على مدى الشهور الماضية احتلت قضايا"الإصلاح"الداخلي مساحة واسعة من اهتمامات النخبة السياسية والفكرية المصرية. وتراوحت هذه القضايا بين ضرورة تغيير الدستور وتعديل النظام الانتخابي وإلغاء لجنة شؤون الأحزاب، وحماية الحريات العامة وتقوية الاقتصاد وتنمية الاستثمار، وتطوير التعليم، ومواجهة مشكلة الأمية، وتمكين المرأة، وتجديد الخطاب الديني. والملاحظ أن غالبية هذه القضايا سبق طرحها وبإلحاح في فترة ماضية، كما وكأننا ندور في"حلقة مفرغة"، ولا نصل فيها إلى نتيجة محسومة أو وضع نهائي، وهو ما يذكر بمقولة الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين"الموتى يحكمون الأحياء"، بعبارة أخرى، لم ننجح في طرح قضايا جديدة لأننا ماضون في إعادة إنتاج قضايا قديمة. وقد طالبت أصوات عدة بتفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني في المسيرة الإصلاحية في المرحلة المقبلة مستندين في ذلك إلى أن العهد الليبرالي في مصر 1923-1952 شهد نمواً وتطوراً لمؤسسات المجتمع المدني، فقد برز دور الحركة النسائية من خلال تأسيس الاتحاد النسائي الأول في البلدان العربية برئاسة هدى شعراوي عام 1923، الذي اتجه للمطالبة بالاستقلال كمطلب قومي مقروناً بحقوق المرأة في التعليم، وحقوقها في العمل، وإصلاح قانون الأحوال الشخصية، وحماية الأسرة، ومواجهة البطالة، كما أنشئت ثماني نقابات مهنية، علاوة على نقابة المحامين التي أنشئت عام 1912، وتوالى تأسيس النقابات العمالية، وازدهرت الجمعيات الدينية الإسلامية والقبطية في ربوع مصر، واندمجت قطاعات عدة من المجتمع في أنشطة الجمعيات الأهلية شباب، نساء، طلاب، مثقفون بالتطوع. لكن هذه الخبرة السياسية لم يكتب لها الاستمرار والتواصل، إذ تم إجهاضها في مرحلة تالية، بعد قيام ثورة 23 تموز يوليو وانتقال النظام السياسي المصري إلى مرحلة جديدة ساد فيها"التنظيم السياسي الواحد"و"الصوت الواحد"بحيث يكون"الكل في واحد"، بحيث تعاملت الدولة مع مؤسسات المجتمع المدني في إطار سياسة شاملة لاحتواء هذه المؤسسات، وكان أبرز معالم هذه المرحلة القانون الرقم 32 لعام 1964والذي ظل سارياً حتى عام 1999، بما تضمنه من إحكام رقابة الدولة على تأسيس الجمعيات ونوعية أنشطتها والتدخل فيها وحلها أو دمجها، وشهدت العقود الثلاثة الماضية تطوراً ملحوظاً في أدوار مؤسسات المجتمع المدني المصري عبر الاهتمام بقضايا الديموقراطية وحقوق الإنسان والفقر والبطالة والتعليم والمرأة، وتعتبر قضية"التمويل الأجنبي"من أهم القضايا التي أثيرت في الآونة الأخيرة في شأن مؤسسات المجتمع المدني، فمع تدفق التمويل الأجنبي أثير جدل كبير حول طبيعة علاقة هذه المؤسسات بالمانحين الأجانب ومدى استقلالية جدول أعمال المؤسسات، علاوة على الرقابة المالية والشفافية في أداء هذه المؤسسات، وتمخضت عن ذلك مصادمات بين الحكومة وبعض منظمات المجتمع المدني، ونؤكد أن المجتمع المدني في مصر لا يهدف إلى الحصول على مزايا مادية واكتساب أوضاع عينية من الخارج، بقدر ما يطمح إلى بدء مصر خطوات مهمة في مجال إجراء الانتخابات البرلمانية النزيهة ورفع القيود عن الأحزاب السياسية ورفع الحراسة عن النقابات المهنية وإتاحة دور أكبر لمؤسساته. ومن هنا لا بد من أن نناقش الآراء التي تقول ان علاقة الدولة بالمجتمع المدني هي مباراة صفرية، وأن قوة المجتمع المدني تأتي وتتحقق غالباً على حساب الدولة التي يؤدي ازدياد قوة المجتمع فيها إلى ضعفها? والحقيقة أن تلك الأفكار ثبت خطأها في غالبية المجتمعات الديموقراطية التي استطاعت تحقيق قوة الدولة وقوة المجتمع المدني في الوقت نفسه على عكس المجتمعات غير الديموقراطية التي أدى ضعف المجتمع المدني فيها إلى إضعاف الدولة بدلاً من تقويتها? فلا وجود لدولة ديموقراطية من دون مجتمع مدني فعال، لأنه في إطار المجتمع المدني يتعلم المواطن مبادئ الديموقراطية وتداول السلطة واحترام الرأي الآخر? وفي حالات غياب الدولة أو اختفاء الحكومة تحت ظروف داخلية مثل الحرب الأهلية أو خارجية مثل التعرض للغزو أو الاحتلال يمكن المجتمع المدني أن يحل محلها ويؤدي دور البديل لحين زوال الأزمة? والأمثلة على ذلك عدة? وتحضرني في هذا السياق رؤية المجتمع المدني المصري للإصلاح من خلال"وثيقة الإسكندرية"? ففي مجال الإصلاح السياسي، طالبت الوثيقة بإرساء نظام التعددية السياسية، وكفالة الحريات العامة وعلى رأسها حرية التعبير، ودعم حقوق الإنسان وإلغاء القوانين الاستثنائية الطوارئ? وفي الجانب الاقتصادي، طالبت الوثيقة بوضع خطط واضحة وبرامج زمنية للإصلاح المؤسسي والهيكلي، وتشجيع برامج الخصخصة، ودفع عجلة الاستثمار? وفي الجانب الاجتماعي، ركزت الوثيقة على تطوير نظم التعليم ودعم البحث العلمي، والقضاء على الأمية في فترة لا تزيد على عشر سنوات، وصوغ عقد اجتماعي جديد بين الدولة والمواطن لتحديد التزامات كل طرف، وفي الجانب الثقافي، طالبت الوثيقة بإطلاق حريات المجتمع المدني، وتجديد الخطاب الديني، والقضاء على الثقافة الذكورية في رؤية المجتمع للمرأة. وما يثير الدهشة أن النظام السياسي المصري يلجأ إلى آليات عدة للتعامل مع المجتمع المدني: - الضبط القانوني من خلال فرض"ترسانة"من القوانين التي تحكم حركة هذا المجتمع من دون أدنى تشاور مع أصحاب الشأن، ومن خلال هذه القوانين تحرم المنظمات المدنية من استقلالها في إدارة شؤونها. - التعامل الانتقائي مع منظمات المجتمع المدني المختلفة من خلال تبني مجموعة آليات الدمج والاستبعاد أو العصا والجزرة. - التحكم المعلوماتي بعدم السماح للمجتمع المدني بالنفاذ الى وسائل الإعلام الأكثر انتشاراً والمملوكة للدولة لتعبئة التأييد له. وما زالت تسيطر على النظام السياسي المصري قيم"الثقافة الجمعية"أي ثقافة التنظيم السياسي الواحد التي ترفض أية تعددية حقيقية، وتنكر الخلاف في الرأي والاجتهاد، وترى أن هناك رأياً أو اتجاهاً واحداً يجب أن يسود ويعد كل اختلاف معه نوعاً من الخروج على"الإجماع الوطني"، وهي ثقافة تصلح في عصر الشمولية وليس الديموقراطية التي تعلي من ثقافة الحرية والتسامح والإبداع والرأي والرأي الآخر مهما كان بينهما من اختلاف أو حتى تناقض. لقد جف دم الحياة السياسية في مصر وأصيبت ب"تصلب"الشرايين، في وقت عرفت بلاد عربية مثل المغرب والبحرين وأفريقية مثل جنوب أفريقيا ونيجيريا وآسيوية مثل الهند وباكستان وماليزيا، وأميركية لاتينية مثل البرازيل والأرجنتين، انتقالاً سلمياً للسلطة عبر صناديق الانتخاب، فهل هناك ما يفسر تخلف التطور السياسي باتجاه الليبرالية في مصر، وهي التي سبقت في هذا التطور كلاً من دول آسيا وأفريقيا بل وبعض البلاد الأوروبية بوجود مجالس نيابية منتخبة فيها وحركة دستورية نشطة منذ ستينات القرن التاسع عشر، ما جرى في مصر منذ التسعينات هو أنها تتطور خطوة وتتراجع خطوات، إذ حدثت انتكاسة لأوضاع أكثر ديموقراطية في المجالس النيابية والتي حظيت في الثمانينات بوجود أكبر لقوى المعارضة، وفي النقابات المهنية التي عرفت في العقد نفسه انتخابات حرة، وفي القرى التي كانت تنتخب"عمدها"وفي كليات الجامعات التي كانت تنتخب"عمداءها. ولا يحتاج إثبات أزمة الأحزاب السياسية في مصر، إلى دليل أو برهان. فمظاهرها أكثر وضوحاً من أن تحتاج إلى البحث عنها? كما أن بعض قياداتها أصبح أكثر استعداداً للاعتراف بوجودها، بعد أن كانت تميل إلى التقليل منها، وإن ظلت تنزع إلى تحميل القيود المفروضة عليها المسؤولية عنها. المواطن المصري البسيط يأمل في أن تكون الظروف أصبحت مناسبة لإحداث التحول الديموقراطي المنشود الذي تأخر سنوات طويلة، على رغم تأكيد رئيس الدولة أهمية الديموقراطية والتعددية وتوسيع المشاركة السياسية في أجواء تظللها الحرية تجعلنا نردد"الحرية كالماء والهواء"مثلما أطلقها طه حسين على التعليم، وأمام هذا المشهد فإن الأمل الذي يمكن أن يحرك الأمور في الاتجاه الصحيح، قد يكون في المجتمع المدني المصري، لأنه القادر في المستقبل على أن يخترق الأسوار التي عفا عليها الزمن، وينقل مصر من مرحلة إلى أخرى، من خلال حوار حقيقي بين أطراف وقوى اجتماعية مختلفة يمكن أن تضم مثقفين وجمعيات أهلية ونقابات مهنية وتيارات سياسية وموجودة في الواقع وليس مع أحزاب سياسية فقط، عندئذ، يمكن القول إن قاطرة الإصلاح انطلقت من"بوابة"المجتمع المدني لأنه تواصل مع المجتمع بمؤسساته وألوان طيفه المختلفة. عضو في البرلمان المصري سابقاً - أستاذة في الجامعة الأميركية في القاهرة.