ليس مبالغة القول إن قضية "الإصلاح" هي واحدة من أهم القضايا، إن لم تكن أهمها على الإطلاق، لأي نظام سياسي في المنطقة العربية، خصوصاً مصر. ومن ثم، فإن الإصلاح يمثل "ملفاً" مفتوحاً دائماً ومطروحاً للنقاش على المفكرين والمثقفين والأكاديميين المصريين منذ عقود، لا سيما في ما يتعلق بمحاولات الإجابة على السؤال المحوري: كيف يمكن إنجاز الإصلاح في مصر؟ أو ما يعرف بالإنكليزية "Know How" وعلى رغم أن دارسي النظام السياسي المصرى شاركوا بإسهامات مميزة في توصيف "الداء" إلا أنهم لم ينجحوا في تحديد "الدواء". نعترف بأن جهاز الدولة المصرية في الوقت الحالي عاجز عن مواجهة تحديات العولمة التى تعرض لها الاقتصاد والمجتمع والنظام السياسي في مصر، وذلك واضح بالمقارنة مع دول أخرى كانت أوضاعها قبل اربعة عقود من حيث البنية الاقتصادية ودرجة رفاهية المواطنين والاستقرار السياسي أسوأ بكثير من مصر. ومع ذلك حققت هذه الدول، وبالتعامل بدرجة افضل مع الاقتصاد العالمي والمجتمع الدولي، قفزة هائلة تكاد تنقلها إلى مصاف الدول المتقدمة، بينما ما زالت مصر لم تنجح بعد لا في تحقيق تنمية مستدامة ولا في الاقتراب من مكانة الدول الصناعية الجديدة، ويحضرني في هذا السياق "الحالة الكورية الجنوبية" التي تشترك مع مصر في عدد من السمات مثل الكبر النسبي لعدد السكان والدور البارز للمؤسسة العسكرية والحس الوطني القوي لدى النخبة السياسية والمواطنين. ولمصر تجربة عريقة في الإصلاح السياسي على مدى قرنين من الزمان، فقد عرفت أول جمعية أهلية هي الجمعية اليونانية في الإسكندرية عام 1821، وسلكت طريقها إلى الحياة البرلمانية من خلال أول مجلس نيابي عام 1866، والظاهرة الحزبية فيها ليست حديثة النشأة. كما شهدت مصر أول دستور عام 1923، وانطلقت شرارة أول ثورة للتحرير في القرن العشرين منها هي ثورة 23 تموز يوليو عام 1952. ومن ثم، فإن دفة المنطقة في قبضة مصر، نظاماً ومجتمعاً، وأن حركة مصر إلى الإمام ستكون "القاطرة" التي ستأخذ الآخرين معها في طريق الإصلاح في الداخل والانفتاح على الخارج. وما ذكره ديفيد ساترفيلد نائب مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى- أثناء جلسة استماع في مجلس النواب الأميركي في 16 حزيران يونيو الماضي - عن "القامة الإقليمية" لمصر في المنطقة يؤكد صحة هذا الكلام. والمقصود بالقامة الإقليمية هي تلك القدرات التى تجعل من مصر فاعلاً أساسياً في المعادلة الإقليمية بالصورة التي لا تجعل مكانة هذه الدولة قابلة للاهتزاز كثيراً وإن عصفت بها أنواء الأزمات الداخلية أو الدولية. وعلى رغم أن مصر شهدت في عهد الرئيس حسني مبارك تعددية حزبية واضحة 17 حزباً، فإن هذه التعددية لم تنعكس أثارها على مجمل الحياة السياسية وتفاعلاتها بالقدر الكافي، مما يقلل من الدور الذي تقوم به الأحزاب السياسية، وهو ما يمكن إرجاعه إلى عوامل عدة: - الضعف التنظيمي للأحزاب السياسية عموماً. فكثير من هذه الأحزاب لا يملك أطرًا تنظيمية، أو هياكل حزبية تنتشر في ربوع الوطن، كما أن معظمها لم يهتم بعملية التربية السياسية للكوادر والقيادات بداخلها، ويرجع ذلك تارة إلى حداثة نشأة هذه الأحزاب، وتارة أخرى إلى عدم توافر مقومات الحزب فيها فهي أقرب إلى شقة مفروشة تستأجرها وصحيفة ضعيفة تصدرها، وتارة ثالثة إلى القيود القانونية التي تحكم نشاطها. - غياب التمايز بين برامج الأحزاب السياسية بما لا يجعلها تمثل بدائل في نظر الناخبين. كما أن غالبية المواطنين لا تعرف أغلب هذه الأحزاب، ناهيك عن معرفة برامجها وقيادتها. - غياب الديموقراطية الداخلية في معظم هذه الأحزاب، وتركز سلطة اتخاذ القرار في عدد قليل من قادة الحزب من دون مشاركة حقيقية. - عجز كثير من أحزاب المعارضة عن القيام بوظيفة التعبير عن المصالح وتجميعها وبلورتها في شكل سياسات وبرامج حزبية. وفي عديد من الأحيان دخلت الأحزاب في معارك صحافية وسياسية حادة، وانشغلت بخوض معارك مع نظم الحكم، وبين بعضها البعض، بدلاً من العمل على تأسيس تقاليد ديموقراطية في الممارسة السياسية. وتشير رحلة المجتمع المدني في مصر إلى مجموعة من الملاحظات والاستخلاصات تتمثل في ما يأتي: - هناك "انكسار" في الخبرة التراكمية للمجتمع المدني في مصر، ويعود ذلك في شكل أساسي إلى الأحداث السياسية الكبرى التي أثرت في طبيعة النظام السياسي وتوجهاته إذ بدا الأخير في حال "تنقل وترحال" مما انعكس على تراكم الخبرة السياسية للمجتمع المدني، وأثر في مدى نضجه، خصوصاً في ما تعلق بتطور الثقافة المدنية. - منذ انطلاق "البذور الجنينية" لمؤسسات المجتمع المدني في القرن التاسع عشر، كانت الأهداف الوطنية الدستور والاستقلال والكفاح الوطني تشكل وتصوغ منطلقات حركة المجتمع المدني، وتنعكس على فعالياته، ثم حدثت مرحلة انقطاع في الفترة من 1952 إلى 1970، ثم بدأت الخبرة السياسية لفعاليات التعددية السياسية والانفتاح الاقتصادي في السبعينات، فبدا أن هناك نوعاً من غياب التوجه وغياب المشروع القومي، ولم يتمكن المجتمع المدني من خلق "توافق وطني" حول أهداف كبرى وأولويات. - الدولة المركزية المصرية وبيروقراطيتها كانت دائماً محدداً لفعاليات المجتمع المدني، وبدت في المراحل المختلفة - وبدرجات مختلفة - تفرض سلطتها الأبوية على المجتمع المدني، سواء من خلال الهيمنة السياسية الشاملة 1952 - 1970، أو من خلال التعددية السياسية المقيدة 1976 - حتى الآن. وحّد منها في الفترة الليبرالية الإطار التشريعي الذي سمح للمجتمع المدني بدرجة عالية من الحرية، إلى جانب المناخ السياسي الليبرالي العام. - ان النموذج "الصراعي" هو الغالب على العلاقة بين المجتمع المدني والدولة، وأن هناك "حدوداً" مسموحاً بها لحركة المجتمع المدني، وأن هذه الحدود لا يمكن تجاوزها، اتسعت هذه الحدود أحياناً وضاقت في أحيان أخرى، إلا أنها استمرت تمثل "دوائر حمراء" من الصعب تخطيها. - أن التفاعلات بين الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، كانت في معظم اللحظات التاريخية عاكسة "لتحالفات موقفية بين الطرفين"، أكثر منها تفاعلات دائمة ومستمرة. ومن ثم فإن مؤسسات المجتمع المدني تعاني من "أزمة"، وذلك لأسباب، لا تعود فقط إلى الصدامات والصراعات المتكررة في العقدين الأخيرين بين الدولة والمجتمع المدني، وإنما تعود أيضاً إلى طبيعة ثقافة المجتمع المدني ومدى تطورها، فهناك صراع على مستوى المجتمع المدني بين الاتجاهات الليبرالية والفكر التقليدي المحافظ الذي يطرحه الإسلاميون. كذلك فإن إدارة الاختلافات سلمياً على مستوى المجتمع المدني، تعاني من صعوبات ومعوقات. وإذا تحدثنا عن الممارسة الديموقراطية في المؤسسات المدنية، سنواجه بحقيقة قصور وتشوه هذه الممارسة، ما جعل البعض يطرح ما إذا كان هناك إيمان حقيقي بالديموقراطية في المجتمع المصري. هناك روافد عدة أدت إلى عدم بروز قيم الديموقراطية والإصلاح في الثقافة السياسية المصرية وإضفاء الطابع التسلطي على تلك الثقافة: أولها، رافد جغرافي - تاريخي، يتمثل بالتراكم التاريخى لتقاليد مركزية السلطة والاستبداد السياسي منذ عهد الفراعنة، لدرجة أن المفكر المصري جمال حمدان أطلق عليها "الفرعونية السياسية". وثمة عوامل عدة أدت إلى خلق هذه الظاهرة أهمها الطبيعة النهرية للمجتمع المصري وما استلزمه ذلك من ضرورة وجود سلطة مركزية قوية لإدارة شؤون النهر وشؤون البشر، أي تقوم باتخاذ الإجراءات والترتيبات اللازمة لضبط فيضان النهر من ناحية وتوزيع المياه من ناحية أخرى. فضلاً عن استمرار ظاهرة سيطرة الدولة على الأراضي الزراعية وغياب الملكية الفردية وذلك حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، الأمر الذي ساهم في تقوية سلطة الدولة وقبضتها المركزية، باستثناء فترات محدودة، تعرضت تلك السلطة فيها للضعف والتدهور. ثانيها، رافد اجتماعي - ثقافي، ويتمثل بغلبة الطابع التسلطي على التنشئة السياسية والاجتماعية للمصريين. فعمليات التربية والتنشئة التي يتعرض لها الفرد، بدءاً من ميلاده وحتى مماته، والتي يقوم بها العديد من المؤسسات الاجتماعية والسياسية كالأسرة والمدرسة والجامعة والنادي والحزب والنقابة وأجهزة الإعلام، هذه العمليات تقوم على أسس تسلطية واستبدادية، تكرس قيم الطاعة والامتثال والخضوع وتلقي التوجيهات من أعلى والتسليم بها من دون حوار ونقاش أو نقد. وبالتالي من غير المنتظر أن يشارك في الحياة السياسية بفاعلية بعد ذلك، فهو لم يتعود المشاركة ولم يمارسها من قبل. وثالثها، رافد سياسي - مؤسسي، يتمثل بحرص النظم التي تعاقبت على حكم مصر في العصر الحديث، على تكريس مركزية السلطة. وحتى مرحلة الديموقراطية البرلمانية التي عرفتها مصر خلال الفترة 2319- 1952 كان شابها كثير من التناقضات والاختلالات الاقتصادية الاجتماعية التى حالت، إلى جانب عوامل أخرى، دون تأسيس نظام ديموقراطي حقيقي. ناهيك عن الانتهاكات المستمرة التي لحقت بالقيم والقواعد الدستورية والقانونية سواء من قبل القصر أو الإنكليز أو الأحزاب السياسية. وهو الأمر الذي جعل تأثير هذه المرحلة في الثقافة السياسية للمصريين محدداً وهامشياً. أما النظم التي جاءت إلى سدة السلطة في مرحلة ما بعد 1952، فقد اتسمت أساساً بالطابع السلطوي مع اختلاف في الدرجة. وهكذا يبدو الإصلاح السياسي في مصر، أسير ضعف الثقافة الديموقراطية وهشاشة النخبة السياسية خصوصاً المعارضة أكثر مما هو ضحية القيود التنظيمية والعراقيل القانونية التى تواجه هذا الاصلاح. وإذا أريد لهذا الإصلاح أن يمضي قُدماً إلى الأمام، فلا بد من مراجعة جادة ومسؤولة، ومثل ذلك صريحة وأمينة تنطوي على "نقد ذات" صار "عملة نادرة" في حياتنا التي يسودها اليوم الميل إلى توجيه سهام النقد وتجهيز أدلة الاتهام والتشهير والتجريح وصولاً إلى السب المعلن والقذف الصريح. ويمكن طرح بعض الأفكار العامة والخطوط العريضة، التي تمثل "روشتة" للإصلاح السياسي في مصر: 1- التحضير لتعديل الدستور الحالي من خلال حوار وطني شامل يضم كل القوى السياسية بلا استثناء، خصوصاً أن الدستور الحالي لا تتفق فلسفته مع طبيعة المرحلة التي نعيشها. وعلى رغم أن هذه العملية حساسة ومعقدة لكن لا مناص منها خصوصاً أن الفرصة مواتية حالياً في جو الاستقرار السياسي السائد. 2- مراجعة خريطة التعددية السياسية المقيدة في البلاد بكل تفصيلاتها وجوانبها التنظيمية، وإتاحة الفرصة أمام التيارات السياسية المحجوبة عن الشرعية كي تشارك في العملية السياسية في ضوء احترامها للدستور والقانون والاتفاقيات الدولية التي صدقت عليها مصر. ذلك للقضاء على ظاهرة "نزع السياسة" من المجتمع والتي جعلت الحزب الوطني هو اللاعب الوحيد في الفضاء السياسي المصري وهو ما يتطلب إلغاء قانون الأحزاب 40 لسنة 1977 وتعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية. 3- إجراء انتخابات حرة ونزيهة يتوافر لها قدر من الضمانات يفوق ما أتيح في الانتخابات السابقة بحيث يكون الإشراف القضائي بدءًا من إعداد الجداول الانتخابية وحتى داخل لجان الاقتراع، بحيث تفرز برلماناً أكثر تمثيلاً من الناحية الفعلية لشرائح المجتمع المصري والقوى الاجتماعية بكل توجهاتها، وأكثر استعداد لأداء دور خصوصًا في جوانب الإصلاح السياسي والاقتصادي وإن كان لا يغفل أدوارًا أخرى على صعيد الإصلاح الثقافي والتعليمي والتكنولوجي. وما زلت أتذكر أنه عندما أجرت مصر الانتخابات البرلمانية للعام 2000 من خلال الإشراف القضائي عليها، خصصت الشبكة الأخبارية الأميركية CNN ساعة ونصف الساعة لتغطيتها، في الوقت الذى تغطي فيه الشبكة نفسها الانتخابات الإسرائيلية على مدار يومين كاملين، وهو ما يعطي انطباعاً بأنه عندما يتحسن الأصل تتغير الصورة إلى الأفضل. 4- أما الأحزاب السياسية فهي مدعوة إلى مراجعة شاملة لبرامجها السياسية حتى تتصدى لمشاكل الحاضر وتحديات المستقبل برؤية شاملة ولغة عصرية، وتجديد قياداتها، فكيف يمكن أن نطمح الى أن تكون هناك ديموقراطية كاملة في بلادنا وليست هناك ديموقراطية في أحزابنا، فالأحزاب المصرية كلها - باستثناء حزب التجمع - لم تعرف معنى التداول السلمي للسلطة بداخلها، فكيف تقود عملية الإصلاح السياسي؟ 5- إنشاء مراكز متخصصة في قياسات الرأي العام والتي تفتقدها مصر حالياً على رغم أنه يوجد مركز لبحوث الرأي العام في كلية الإعلام في جامعة القاهرة ووحدة لدراسات الرأي العام بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، إلا أن ذلك لا يكفي، فمن أهم أسس الديموقراطية أن يكون للشعب صوت حقيقي مسموع في اتخاذ القرار من خلال مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني. ومصر تفتقر إلى استشارة الرأي العام عند اتخاذ أي قرار فنجد قوانين تقيد عمل الصحافيين تصدر من دون أخذ رأيهم، وقواعد حاكمة لعمل أعضاء هيئات التدريس في الجامعات والمعاهد تتغير من دون استشارتهم، ونظام التعليم ومناهجه تتغير من دون استشارة المدرسين والطلاب، وخطورة ذلك تكمن في ترسيخ النزعة التسلطية لدى متخذي القرار وتقوية السلبية واللامبالاة - أو ما يطلق عليه في بعض الأديبات ب"الاكتئاب السياسي" - عند من يطبق عليهم القرار ولا يمكن أن تنمو ديموقراطية في هذه البيئة المقاومة لأي إصلاح سياسي وتطور ديموقراطي. 6- لا بد من أن تزول فكرة المواجهة بين المجتمع المدني والدولة في الثقافة السياسية المصرية، فتطور المجتمع المدني في كثير من الدول المتقدمة صاحبة الخبرة التاريخية والسياسية العريضة في الغرب، على سبيل المثال، لم يكن تعويضاً عن ضعف الدولة أو مجرد محصلة لتقلص دورها بل تطور الاثنان في شكل متوازن بما عكس قوة كل منهما. وخلاصة القول إن النظام السياسي المصري يحتاج إلى تجديد شامل، كمًا وكيفًا، في قواعده وهياكله، بما يساهم في تحريك موقع مصر على المسار الإصلاحي من نقطة إلى أخرى أكثر تقدماً، حتى لا يتهم البعض بأن "مصر ضد مصر". * عضو في البرلمان المصري سابقاً. وأستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في القاهرة.