مغر هذا العالم الافتراضي كي يبزغ نجمنا في سمائه وكي نحجز موطئ قدم لنا في عالمه التخيلي، وربما ندمن ارتياد بعض أرجائه. باتت مفرداته مألوفة، والإلمام بها سهل، "واقعه" غير عسير اختزاله في النفس البشرية. يسعى الكل الى فتح أبواب العالم الافتراضي. وتشير الدراسات الى ان خط سير المستخدمين راهناً يعيد تشكيل منظومة القيم المألوفة بحسب بياناتهم الرقمية "البهية"، وما على بقية الركب إلا ان يستهدي بخطاهم. يجنح الواقع الافتراضي بالخيال الذي يستمده من المعرفة. وفي كثير من الأحيان ،لا يدل الى صلة قربى مع نظيره التقليدي. فقد تحمل انطباعاً مبهراً عن مكان ما أو شخص ما من خلال صورته الافتراضية، ثم تصدم عند معاينة هذا النموذج على أرض الواقع. ولعل زخرفة هوية الاقليات وأمجادها على الشبكة مثال على ذلك. يتخطى الإنسان الافتراضي جغرافية المكان وعتبات الزمن. ويبدو ككائن "غير اجتماعي". وتعزله أدوات الاتصال الحديثة عن التواصل مع الآخرين، بعكس الهدف الذي وجدت من أجله. وأثرت الوسائط التقنية، التي لا تتوقف عند أي حدود، على نظم التعليم التقليدية. وقد تنتفى الحاجة الى المدارس، بعد ان طرحت نظيرتها الافتراضية مناهجها عبر الشبكة. تمتد السوق الافتراضية، بمنتجاتها ومؤسساتها والمتعاملين فيها، حول العالم. وقد نجحت الحلول التقنية في إدارة التجارة والحكومة الإلكترونيتين. ومهدت الطريق امام الكتاب الإلكتروني ونشره. حوّلت التقنية الجديدة المكتب والمنزل الى وليدين "ذكيين" يأسران الموظف بعيداً من مقار عمله، لتأدية واجبه الوظيفي المعتاد. يزدهر "الأدب الرقمي" من خلال الإنترنت. وتتعاقد المواقع مع كتّاب وأدباء لنشر نتاجاتهم، وبخاصة الروائية منها، على الشبكة العنكبوتية. يدأب بعضهم على إضافة عناصر جديدة الى النص المكتوب، مثل الصورة والصوت والحركة. يزدهر البحث العلمي شبكياً، بحيث بات في وسع الباحثين الاستغناء عن المطبوعات المكلفة اقتصادياً والاكتفاء بالمراجع الرقمية لاستكمال بحوثهم. تمثل "غرف الدردشة" التشات فرصة مؤاتية للتنفيس عن خيالات شتى، اضافة الى توفيرها فرصة حقيقية للاتصال بالعالم على مدار الساعة. واستبق "البلوغرز" Bloggers المحللين السياسيين في ملاحقة أحداث العالم والتنبؤ بمجرياتها، كمثل ما حدث في الانتخابات الرئاسية الاميركية اخيراً. واستغنوا عن وسائل الإعلام لإسماع صوتهم على صفحاتهم الخاصة التي توفرها المواقع لهم. ويلجأ الكثير من قادة الرأي عالمياً، مثل الوزير الفرنسي السابق جاك اتالي، الى مواقع "البلوغرز" لنشر ارائهم. احتضنت الشبكة "بازارات" الزواج بحرارة. استثمرت شركات الأزياء حلم المتلهفين وراء الموضة. فقد صاغت مقاييس الجمال بحسب مخيلاتهم، في فتاة افتراضية قد تصبح معشوقة الجميع في المستقبل. تتسع مناطق نفوذ الشبكة لتمثل جميع نشاطات الإنسان. وما على الراغب في الانتماء الى العالم الافتراضي سوى ارتياد المنتديات أو تأسيس "بلوغ" أو حجز عنوان لبريده الإلكتروني، لكي يتواصل مع هذا الفضاء الالكتروني الواسع. صحافة إلكترونية وسياحة إلكترونية... وكذلك الحروب، وكل شيء آخذ بالتحول والتبدل الى هذه الهيئة الجديدة. لا يخلو هذا العالم الجديد من المنغصات أيضاً. فهناك إرهاب الإنترنت والقراصنة والمحتالين وجماعات الجريمة المنظمة، وبخاصة المالية منها، التي تستخدم أحدث تكنولوجيا المعلومات لممارسة نشاطاتها وتجارتها غير المشروعة عبر أقنية الشبكة للوصول الى زبائنهم في أي جحر من الأرض بعيداً من أعين الحكومات. ويبدو ان عزيمة بيل غيتس بفرض أسلوب حياة وعمل الشبكة على حياتنا وعلاقاتنا الاجتماعية، اشد مضاء من مقاوميها في "العصر الرقمي"، بعد ان راحت جميع الأشياء من حولنا ترتبط بنظم رقمية قادرة على تغيير حياتنا بصورة جذرية.