على مدى ربع قرن، ومنذ زيارة الرئيس الاميركي السابق ريتشارد نيكسون لبكين في شباط فبراير عام 1972، متجاوزاً بها عقوداً من الخصومة بين البلدين، والادارت الاميركية المتعاقب تتابع سياسة الانفتاح على الصين والتعامل معها كقوة جيوستراتيجية في منطقتها. وخلال ذلك تعرضت العلاقات بين واشنطنوبكين لمستويات من القيود والتوترات حول قضايا مثل تايوان، والتيبت وحقوق الانسان والتجارة. على أن ما ميز ادارة الولاياتالمتحدة لعلاقاتها مع بكين حتى بداية الستعينات أنها كانت تجري في ظل ظروف واعتبارات الحرب الباردة والتنافس مع الاتحاد السوفياتي، والتركيز، كما عبر وقتها هنري كيسنجر، على متطلبات توازن القوى في النظام الدولي والاتجاهات طويلة المدى للسياسة العالمية. غير أن التغير الذي لحق ببنية النظام الدولي بانتهاء الحرب الباردة وضع العلاقة الاميركية الصينية في إطار جديد. إذ برزت الولاياتالمتحدة باعتبارها القوة العظمى الوحيدة في العالم، وأصبح شاغل المفكر الاستراتيجي فيها هو كيف تحافظ على مثل "هذا الوضع الفريد" والابقاء عليه لأطول فترة ممكنة ومنع أي قوة من تحديه أو المشاركة فيه. ولعل من أهم من عبَّروا عن هذا الفكر هو زبيغنيو بريزينسكي، حين عالج وضع الصين ضمن قارة آسيا التي اعتبرها "رقعة الشطرنج الكبرى" والقارة الحاسمة في ما يتعلق بمحافظة الولاياتالمتحدة على وضعها المتفوق عالمياً، إذا اعتبر بريزينسكي الصين من اللاعبين الجيوستراتيجيين ومن ثم يمكنها تحدي وضع الولاياتالمتحدة في منطقتها والعالم . غير ان الامر لم يكن مقصوراً على التغير الذي لحق بالنظام الدولي وعلاقات القوى فيه، وانما رافقه كذلك تطور نوعي في عدد من السياسات الصينية المحلية والاقليمية والدولية والتي تتصل بقضايا ذات اهمية حيوية بالنسبة الى السياسة الاميركية، وبدت هذه السياسات في البرامج الصينية المتعلقة بتجارة الصين في الصواريخ والتكنولوجيا النووية، برامج التحديث العسكري الصيني ومشترواتها من السلاح، منازعاتها الاقليمية في بحر الصين ثم الفائض التجاري المتزايد مع الولاياتالمتحدة والذي بلغ 50 بليون دولار في مصلحة الصين. وحركت كل هذه العوامل جدلاً ونقاشاً داخل الولاياتالمتحدة حول ما إذا كانت الصين ستبرز في القرن المقبل كقوة أعظم تلعب دوراً مشابها للدور الذي لعبه الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، أم ستتبع نموذج اليابان في الاكتفاء بمكانه العملاق الاقتصادي؟ في الاجابة عن هذا السؤال الرئيسي ظهرت مدرستان في التفكير الاميركي تتجادلان وتختلفان حول اسلوب التعامل مع الصين: هل تواصل الولاياتالمتحدة دعم الانفتاح معها وبناء "مشاركة" حول القضايا المختلفة، أم تتبع سياسة "الاحتواء" شبيهة بتلك التي اتبعتها مع الاتحاد السوفياتي عندما برز كقوة منافسة بعد الحرب الثانية؟ في هذا الجدل الواسع، اعتمدت المدرسة التي دعت الى الحذر من الصين والعمل على احتوائها على تنبؤها بصعود الصين كقوة "محاربة" مما سيؤدي حتما الى عدم الاستقرار في آسيا وبصورة تتحدى المصالح الحيوية الاميركية، كما توقعت هذه المدرسة ان الصين القوية ستسعى الى تحقيق قائمة طويلة من الطموحات الاقليمية، الأمر الذي يلزم ان تواجهه الولاياتالمتحدة بحسم ودعم حلفائها على الحدود وزيادة انتشار القوة الاميركية في آسيا. وجادلت هذه المدرسة بأنه وإن بدت الصين اليوم اكثر انفتاحاً مما كانت عليه منذ الثورة الصينية العام 1949، إلا أنها، ومنذ نهاية الثمانينات، والقادة الصينيون، بخاصة بعد ضعف ونغ شاوينغ، يصيغون اهدافاً معاكسة للولايات المتحدة، ويعملون على خفض النفوذ الاميركي في آسيا، ودعم وجود الصين في بحار الصين الشمالية الشرقية وبشكل يمكنها من التحكم في الخطوط البحرية الاساسية للمنطقة. وعلى المستوى العسكري ترصد هذه المدرسة مجموعة من المتطورات في اتجاه بناء القوة العسكرية الصينية: التحول المثير في القيادات العسكرية الصينية، والتغيرات في العقيدة العسكرية التي تؤكد على التكولوجيا المتقدمة والحرب المتشعبة، والبحوث والتطور مع المشروعات من التكنولوجيا العسكرية الاجنبية، والوصول المتزايد الى التكنولوجيات التجارية ذات الاسهامات العسكرية. وهكذا تستخلص هذه المدرسة ان اهداف الصين في الحصول على مركز بارز في آسيا انما تتناقض بوضوح مع هدف اساسي حاربت اميركا من اجله ثلاث حروب كبرى في النصف الثاني من هذا القرن، وهو منع أي بلد منفرد من الوصول الى مركز القوة المسيطرة في آسيا. اما المدرسة الثانية التي تبنت الدعوة الى الارتباط والتعاون مع الصين ومواصلة الانفتاح عليها، فهي تبدأ من مقدمة ان الولاياتالمتحدة لا تواجه اليوم علاقة اكثر تحديا باكثر مما تواجهه مع الصين، وأنه مع مطلع قرن جديد فان علاقاتها مع الصين ستحدد مدى وجودها في اسيا، أسرع مناطق العالم نموا، وهو ما يبرر ان تكون الولاياتالمتحدة قادرة على ان ترتبط بشكل خلاق مع أكثر دول العالم سكانا. كما تنطلق هذه المدرسة من افتراض ان الصين وإن كانت تنمو بشكل قوي الا ان نياتها في حال سيولة، بحيث ان استباق افتراض علاقة خصومة وعداء مع الصين سيحقق نبوءة لم تتحقق بعد. من هنا تدعو هذه المدرسة الى توسيع نطاق العلاقات الاقتصادية والحوارات الرسمية حول قضايا الامن وحقوق الانسان والقضايا العالمية المشتركة، إذ من شأن ذلك ان تتصرف الصين بطريقة تتفق مع المصالح الاميركية. ويؤكد اصحاب هذه المدرسة منطلقاتهم تلك بأن قادة الصين يعطون اليوم اهمية وأولوية للنظام العالمي والحصول على التكنولوجيا الغربية، وكل هذه امور ضرورية لتحقيق الرفاهية التي يرونها أساسية للاستقرار في وطنهم، وتقوي هذا التصور عندهم رؤيتهم لرفاقهم في موسكو يسقطون من السلطة اساسا بسبب الفشل في دفع التنمية الاقتصادية. أما على المستوى العسكري فان أتباع مدرسة الانفتاح على الصين يرون في ما يتردد في وسائل الاعلام الاميركي والنظام السياسي حول ما يسمى بالتهديد الصيني، مبالغة لا تقوم على أساس. فالتحديث العسكري الصيني ما يزال بعيدا عن تلبية حاجاتها الدفاعية، كما أن معظم التقديرات الموثوق بها تقدر انفاق الصين العسكري ب 30 - 50 مليون دولار سنوياً، وهو مبلغ كبير ولكنه ليس مقلقاً فهو يقارن بإنفاق دولة متوسطة مثل اليابان وبريطانيا وفرنسا والمانيا. والصين ما تزال في تقدير عدد من الخبراء العسكريين دولة فقيرة، ومن المحتمل ان يشكل هذا الوضع قيودا كبيرة على قدرته على الاحتفاظ ببناء عسكري ضخم والاستمرار فيه، كما ان موقعها الجيوستراتيجي لا تحسد عليه، باعتبار ان عليها ان تتعامل مع جيران متعددين بمن فيهم منافسون حاليون ومحتملون وعبر حدود طويلة، وهكذا يستخلص من يدافعون عن علاقات ايجابية مع الصين، ان على الاقل لثلاثين عاما مقبلة، لن تكون قادرة على ان تخطط لعمليات عسكرية بعيدة عن الشاطئ، وان قدرات جيش التحرير الصيني، ستكون محدودة ولن تتعدى نطاق "المناوشات البرية السريعة" خلال هذه الفترة. واكد هنري كيسنجر باعتباره من اقوى المدافعين عن مواصلة ودعم الانفتاح على الصين، هذه النظرية فقال عشية زيارة كلينتون الاخيرة للصين: "ليس من شك ان القوة العسكرية الصينية ستنمو بشكل مناسب على نموها الاقتصادي، ولكنها لن تكون قوة عسكرية عالمية على الاقل لربع قرن مقبل". ازاء هاتين المدرستين، اختارت الادارة الاميركية الحالية ما اسماه رئيسها قبل ايام من زيارته الصين في حزيران يونيو الماضي طريقاً مختلفا عن ما تدعو اليه المدرستان من مواقف مطلقة، إذ أوضح ان اختياره في التعامل مع الصين يقوم على اساس الاعتبارات المبدئية، وكذلك الدوافع العملية: عملياً بتوسيع مجالات التعاون مع الصين، ومبدئيا بالتعمل معها بشكل صريح ومباشر حول قضايا الاختلاف، على انه رغم ما اسماه كلينتون بالطريق المختلف، إلا ان اختياره، واكثر من هذا وقائع ونطاق زيارته للصين كانت دليلا على انه يرفض منظور مدرسة الاحتواء بل إنه وصفها بأنها لن تفيد وانه حتى اصدقاء وحلفاء اميركا لن يوافقوا او يلتزموا بها، وانها لن تجدي إلا في عزل الولاياتالمتحدة وسياستها. باحث وسفير مصري سابق.