إن الكتابة عن مصر ليست بالأمر السهل كما قد يتبادر إلى الأذهان، فهي كيان معقد متشعب، يختلط فيه الماضي السحيق بالحاضر المتوتر، وبالتالي فنحن حقيقة بصدد موضوع يبدو غاية في الصعوبة والتعقيد، والاستثناءات، قال عنها هيرودوتس قوله المأثور: "إن مصر هبة النيل"، ولكن المؤرخ المصري محمد شفيق غربال، بعد أن رأى أن النيل يمر في أراضي بلاد كثيرة ومع ذلك لم يهبها مثل ما لمصر من حضارة، ومدنية عبر التاريخ، خرج يقول مأثورًا آخر وهو أن "مصر هبة المصريين"، وفي رأينا أن التفاعل بين مبادئ الثبات والاستمرارية من ناحية ومبادئ التغير والتحول من ناحية أخرى هو الذي انتج المجتمع المصري المعاصر بقيمه ومؤسساته، وهو الذي صاغ الطابع الخاص للشخصية المصرية، وهو المسؤول عن مشكلات مصر الحضارة وهمومها. وبالتالي، انشغل المفكرون والباحثون المصريون منذ فترة طويلة بالإجابة عن تساؤلين محوريين: لماذا حدث التخلف؟ وكيف تتحقق النهضة؟ وبالطبع لا توجد إجابة واحدة على هذه الأسئلة وتختلف الإجابات عليها حسب خبرة المجتمعات وظروفها التاريخية والسياق الذي بدأت فيه عملية التنمية. ومن ثم، تعددت الكتابات وتنوعت الرؤى وتباينت العدسات في نظرتها ل "ماهية القاطرة" التي تشد المجتمع المصري إلى الأمام وتنهضه من كبوته، فهناك اتجاه ركز على الإصلاح السياسي من خلال السماح بنشأة الأحزاب السياسية وتفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني وإطلاق حرية مؤسسات الإعلام. وهناك اتجاه آخر ركز على النمو الاقتصادي ومواجهة البطالة وتشجيع الاستثمار. وهناك اتجاه ثالث ركز على الانفتاح الثقافي ودمج التيارات الفكرية المختلفة في النسيج المجتمعي. وهناك اتجاه رابع ركز على التطور التعليمي، باعتباره أحد العناصر الحاسمة في تحديد مستقبل أي مجتمع. وعلى رغم أن تحقيق النهضة يحتاج إلى "مزيج" من العناصر السابقة، فإن الإصلاح السياسي في مصر أضحى قضية مصيرية، بعدما انتفت مبررات تأجيله، وتزايدت الضغوط، داخلياً وخارجياً لإجرائه. ولم يعد هناك مجال للدفع باستقلالية القرار الوطني وتوجيه الاتهام إلى تآمر خارجي أو استهداف من جانب قوى معينة أو أعداء يتربصون بنا، فنحن مقبلون على مرحلة مهمة من تطورنا السياسي، تحمل شعار "تحرير المواطن شرط لتحرير الوطن". فعبر الديموقراطية نستطيع أن نقاوم الضغوط الخارجية التي تتعلل بأن العرب هم الاستثناء الوحيد من موجة التحول الديموقراطي التي اجتاحت العالم منذ عقد السبعينات. وفي الوقت نفسه، فإن التحول الديموقراطي والإصلاح السياسي يضمنان استعادة مصر دورها كضابط إيقاع وكجهاز عصبي لعالمنا العربي، بعد أن كانت "قائدة" في قرار الحرب و"رائدة" في خيار السلام. ويمثل قرار الرئيس مبارك بتعديل المادة 76 من الدستور المصري تحولاً نوعياً في النظام السياسي المصري، بانتخاب رئيس الدولة من طريق الانتخاب المباشر وليس من طريق الاستفتاء. وتأتى هذه المبادرة استجابة لمطالب شعبية واسعة قدمتها أحزاب سياسية ومؤسسات مدنية على مدار السنوات الأخيرة لإفساح الطريق السليم أمام تداول السلطة ودوران النخبة، بعد عقود طويلة من الجمود السياسي في بلد عرف أول مجلس نيابي في العام 1866 وأول دستور في العام 1923 وأول حركة تحرير نسائية وتأسيس الاتحاد النسائي على يد هدى شعراوي في 1923 وأول ثورة للتحرر من الاحتلال الأجنبي في 1952. وعلى رغم أن ما نحن بصدده يمثل خطوة واحدة في المشوار الديموقراطي، بل ومادة واحدة من الدستور فإن التوافق المصري العام الآن يقوم أولاً على أن تكون هذه الخطوة واحدة من خطوات ديموقراطية كثيرة وسريعة، وثانياً على أن تعديل هذه المادة من الدستور فاتحة لمراجعة الدستور كله خلال الفترة المقبلة. وقد شهدت فترة حكم الرئيس مبارك زيادة في عدد الأحزاب حتى وصلت في العام 2005 إلى 19 حزباً سياسياً. ولكن هذه الزيادة العددية لم ترافقها زيادة مماثلة في حيوية الحياة الحزبية، ومازال حضور هذه الأحزاب لدى الرأي العام محدوداً إلى حد كبير. وفي عدد من استطلاعات الرأي العام تبين أن غالبية المواطنين ليسوا على معرفة بأسماء أغلب هذه الأحزاب، ناهيك عن معرفة برامجها وقياداتها، في الوقت الذي ينظر إلى الحزب باعتباره من أكثر المؤسسات أهمية في عملية الإصلاح السياسي، ومن الصعب تصور حدوث تطور ديموقراطي من دون دور نشيط للأحزاب السياسية. ففي ظل نظام سياسي يقوم على التعددية، يصبح للأحزاب دور لا غنى عنه في دعم أسس النظام الديموقراطي، ويمتد دورها إلى توسيع قاعدة المشاركة السياسية والتأثير في الرأي العام والقيام بالتعبئة السياسية أثناء الانتخابات، كما تلعب الأحزاب أيضاً دوراً رقابياً من خلال تمثيلها في المجالس النيابية بما يعني التأثير في السياسات العامة والمشاركة في صنع القرار، علاوة على دورها في إظهار قيادات جديدة وترشيحها لشغل المناصب العامة، إذ تأتى غالبية قيادات العمل السياسي في النظم الديموقراطية من العمل الحزبي. وبقدر تأمين حرية تكوين الأحزاب بما يحقق تعدديتها، بقدر ما تكتسب الأحزاب السياسية كفاءتها وتقوم بأدوارها السياسية. ولكن تبقى هذه الأحزاب تعانى من أزمة الشرعية، فالحكومة تسمح بحريات محدودة لتأسيس الأحزاب. هذه القيود الحكومية المفروضة على الأحزاب السياسية توازيها قيود أخرى داخل الأحزاب تحد من كفاءتها وفعاليتها، أهمها افتقارها إلى قواعد جماهيرية وغياب الديموقراطية داخل هذه الأحزاب، أو ما يسمى بغياب "الحراك النخبوي"، ما أدى إلى جمود حركة تدوير النخب وتداول السلطة داخل الأحزاب، كما أنها تعانى أيضاً من أزمة الموارد، التي تفرض عليها عادة الاضطرار إلى اللجوء للسلطة طلباً للدعم بما يعنيه ذلك من خضوع طوعي لمطالبها. لكن التحدي الأهم يبقى في حرية الانتخابات. فمن دون حرية تأسيس الأحزاب ومن دون حرية الانتخابات وضمان نزاهتها تبقى حركة الأحزاب شكلية، ويبقى دورها هامشياً في الحياة السياسية. كما أن عدم مشاركة الأحزاب السياسية في الانتخابات الرئاسية المقبلة، يجهض التجربة الإصلاحية في مصر، وعلى رغم أنه من غير المتوقع أن تكون لأي مرشح آخر فرصة كبيرة في مواجهة الرئيس مبارك، في حال رشح نفسه، ولكن غياب مرشحين آخرين من الأحزاب عن خوض هذه الانتخابات، سيؤكد للمواطن المصري عدم قدرتها على تمثيل مصالحه والتعبير عن رغباته. ومن المهم أن تستجيب الأحزاب لمبادرة الرئيس بتفعيل دورها السياسي، وتقديم برامج سياسية أكثر واقعية، ترتبط بقضايا المجتمع ومشكلاته. ويخطئ من يظن أن الجهات المعارضة المصرية تبتهج بفعل ضغط الخارج على الداخل لإحداث التغيير، لأن "كل حرية خارج الدولة هي طوبى مخادعة" على حد تعبير المفكر المغربي عبد الله العروي. كما إن مراقبة الانتخابات، الرئاسية والبرلمانية بواسطة مؤسسات المجتمع المدني والهيئات الدولية لا تعد تدخلاً في الشأن المصري أو مساساً بالسيادة، لأن هذه المنظمات لا شأن لها بمباشرة العملية الانتخابية، ولن تفعل شيئاً أكثر من كتابة تقرير عما رأته وعاينته، وهو ما يؤكد على نزاهة الانتخابات وشفافيتها وثقة الناخب، وفي الانتخابات الفلسطينية والعراقية كثير من الدروس والعبر، بحكم مشاركتي في الانتخابات الفلسطينية أخيراً. ومن الخطأ أيضاً اختزال الإصلاح في طريقة انتخاب رئيس الدولة، واختصار النضال السياسي في مجرد ديموقراطية "صناديق الانتخاب" لأن الإصلاح عملية شاملة ومتراكمة، ونجاحه يتوقف بالأساس على قدرة المجتمع بمؤسساته المختلفة على التفاعل الإيجابي معه، وذلك بإعادة تشكيل الثقافة السياسية السائدة التي تقوم على السلبية واللامبالاة، إلى تكريس قيم المشاركة، ليس فقط في الشؤون السياسية بل في القضايا المجتمعية، وكذلك ترسيخ قيم الحرية والحوار، وأهمها المواطنة، وغرس التعددية وقبول الآراء المغايرة والنقد الذاتي، سواء في الأسرة أو المدرسة أو الحزب أو الجمعية أو الجامعة، في كل المستويات وعلى مختلف الأصعدة، لأنه من دون الإيمان بجدوى الديموقراطية فإن مؤسساتها وآليات ممارستها لن تكون سوى هياكل جامدة، يغلب عليها الشكل لا المضمون، ويغلفها القول لا الفعل، ولابد أن تكون كل المناصب بالانتخاب بداية من عمدة القرية ورؤساء الأحياء إلى عمداء الكليات ورؤساء الجامعات لأن صاحبها يؤدى خدمة للمجموع وليس لفئة يتبعها، كي لا يتدخل بالتأثير لصالح السلطة أو الفئة التي يمثلها بل يمتد ليخدم المجتمع ككل. كما أن الفترة المقبلة تتطلب إلغاء القوانين الاستثنائية التي تقيد الحريات وتمنع الأحزاب من القيام بنشاط سياسي، وإعادة النظر في القوانين المتعلقة بالحبس الاحتياطي. حتى يتم إلغاؤها، علاوة على حرية إصدار الصحف بما يضمن حرية تدفق المعلومات من مصادر متعددة، كما يعتبر وجود مجتمع مدني قوي من الشروط الجوهرية للإصلاح السياسي في مصر. لا شك أن أحد السمات الجوهرية للنظام الديموقراطي قدرته على مراجعة الذات وتصحيح الأخطاء ومواجهات السلبيات، فالديموقراطية في حد ذاتها لا تدعو إلى عالم مثالي ولا تقيم مدينة فاضلة كالتي دعا إليها أفلاطون في كتابه "الجمهورية"، فالمجتمعات الديموقراطية تعتريها مشاكل وظواهر سلبية، لكن تظل العبرة بآليات المواجهة من خلال المكاشفة والمحاسبة. وهناك تجارب لدول عدة راجعت نفسها، بينما تفوقوا هم توقفنا نحن، فعلى سبيل المثال، لم تتراجع الهند عن النموذج الديموقراطي بدعوى أن الإصلاح الاقتصادي لابد أن يسبق التطور السياسي وإنما حرصت على مواءمة النموذج التنموي مع الطرح السياسي، على رغم أن الهند دولة فقيرة تنتمي لدول العالم الثالث ولكنها على طريق الانتماء إلى العالم المتقدم. وفي هذا الصدد يقول نهرو "إنني أفضل البطء في التنمية مع الديموقراطية على النمو مع الديكتاتورية"، كما استطاعت جنوب أفريقيا جذب أنظار العالم إليها، ليس بسبب التقدم التكنولوجي والتفوق الاقتصادي، وإنما لتجربتها المتميزة في التعدد السياسي والتداول السلمي للسلطة، بعد معاناة طويلة مع نظام التمييز العنصري، الذي لم تخرج منه، حتى العام 1994. ومن جهة أخرى، أدركت دول كثيرة أنه بنظام تعليمي متطور ومتقدم تتغير أحوالها وتتبدل مكانتها. ويبقى القول إن مصر سواء في عهدها التعددي الليبرالي، أو في ثوبها القومي الاشتراكي، في حكمها الملكي أو في نظامها الجمهوري، راجعت نفسها، في السلم قيام ثورة 23 تموز يوليو 1952 والحرب وقوع حرب تشرين الأول أكتوبر 1973. لكنها أغلقت الأبواب والنوافذ أمام الديموقراطية. وقد حان الوقت لنفتح آفاقاً للانطلاق إلى مستقبل أفضل، بالإصلاح السياسي. عندئذ تكون مصر راجعت نفسها وصالحتها. * أستاذة العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في القاهرة، عضو في البرلمان المصري سابقاً.