الصين التي زارها منذ أيام جورج بوش كرئيس للولايات المتحدة، ليست كالصين التي زارها هنري كيسنجر مع الرئيس نيكسون في مطلع السبعينات. الصين التي زارها كيسنجر ونيكسون كانت خارجة للتو من الثورة الثقافية، آخر ثورة فجرها الرئيس ماو. كانت الصين منهكة وممزقة ومتشائمة. يقول كيسنجر إن نيكسون قال لماو خلال لقائهما معه إن توجيهاته ودروسه أحدثت تحولات في حضارة الصين وثقافتها، ونقل عن ماو رده الذي قال فيه"أنا لم أفلح في تغيير شيء سوى العاصمة بكين وبعض ضواحيها". ويعلق كيسنجر بأن الكابوس الذي ظل يلازم الرئيس ماو حتى وفاته أنه في عشرين عاماً من الحكم لم يحقق قيام النظام الشيوعي، ولم يحقق شيئاً دائماً ذا قيمة. قارن بين ما يقوله كيسنجر، وما يقوله لي كوان يو الرجل الذي نهض بسنغافورة وحقق لها معجزة النمو والتقدم في مدة وجيزة. يقول لي كوان يو إنه لو استمرت الصين تنمو بالمعدل الراهن، أي 9 في المئة سنوياً، فسيشهد العالم عودة"الشرق"إلى التألق للمرة الاولى منذ أن رست على شواطئه قوافل البرتغاليين في القرن السادس عشر، والمفارقة أن بين الوقت الذي جرت فيه حكاية كيسنجر مع ماو والوقت الذي يتحدث فيه لي كوان يو عن"مستقبل الشرق"مسافة زمنية لا تتجاوز ثلاثين عاماً، وهي المدة ذاتها أو أقصر منها التي حققت فيها الصين انطلاقتها، فهل كان ممكناً أن يتحقق ما تحقق من دون المرور بعقدين جرت خلالهما عملية باهظة التكلفة لإعادة بناء أمة وتحفيز شعب كانت كافة إمكاناته وقدراته انحدرت إلى حضيض السياسة والاقتصاد والأخلاق بسبب قرون من الاستبداد والاحتلال الأجنبي والفوضى؟ على رغم الاختلاف البيّن بين الظروف التي جرت فيها زيارة نيكسون ورفيقه كيسنجر والظروف التي جرت فيها زيارة بوش ورفيقته رايس، تلميذة كيسنجر النجيبة، تبرز نقاط تشابه أهمها أن في الزيارة الأولى كان الأميركيون في حاجة ماسة إلى الصينيين ليساعدوهم في الخروج من فيتنام بشكل يحفظ ماء الوجه، وكان الصينيون في حاجة إلى الأميركيين للحصول على الاعتراف بنظامهم وسحب الشرعية الدولية من نظام الصين الوطنية في جزيرة تايوان. وفي الزيارة الأخيرة لبوش كانت حاجة كل دولة إلى الأخرى أشد إلحاحاً على الرغم من ضخامة التحولات التي طرأت عليهما وعلى العالم بأسره خلال الثلاثين عاماً أو يزيد التي تفصل بينهما. وأعجبتني عبارة وردت في مقال كاتب أميركي يصف الدولتين بالتوأم السيامي، أي الملتصقتين ببعضهما، إن وقع فصلهما هلكا معاً أو هلك أحدهما وعاش الآخر ولكن شبه هالك. ولا مبالغة شديدة في هذا الوصف، ولا مبالغة كذلك في القول بأنها تجربة نادرة في العلاقات الدولية، إن لم تكن فريدة. فالولاياتالمتحدة في أمس الحاجة إلى الصين لتمول لها الدين القومي المتفاقم، والصين في أمس الحاجة إلى الولاياتالمتحدة لتمول لها أكبر عملية نمو اقتصادي في التاريخ الحديث. بمعنى آخر، فمن دون تمويل أميركا للنمو الصيني لن تجد أميركا من يمول لها الدين القومي، ومن دون تمويل الصين للدين القومي الأميركي لن تجد من يشتري منها حجم ما تشتريه أميركا فيمول نموها الاقتصادي، لذلك يبدو أحياناً لافتاً للانتباه، هذا الحوار الهادئ نسبياً حول مشكلات لو وجدت في زمن آخر وحالة أخرى من العلاقة الدولية لبدت عويصة ومثيرة للتوتر، فالدولتان تمارسان، حتى الآن، خلافاتهما تحت سقف يضمن اعتدال الحوار رغم ازدحام الساحة، في الصين، كما في الولاياتالمتحدة بأفراد وجماعات لا تشجع على استمرار هذا الاعتدال. يتحدث أكاديميون ويكتب إعلاميون في أميركا بانفعال عن ضخامة الإنفاق الصيني على السلاح وزيادته المطردة، وعن العطش الصيني غير المحدود للنفط، وعن النقص في الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان وحرية العقيدة في الصين، وعن القرصنة التجارية والخسائر الهائلة التي تترتب على هذه القرصنة للشركات الأميركية، وعن سعر العملة الصينية المتدني والمتسبب في زيادة الصادرات إلى أميركا ونقص الواردات منها وفي العجز الهائل في ميزان المدفوعات. نسمع نبرات عنيفة ضد الصين من جانب غلاة العسكريين وصقور اليمين الجديد ورؤساء شركات بعينها وجماعات دينية ومنظمات مجتمع مدني عالمي وهيئات ضغط تمولها حكومة تايوان. ونسمع إنذارات وتحذيرات، بعضها على لسان دونالد رامسفيلد كتلك التي أدلى بها في سنغافورة منذ شهور وبدا سخيفاً أمام الحاضرين وأجهزة الإعلام حين قال إن إقبال الصين على زيادة قوتها التسلحية أمر غير مشروع لأن"الصين دولة من دون أعداء". قال هذا بينما تنفق أميركا على التسلح 400 بليون دولار ولم تتجاوز الصين في أدق التقديرات ما يتراوح بين 60 إلى 90 بليوناً. ويقدرها المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن بمبلغ 62.5 بليون. وفي مناسبات أخرى يعود رامسفيلد نفسه وقادة عسكريون إلى الاعتدال في تصريحاتهم عن القوة العسكرية الصينية، فيقولون إن التكنولوجيا العسكرية الصينية مازالت في مستوى تكنولوجيا عقدي السبعينات والثمانينات، وإن الصين لم تجرب قواتها العسكرية في أي حرب وبالتالي فالقيادة الصينية لا تعرف حقيقة جوانب قوتها أو ضعفها"على عكس القيادة الأميركية التي جربت قواتها..."! وبالفعل لم يحدث في التاريخ المعاصر أن دخلت الصين حرباً خارج حدودها أو قامت بغزو دولة متاخمة أو بعيدة. وإذا كان هذا الأمر يحسب لها أخلاقياً إلا أن القادة الأميركيين وعلماء الاستراتيجية يحسبونه عليها عسكرياً. فمثلاً يقول قائد كبير في البحرية الأميركية إن البحرية الصينية لم تبحر إلا في المياه العكرة، وهو تعبير يطلق على المياه القريبة من الشواطئ ، أي أن الصين لم تجازف بعد بإرسال أساطيلها لتجرب نفسها في أعالي البحار. على كل حال ليس على هذا المنوال الراقي تتداول الدول طويلاً في علاقاتها ومصالحها. وأتصور أنه في هذه العلاقة تحديداً الأمور التي لا جدال حولها ثلاثة على الأقل، أولها أن الصين تنمو بسرعة وتنمو معها الحاجة إلى النفط، وهناك في أميركا من يعتقد أنه سيأتي قريباً وقت سيتعامل الطرفان على قاعدة أن كل برميل نفط يذهب إلى الصين برميل تفقده أميركا، وأن لا سبيل لتأمين احتياجات أميركا في المستقبل إلا بإحكام السيطرة على مواقع النفط في العالم، ومنع الصين بكل السبل السلمية وغيرها من امتلاك منابع وآبار خارج أراضيها. وجاء أول انتصار لأصحاب هذا الاعتقاد عندما أحبطوا مساعي الصين لشراء شركة UNOCAL الأميركية، صاحبة الامتياز في حقول خارج أميركا. الأمر الثاني الذي لا جدال حوله هو تايوان. أعرف أنه لا شيء على الإطلاق يمكن أن يجعل الصينيين يعدلون عن حلم استعادة هذه الجزيرة إلى الوطن الأم. ولا شيء أشد نفعاً لأميركا للتأثير في ميزان القوى مع الصين من استمرار إعلان تأييدها لحكومة الصين الوطنية، وحشد أساطيلها للدفاع عنها ضد غزو محتمل من الصين. ويدرك الشعب الصيني في"الدولتين"أن الزمن ونمو الصين الاقتصادي كفيلان بحل المشكلة سلمياً، إلا إذا اختلقت الولاياتالمتحدة أسباباً لتقوم بأعمال عسكرية. ولن تكون المرة الأولى التي تفتعل فيها أميركا أسباباً أو تخلق أعذاراً لشن حرب أو إشعالها. أما الأمر الثالث فهو أن الطرفين، الصيني والأميركي ، يدركان أن المنافسة بينهما انتقلت من حيزها الضيق في شرق آسيا إلى حيز أرحب كثيراً مما كانت تخطط له النخبة السياسية الأميركية في وقت سابق. فالصين تتقدم تجارياً بسرعة مذهلة في معظم أنحاء أميركا اللاتينية وهي تستعد مثلاً لإقامة مجتمعات صناعية مشتركة للاستفادة من الطاقة المائية الهائلة المتوفرة في البرازيل. وتزحف بخطى متسارعة نحو نفط دلتا النيجر ومواقع أخرى في القارة الإفريقية. أما نجاحها الأكبر في المنافسة السلمية مع الولاياتالمتحدة فكان في مجالها الحيوي، أي جنوب آسيا وشرقها، هناك يبدو أن ميزان القوى بدأ يستقر لصالح الصين تدعمه مشاعر كراهية للسياسة الخارجية الأميركية لدى معظم شعوب المنطقة، وسأم متزايد من حكاية الحرب العالمية ضد الإرهاب، وتدعمه أيضاً مشاعر رضاء وإعجاب بما حققته الصين اقتصادياً وبنعومة دبلوماسيتها الدولية والإقليمية. الشائع، تاريخياً وحضارياً، أن الصين لم تكن يوماً ساعية لفرض حضارتها أو ثقافتها أو عقائدها على شعوب أخرى، والشائع أيضاً أن الولاياتالمتحدة كانت غالباً ساعية لفرض نموذجها سلمياً وأحياناً بالقوة، بمعنى آخر لا يمكن تصور نشوب حرب بين الغرب والصين بذريعة الصدام الحضاري، فالصين لا تشكل تهديداً حضارياً لأميركا أو غيرها من دول الغرب أو روسيا أو الدول العربية والإسلامية، على عكس الولاياتالمتحدة المتهمة بأنها تطرح نموذجها الحضاري بأساليب تتعمد بها استفزاز الحضارات الأخرى والتدخل في صميم شؤون دول العالم ومجتمعاته. كاتب مصري.