سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الاعتراف الأخير... قصة البرنامج النووي العراقي يرويها المسؤولان عن انشائه وتطويره . حسين كامل انقض على البرنامج النووي... وصدام قال لجعفر أريد سلاحاً نووياً 3 من 7
سرنا حثيثاً في تطوير الورشة الميكانيكية في موقع التويثة ثم أنشأنا ورشة كبيرة متكاملة ومتطورة في موقع الزعفرانية وعلى بعد خمسة كيلومترات جنوب موقع التويثة أسميناها معمل الربيع. ومع بداية المراحل الأولى من تنفيذ البرنامج إرتأى نائب رئيس اللجنة أن نستند إلى إمكانات منشآت المؤسسة العامة للصناعات الفنية لتنفيذ التصنيع الميكانيكي للقطع الكبيرة وحجته في ذلك أن هذه المنشآت ذات إمكانيات كبيرة ولها مجالات واسعة في استيراد مكائن جديدة ومتخصصة دون جلب انتباه أي راصد لمشتريات العراق على عكس الطاقة الذرية التي إن حاولت شراء مكائن متخصصة ستجلب انتباه الشركات المجهزة وقد تجتهد الأجهزة المخابراتية المعادية في التحقق عن سبب استيراد هذه المكائن وبالتالي تتعرف على برنامجنا النووي الوطني وهذا ما يجب أن نجتنبه. ففاتح رئيس الجمهورية بالأمر فصدرت أوامره إلى المؤسسة العامة للصناعات الفنية بتنفيذ جميع متطلبات الطاقة الذرية في مجال التصنيع الميكانيكي وتطوير ورش منشآت المؤسسة لتفي بهذه الالتزامات كلما تطلب الأمر ذلك. ومع تطور العمل بالبرنامج وتعدد مشاريعه وازدياد عدد منتسبيه كان لابدّ من تطوير العمل التنظيمي والإداري فوضعنا تصورات عدة لأسلوب إعادة التنظيم وعقدنا ندوة موسعة لقياديي البرنامج في منتجع الحبانية حيث سافرنا إلى هناك مع عوائلنا وناقشنا الموضوع وتوصلنا إلى إعادة هيكلة الدائرة بما يمكننا تسميته الآن،: هيكلية البرنامج لعام 1987: اقتصر التنظيم الجديد على التشكيلات التالية: - إدارة البرنامج وتضم رئيس الدائرة والمستشار مؤلفي هذا الكتاب والسكرتارية. - المجموعة الأولى والتي عرفت لاحقاً بالمختصر G1 وتضم جميع أنشطة التخصيب على وفق تكنولوجيا التنافذ الغازي. - المجموعة الثانية G2 وتضم جميع أنشطة التخصيب على وفق تكنولوجيا الفصل الكهرومغناطيسي. - المجموعة الثالثة G3 وتضم جميع الأنشطة الساندة تخطيط ومتابعة، المشتريات الخارجية، الإدارة، التصميم الميكانيكي والإلكتروني، التصنيع الميكانيكي، التصنيع الإلكتروني. وفي بدايات عام 1988 صدر قرار بإلغاء لجنة الطاقة الذرية وإعادة تنظيم برامج الطاقة الذرية العراقية ضمن ما عرف باسم منظمة الطاقة الذرية وتم تعيين همام رئيساً لها وجعفر نائباً للرئيس وانتهى بذلك إرتباط اللجنة بنائب رئيس مجلس قيادة الثورة عزت ابراهيم الدوري وغَدَا ارتباط المنظمة بالسكرتير الشخصي لرئيس الجمهورية، كما كانت تسير الأمور من قبل. لم يكن لتغيير التسمية هذه وقع يذكر على سير أمور البرنامج الوطني النووي ولم يكن أكثر من ترقية لهمام وجعفر إلى مستوى وزير ووكيل وزارة، لكن سرعان ما بدأت الأمور تتغير بعدئذ بتأثير من حسين كامل حسن المجيد الذي بدأ نجمه بالصعود السريع منذ اقترانه بابنة الرئيس العراقي رغد صدام حسين عام 1983. وبعد ذلك سيطرته على تنظيم الأمن الخاص المعني بحماية الرئيس العراقي وتنظيم تحركاته مع الإشراف على الحرس الجمهوري الذي تطور ليصبح قوة ضاربة توازي الجيش العراقي لا بل تتفوق عليه بالرعاية والامتيازات والصلاحيات ثم استولى حسين كامل على جميع فعاليات التصنيع العسكري بما في ذلك تصنيع الأسلحة الكيميائية والبيولوجية أسلحة الدمار الشامل وعلى برنامج تطوير الصواريخ لا سيما زيادة مدى فعالية صواريخ سكود من خلال زيادة قدرة النقل على حساب تقليل كتلة شحنة التفجير ولم يبقَ سوى البرنامج النووي ليشبع طموح هذا الشاب الممتلئ حيوية ونشاطاً والرجل الثاني في السلطة بعد صدام حسين والإبن المدلل له. نعمان الفرصة: الذهبية وتمثال الذهب جاءت الفرصة الذهبية لحسين كامل ليثب على البرنامج النووي عندما قرر رئيس منظمة الطاقة الذرية العراقية في مطلع 1987 مع توليه ذلك المنصب أنه آن الأوان للبدء ببرنامج تطوير صنع السلاح النووي لا سيما بعد اقتناعه بأن برنامج تخصيب اليورانيوم اقترب من النجاح فأخذ يفكر بِما سيفعله حين نكون قد أنتجنا كمية من اليورانيوم عالي التخصيب. هل نخزنه ونتباهى بقدرتنا على إنتاجه؟ أم نستغله؟ وفضل استغلاله باتجاه السلاح النووي وهو المبتغى وأيقن أن الحصول عليه سيرفع من مكانته أمام الرئيس العراقي وسيضعه موضع بطل وطني لا سيما أنه كان شاهداً للقاء جمعه وجعفر مع صدام حسين في حين قال صدام لجعفر "لو أنتجت القنبلة النووية سأصنع لك تمثالاً شخصياً من ذهب". فبدأ همام يلح على جعفر أن يبدأ برنامج البحث والتطوير لأنشطة صنع سلاح نووي غير أن جعفر أخبره بأن نشاطاً كبيراً كهذا سيؤخر بالضرورة تقدم العمل في برنامج التخصيب في هذا الوقت الحرج الذي يتطلب الانتقال به من طور التجريب إلى طور الإنتاج.. والانتقال بالغ الحساسية ويحتاج إلى حشد الطاقات العلمية والهندسية وطاقات التصميم والتصنيع وتحتاج أيضاً إلى طاقة إدارة علمية متفرغة لهذا النشاط فتقدم جعفر بمشورته إلى همام واقترح عليه أن يكلف أحد منتسبي مركز البحوث النووية ليقدم له دراسة أولية حول متطلبات برنامج التسلح النووي كما اقترح عليه أن يجري ذلك النشاط في موقع بعيد عن موقع التويثة بحيث يكون محصناً أمنياً وبعيداً عن أنظار الفضوليين والأعداء. فتحدث همام معنا في الموضوع وأخبرناه بقرب انشغالنا في الإشراف على المراحل النهائية من نصب وتشغيل معدات مشروعي موقع الجزيرة قرب الموصل وأولهما مشروع إنتاج مسحوق ثنائي أوكسيد اليورانيوم ذي النقاوة النووية بدءاً بمادة كعكة اليورانيوم غير النقية المنتجة ضمن مجمع القائم للأسمدة الفوسفاتية وثاني المشروعين هو إنتاج رباعي كلوريد اليورانيوم ذي النقاوة العالية لاستخدامه كمادة تغذية في فاصلات التخصيب وفق تكنولوجيا الفصل الكهرومغناطيسي. واقترحنا على همام أن يؤجِّل البدء ببرنامج التسلح لحين اكتمال مشروع نصب الفاصلات الإنتاجية ولحين الحصول على كمية محسوسة من اليورانيوم عالي التخصيب. يبدو أن مقترحينا لم يروقا لهمام التوّاق أبداً للبدء بنشاط التسلح النووي فبعث بمذكرة إلى صدام حسين تتضمن مقترحاً بالبدء ببرنامج التسلح النووي في موقع جديد غير موقع التويثة يكون محصناً أمنياً وخاضعاً للتكتم الشديد وأن تنفذه مجموعة غير مجموعة برنامج التخصيب التي يقودها جعفر واقترح أن يسمى البرنامج الجديد باسم برنامج الحسين ولم نعرف إن كانت التسمية تيمناً بالإمام الشهيد الحسين بن علي بن أبي طالب عليه سلام الله. حسين كامل وضربة الحظ وصَلَت المذكرة إلى صدام وأحالها إلى النجم الصاعد والصهر المدلل حسين كامل لإبداء الرأي والمشورة فجاءت إليه كهبة من السماء ورأى في المقترح فرصته الذهبية لركوب قطار البرنامج النووي في أفضل عرباته فاقترح على عمه صدام أن تنتقل مجموعة همام المتخصصة ببرنامج الحسين هذا لتعمل بإشرافه المباشر وتحت مظلة جهاز الأمن الخاص الذي يشرف عليه أيضاً وأنه بذلك سيوفر للبرنامج السرية العالية والتحصين الكبير الذي اقترحه همام. وجد صدام رأي نجمه الجديد صائباً فأصدر الأمر بالعمل وفق مقترح حسين كامل الذي لم ينتظر كي يجف حبر الأمر الرئاسي فأبلغ همام هاتفياً وبلهجة الطفل المبتهج أن يرسل إليه مجموعة مشروع الحسين المقترحة في مذكرة همام لتعمل بأمرته. فوقع هذا التبليغ على همام وقع الصاعقة في غير ما كان يأمله وهو المباشرة بهذا البرنامج ضمن أنشطة منظمته منظمة الطاقة الذرية وتوجَّس خيفةً مما قد يخبئ له القدر من هذا الإجراء وجاءه أمر صدام مدوناً بعد ساعات قلائل من مكالمة حسين كامل الهاتفية وأصبح واجب التنفيذ فأوامر صدام يجب تنفيذها خلال 24 ساعة وإلاّ فالويل كل الويل لمن يتلكأ لساعة واحدة. وكان همام، حين بدأ يفكر بالبرنامج، قد كلف الدكتور خضر عبد العباس، وهو فيزيائي نظري مغمور قليل النشاط العلمي ومن منتسبي مركز البحوث النووية، أن يُعدَّ له دراسة أولية عن برنامج التسلح النووي فاعتكف خضر في مكتبة التويثة أياماً قلائل وقرأ عدداً من المقالات السطحية حول تصميم السلاح النووي فنقلها نقلاً آلياً ووضعها ضمن دراسة مقتضبة شارحاً لهمام تصميم السلاح النووي الذي لا يزيد عن ما يعلمه القارئ العادي أو ما يكتب في الكتب المنهجية للتدريس الجامعي الأولي في علوم الفيزياء النووية. استدعى همام خضر حمزة إلى مكتبه وطلب منه أن يسمي بعض المنتسبين ممن يستطيعون تقديم العون له لتنفيذ ما ورد في دراسته الأولية فاقترح عليه إسمي الدكتور غازي الشاهري وصالح الخفاجي وعدة أشخاص من الفيزيائيين والمهندسين الشباب. بادر همام حالاً بإرسال كتاب رسمي إلى حامد يوسف حمادي السكرتير الشخصي لصدام بشأن إلحاق مجموعة مشروع الحسين بجهاز الأمن الخاص وأرسل نسخة من كتابه إلى حسين كامل الذي طلب منه هاتفياً أن يبعث بهذه المجموعة إليه فوراً وعند التحاق هذه المجموعة بحسين كامل قال حسين لخضر حمزة: من اليوم فصاعداً سيكون اسمك السري محمد حازم ووفر له موقعاً في بناية نقابات العمال التي كان قد استولى عليها وضمها إلى مملكته الجديدة "هيئة التصنيع العسكري" وأخذ يغدق على خضر حمزة أو محمد حازم الهبات وأولها بوضع سيارة وسائق تحت تصرفه فانتشى هذا العالم المغمور زهواً مثل ديك رومي ووجد بوناً شاسعاً بين غرفته المتواضعة في مركز البحوث النووية ومكتبه الجديد الواسع ذي الأثاث الفاخر وعدد من الهواتف مع تخصيص خادم له وسائق يخدم عائلته إضافة لسائقه الشخصي فبدأ يتخيل أنه سيكون حقاً صانع القنبلة النووية لصدام حسين وأنه سيحظى بجوائز التكريم مؤملاً أن جميع أعمال مجموعة جعفر ليست أكثر من تقديم المادة الأولية اليورانيوم عالي التخصيب لقنبلته. الاجتماع الحاسم والمفاجأة الهزيلة في صباح يومٍ ممطر من أيام أيلول سبتمبر 1987 إتصل حامد يوسف حمادي السكرتير الشخصي لصدام بهمام رئيس المنظمة طالباً منه الإعداد لاجتماع عاجل في موقع التويثة برئاسته وحضور المعنيين بشؤون التسلح النووي. فكان له ما أمر، وعقد الاجتماع في قاعة في الطابق العلوي من مكتبة التويثة وترأس الاجتماع حامد وحضرهُ الفريق عامر السعدي ممثلاً شخصياً لحسين كامل وحضر الاجتماع من المنظمة همام وجعفر ونعمان وخالد ابراهيم سعيد الذي كان يشغل منصب مدير مركز البحوث النووية آنذاك كما حضر الاجتماع خضر حمزة. طلب حامد حمادي من عامر السعدي أن يعرض على المجتمعين خلاصة لتقرير مجموعة مشروع الحسين مجموعة خضر حمزة عن متطلبات برنامج التسلح النووي. فقرأ عامر السعدي بنبرة السخرية أن البرنامج يحتاج إلى تخصيص بليون دولار وإلى تعيين ثلاثمئة عالم من حملة الدكتوراه بتخصصات نادرة للعمل ضمن البرنامج الذي سيستغرق عشر سنوات بعد تأمين هذه المتطلبات لإنجاز البرنامج وتجهيز القنبلة النووية قنبلة خضر حمزة/ محمد حازم صانع قنبلة صدام!. كان خالد ابراهيم سعيد يجلس قبالة عامر السعدي فتبسم ضاحكاً وقال بنبرة التحدي أنا أستطيع أن أنفذ البرنامج بأقل من نصف المدة هذه وبإمكانات مركز البحوث النووية الذاتية ومن دون أي تخصيص إضافي. عندها نظر جعفر إلى همام ونعمان متعجباً بينما ابتسم عامر السعدي بابتسامته المعروف بها وحوّل وجهه نحو حامد يوسف حمادي وقال: "المسألة انتهت... البرنامج عاد إلى المنظمة وننتظر التنفيذ من قبلكم وبما اقترحه خالد ابراهيم سعيد" وانفض الاجتماع المصيري بهذه العجالة بينما كنا معتادين حين مناقشة موضوع بسيط كتصاميم بناية لمشاريع الهندسة الكيميائية كان النقاش يبدأ بعد صلاة المغرب ولا ينتهي إلاّ عند أذان الفجر. استدعى حسين كامل خضر حمزة وأمره أن يغادر فوراً ليلتحق بوظيفته السابقة هو وجماعته في منظمة الطاقة الذرية. فغادر مهرولاً ونسي أن يصطحب معه أوراقه الشخصية ومن بينها نسخة من تقريرٍ كان قد أعده لحسين كامل صبّ فيه جام حقده وغضبه على قياديي المنظمة بدءاً بهمام رئيس المنظمة وانتهاء بظافر سلبي مدير عام إدارة مجموعة البرنامج الوطني النووي أي مجموعة جعفر متهماً إياهم باحتكار الامتيازات وتجاهلهم باقي منتسبي المنظمة من أمثاله، علماً أن همام أمر موظفاً إدارياً بعد يومين أو ثلاثة للذهاب إلى مقر نقابات العمال وجلب ما تركته مجموعة خضر حمزة هناك حين غادرت مهرولة إلى موقع التويثة تحت مطرقة حسين كامل. فوقعت نسخة تقرير حمزة إلى حسين كامل بيد رئيس المنظمة واطلع وآخرون على ما تحتويه من تشنيع وافتراءات. جعفر: انتقال المجموعة الأولى إلى خارج المنظمة لم ننتظر طويلاً لنواجه إجراءات حسين كامل المباغتة إلينا فبعد أيام قلائل أصدر صدام أمراً بنقل المجموعة الأولى G1 بكامل منتسبيها ومشاريعها ومعداتها من المنظمة إلى جهاز الأمن الخاص وبارتباط مباشر بحسين كامل.. غضب رئيس المنظمة همام من هذا التصرف التكتيكي الذي يتناقض مع استراتيجية المنظمة في أسلوب تنفيذ البرنامج النووي الوطني، غير أنني لم أُظهِر أي رد فعل، وعندما أظهر لي نعمان عدم ارتياحه من هذا القرار وتوقعه وصول قرارات أخرى على شاكلة هذا قلت له "نحن نعمل لإنجاح البرنامج ولا يهمنا الارتباط الإداري الذي يقرر لنا، وعلينا التركيز على الجوانب العلمية والفنية والمضي قدماً بمشاريعنا". لم يكن نعمان معتاداً على هدوء أعصاب مثلي ولكنه أيقن أن ليس بمقدور أحد أن يعترض على قرارات صدام فهو الآمر الناهي ومن لا يروق له ذلك فليشرب ما شاء من البحر. جعفر: تأسيس البتروكيمياويات 3 لم يتوقف طموح حسين كامل في السيطرة على البرنامج النووي الوطني عند عتبة استيلائه على إحدى تكنولوجيات ذلك البرنامج بل أخذ يتحين الفرص للاستيلاء على البرنامج بأكمله. وجاءته الفرصة الذهبية مرة أخرى في النصف الثاني من عام 1988 عندما عرض رئيس المنظمة همام عبدالخالق على صدام تقدم العمل في البرنامج النووي الوطني فذكر أن ثمة تأخراً في خطة تجهيز ثلاث ورش تابعة لمنشأة عقبة بن نافع بالمكائن المتخصصة، وأشار في مذكرته إلى وجود عثرات ضمن خطة تنفيذ أبنية ومرافق موقع الطارمية المخصص للمرحلة الإنتاجية من برنامج التخصيب بطريقة الفصل الكهرومغناطيسي علماً أن هذا الموقع تنفذه الشركة الفدرالية للمشاريع المتخصصة شركة حكومية يوغسلافية بعقد مع منشأة عقبة بن نافع التابعة لوزارة الصناعة والتصنيع العسكري نيابة عن منظمة الطاقة الذرية. كان طبيعياً أن يحيل صدام حسين هذه المذكرة إلى حسين كامل بصفته وزير الصناعة والتصنيع العسكري وهي الوزارة التي اتهمها رئيس المنظمة بالتقصير. طار صواب حسين كامل حين قرأ المذكرة فهو يعتقد أن وزارته لا تخطئ ولا تتوانى في تنفيذ خططها، فأعاد المذكرة إلى الرئيس العراقي معلقاً: "إذا كانت معظم الفعاليات التصنيعية والإنشائية للمنظمة تتم في وزارتنا وإن كنا نحن سبّبنا التأخير فلماذا لا ينتقل البرنامج النووي الوطني بالكامل إلى وزارتنا كي نحكم سيطرتنا على حُسن تنفيذ فعالياته كلها ولا نكون الجهة الملامة في التأخير والتقصير". اقتنع الرئيس بمنطق حسين وأمر رئيس ديوان الرئاسة أحمد حسين خضير أن يترأس اجتماعاً للطرفين ويتوصل معهم إلى توصية تعرض عليه. وتم عقد هذا الاجتماع في تشرين الأول اكتوبر من عام 1988 وحضره من وزارة الصناعة والتصنيع العسكري الوزير نفسه ووكيل الوزارة الأقدم لشؤون التصنيع العسكري عامر السعدي والمدير العام للدائرة الفنية في التصنيع العسكري نزار جمعة قصير العاني والمدير العام لمنشأة عقبة بن نافع أحمد مرتضى أحمد والمدير العام لمنشأة الفاو عبد الفتاح بينما حضره من جانب المنظمة رئيسها همام عبدالخالق وكذلك المدير العام للمجموعة الثالثة المهندس ظافر رشيد سلبي اضافة لحضوري شخصياً. وبعد أن افتتح الجلسة أحمد حسين خضير بدأ حسين كامل الحديث بانفعال وصوت عال صاباً جام غضبه على رئيس المنظمة همام عبدالخالق متهماً إياه بتعليق إخفاقات برنامجه على شماعة منشآت التصنيع العسكري فغدا الوضع متشنجاً وبدا واضحاً للجميع أن المنظمة قد خسرت في الجولة الأولى ولا تستطيع الصمود أمام حجج حسين كامل ومقترحه الذي بدا منطقياً في معطيات الحدث، وكان رد همام متشنجاً وضعيفاً وهكذا انتهى الاجتماع. قرارات ومراسيم في صباح اليوم التالي اتصل بي حسين كامل هاتفياً وأخبرني بصدور قرار صدام حسين بنقل البرنامج النووي الوطني بجميع مشاريعه ومنتسبيه ومعداته إلى وزارة الصناعة والتصنيع العسكري. وطلب مني بأن يستمر العمل كما هو عليه وأن يكون الارتباط في كل الأمور به شخصياً. وفي مطلع عام 1989 صدر مرسوم جمهوري بتأسيس كيان اسمه مشروع البتروكيماويات 3 وهو اسم وهمي برئاستي وفي الوقت نفسه تم تعييني في منصب وكيل وزارة الصناعة والتصنيع العسكري وأن يرتبط هذا الكيان بالوزير حسين كامل. وقبل أن ننتقل إلى قصة تقدم العمل في البرنامج ليصل إلى ما وصل إليه وما اكتنفه من مصاعب علمية وهندسية وتصنيعية كبيرة تم التغلب عليها واحدة إثر الأخرى بالجهد الخلاق والعمل الجماعي المنظم وبنكران الذات، نجد من الأهمية بمكان أن ندون هنا الجهد الخلاق الذي بذل لتأمين الحصول على التجهيزات اللازمة والحساسة من الأسواق العالمية المتاحة للجميع وما رافق ذلك من عراقيل وإجراءات للتغلب على المحددات الدولية والمراقبة المخابراتية العالمية المشدّدة وكيف تمكنّا من تجاوز هذه المحددات ببراعة لا تقل عن براعة البحث والتطوير والاختراع الذي أنجزناه خلال المسيرة الخلاّقة في تنفيذ البرنامج. لقد تم الحصول على المعدات والمكائن والتجهيزات من الأسواق العالمية بأسلوب التخفي والتمويه ومن خلال أغطية تكنولوجية مموهة وعبر قنوات تجهيز ثلاث هي: - قناة التجهيز من خلال دوائر وأقسام المشتريات في وزارات ودوائر الدولة، مثل الشركة العامة للمشاريع النفطية سكوب والمنشأة العامة للصناعات الكهربائية والمنشأة العامة للصناعات الهندسية الثقيلة. - تأسيس أقسام مشتريات وهمية في وزارات معينة تعمل خصيصاً لتجهيزات البرنامج النووي الوطني، لا سيما التجهيزات بالغة الحساسية وشملت هذه الأقسام مديرية الأجهزة الفنية والمديرية العامة للتجهيزات الصناعية وقسم الخدمات الهندسية. - تأسيس شركات وهمية ضمن القطاع الخاص لتتولى تصريف مشتريات البرنامج مثل شركة أحمد رشيد أحمد ومشروع تطوير الوحدات الصناعية وكنا نستعرض حاجتنا للمشتريات الخارجية فإن وجدناها تجهيزات اعتيادية نستوردها عبر قناة مشتريات الطاقة الذرية أما عندما نجد أن جهازاً ما أو معدة محددة متخصصة وقد تجلب الانتباه وتحرك جرس مراقبة الشركات المجهزة أو الأجهزة المخابراتية الدولية المعنية بمراقبة مشتريات العراق كنا ندرس مواصفات المعدة ونجتهد لإيجاد استخدام صناعي غير الاستخدام الحقيقي ضمن برنامجنا وعندئذ نحدد قناة المشتريات التي تتولى استيرادها، وعلى سبيل المثال أردنا استيراد نحو 210 مضخات تفريغ عملاقة من النوع الانتشاري لاستخدامها في إحداث تفريغ وتأمين استقراره بحدود 10-7 ملي تور ضمن وعاء الفاصلة الكهرومغناطيسية الإنتاجية وهو وعاء بحجم 10متر مكعب لموقع الطارمية ومثلها لاحقاً لموقع الشرقاط. اجتهدنا بأننا سنستخدم هذه المضخات ضمن مشروع صناعي لفصل حامض الأولييك من الزيوت النباتية.. ولكي نظهر صحة هذا التمويه أعددنا التصميم الأساس والتفصيلي لمنظومة إنتاجية لهذا الحامض وأعددنا برنامجاً تدريبياً نظرياً للمهندسين حول أسلوب تنفيذها ونصبها وتشغيلها كل ذلك كي يكون نقاشهم مع الشركة المجهزة مقنعاً انطلاقاً من مبدأ الاقتناع قبل الإقناع وفاتحنا العديد من الشركات المصنعة في دول مختلفة لشراء هذا العدد الكبير من المعدات وسافر مهندسونا المدرَّبون لمفاوضة الشركات المجهزة ووجدوا هناك أن برنامج تدريبهم النظري أعطى ثماره حيث استطاعوا محاورة الشركات المجهزة حول شكوكهم بعدم حاجة المنظومة الإنتاجية التمويهية لمضخات بهذه المواصفات وتمكنا من استيراد العشرات من هذه المضخات قبل أن نجابه بحجز 27 مضخة في الولاياتالمتحدةالأمريكية ومنع الشركة المجهزة CVC Products Inc. من بيعها للعراق. وعندئذ حاولنا تصنيع مثل هذه المضخة بأسلوب الهندسة العكسية وتمكنا من تصنيع أنموذج تجريبي واحد. وحين أردنا استيراد زيت الفومبلين لاستخدامه في هذه المضخات وهو زيت يقاوم التعرض لغازات الهالوجينات مثل الكلور أو الفلور أو لمركباتهما وجد مهندسونا الموفدون لمفاوضة الشركات المجهزة صعوبة في إقناع المجهزين بضرورة استخدام هذا الزيت المتخصص جداً لمنظومة إنتاجية بسيطة مثل إنتاج حامض الأولييك فعلق مدير مبيعات إحدى الشركات المجهِّزة قائلاً: إذا كانت لديكم مبالغ كثيرة لشراء زيت لا تحتاجونه لمنظومة صناعية بسيطة فهذا شأنكم ولابأس لنا من الاستفادة من فائض أموالكم وعندها التزم مهندسونا الصمت لأن الغاية كانت شراء الزيت وبالكميات الكبيرة المطلوبة. وبأسلوب المشتريات هذا كنا نبذل جهداً ضائعاً كبيراً لجوانب خارج مسلكنا الأساس ولكنها كانت ضرورية ضمن مسلسل الغش والتمويه. غير أننا لم نكن موفقين في جميع مشترياتنا بهذه الطريقة فعندما أرادت المجموعة الرابعة المعنية ببرنامج التسلح النووي شراء أفران متخصصة لتستخدم في مصبوبات فلز اليورانيوم اتصلت عام 1989 بشركة كونساركConsarc Corporation New Jersey, USA لشراء فرن من نوع شكل الجمجمة يعمل عند درجات حرارة عالية ولغيره من الأفران فكان المخطط المقرر أن تشترى من فرع الشركة في سكوتلاندا تحت غطاء تمويهي لاستخدامها في صب أطراف صناعية لمعوقي الحرب ولم نتمكن من الحصول عليها إذ تدخل البيت الأبيض الأمريكي ومنع عملية الشراء في حزيران من عام 1990. وحتى لو لم يحصل هذا المنع فلم يكن بمقدورنا تسلُّمها لأن إجراءات الحصار دخلت حيز التنفيذ بعد ذلك بشهرين إثر غزو صدام لدولة الكويت. * فصول منتقاة من كتاب سينشره مركز دراسات الوحدة العربية في اواخر الشهر الجاري