمة"متجانسة، ولا تضم تحت ولايتها شعوباً متناثرة ومتعددة كالشعوب التي كانت موسكو تهيمن عليها وتتولى حكمها بالقوة. وأخيراً يخطئ من يعتقد أن الصين ستقابل بهدوء ولمدة طويلة استمرار الضغوط الأميركية ومحاولات تطويقها كما يدعو قادة البنتاغون، وبينهم وزير الدفاع نفسه، فللصينيين ذاكرة لا تغفو عن قرون من المهانة على أيدي أميركا وغيرها من الدول الغربية. يبدو أن كيسنجر كان يرد بذكاء شديد على ما كتبه روبرت كاغان في دراسة نشرتها أخيراً مؤسسة كارنيغي يعدد فيها وينتقد الخيارات المتاحة لواشنطن لإدارة"الصعود"الصيني. طرح أولاً خيار استدراج الصين إلى حال عداء متبادل تتطور بعد فترة من المعاناة الصينية إلى حالة تحالف يعقبه السماح لها بدور شريك"إمبراطوري"في الساحة الدولية، ولكن بإذن أميركي. وهو الخيار نفسه الذي تبنته الولاياتالمتحدة لإدارة صعود الاتحاد السوفياتي، ووقف حائلاً دون نجاحه الكامل رفض السوفيات المشاركة الإمبراطورية بشروط الغرب ومنها مبدأ التجارة الحرة والرأسمالية. ثم تعرض كاغان لفكرة تشجيع النمو الاقتصادي الصيني وزيادة التجارة الدولية مع الصين، استناداً إلى قاعدة لم تثبت صحتها على كل حال وهي أن التجارة تمنع الحرب. بمعنى آخر يقوم هذا الخيار على أساس تقديم أميركا والغرب عموماً حفنة من الإغراءات إلى الصين لتشارك في قيادة النظام الدولي بشروط هذا النظام الغربي النشأة والعقيدة وليس بشروطها. أما الخيار الثالث، ويبدو أنه الخيار الذي يجد استحساناً لدى المعسكر الأشد تطرفاً في الجماعة الحاكمة الأميركية، فهو تطويق الصين باعتبارها دولة معادية، بكل ما يستدعيه هذا الخيار من سياسات مكملة مثل زيادة الإنفاق الأميركي على السلاح وتطوير أداة الحرب الأميركية نحو آفاق جديدة وإقامة سلسلة من التحالفات والقواعد العسكرية حول الصين وإثارة كل أنواع المشكلات للصين من داخلها ومن حولها. ولا يستبعد كاغان خياراً آخر يستعيره من تجربة الإمبراطورية البريطانية مع الصعود الأميركي. فقد انسحبت بريطانيا من قارة أميركا الشمالية باستثناء كندا، وأعلنت استعدادها السماح للولايات المتحدة بممارسة هيمنة إقليمية كاملة على القارتين باستثناء كندا، وقسمت المصالح بين الإمبراطوريتين ولا تزال، وباستمرار، تقدم حزم إغراءات إلى الطبقة السياسية الأميركية بهدف تشجيعها على ممارسة القيادة الدولية ولكن ضمن قيود النظام الدولي، فهل توافق الجماعة الحاكمة في أميركا على الانسحاب من آسيا والسماح للصين بفرض هيمنتها على القارة؟ المتشائمون يقولون إنه لا دولة في التاريخ صعدت إلى القمة من دون حرب أو أكثر، والمتفائلون يقولون إن الحكمة في التاريخ غالباً تسود فتحث على إفساح المجال، بهدوء، للقوى الصاعدة، فتتفادى الإمبراطورية القائمة مهانة الانسحاب ذليلة. ما يعنينا الآن بعيداً عن تفاؤل العظام وتشاؤمهم على الجانبين، هو احتمال أن تصبح"الصين"القضية الأهم في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة التي يبدأ الاستعداد لها بعد عام على الأكثر، فإن أصبحت القضية الأهم فسيتأخر ترتيب قضيتي فرض الديموقراطية والحرب ضد الإرهاب، أو إحداهما على الأقل، في الأولويات الانتخابية الأميركية، فيقترب مصيرهما من المصير الذي تسير إليه بخطى حثيثة قضية التسوية العادلة للصراع العربي الإسرائيلي. حس خفيض وخبر هزيل. * كاتب قومي.