غنيّ عن البيان أن الأحزاب السياسية تلعب دوراً محورياً في أي نظام سياسي، حيث تقوم بعدد من الوظائف الحيوية في إطار النظام السياسي. وظاهرة وجود الأحزاب في الحياة السياسية أمر بديهي، حيث ان السياسة هي لعبة جماعات وليست لعبة أفراد. وتتعدد الوظائف التي تضطلع بها الأحزاب السياسية في إطار النظام السياسي، حيث تقوم الأحزاب بوظيفة تجميع المصالح والتعبير عنها، وتمثل هذه الوظيفة احد المداخل الرئيسية للنظام السياسي، كما تقوم الأحزاب بدور أساسي في عملية التنشئة السياسية، وإن كان يشاركها في هذه المهمة بعض المؤسسات الأخرى مثل مؤسسة الأسرة والمدرسة والجامعة. وفي الوقت نفسه فهي مؤسسات جماهيرية تتبنى رؤى متميزة للواقع والمستقبل وتسعى للوصول إلى الحكم من أجل تحقيق رؤاها وبرامجها على أرض الواقع، وبهذا المعنى فإن الأحزاب السياسية هي القوى الرئيسية الفاعلة على ساحة الحركة السياسية في المجتمع من حيث ممارسة كل أدوات التأثير المشروعة لصوغ القرارات بما يقترب من رؤاها قدر الإمكان. ويختلف شكل النظام الحزبي تبعاً لطبيعة النظام السياسي، فهناك نظام الحزب الواحد، والذي كان سائداً في معظم الدول العربية في فترة ما بعد حصولها على الاستقلال، وهناك نظام التعدد الحزبي الذي يقوم على وجود الكثير من الأحزاب، وهناك النظام الحزبي الذي يقوم على نظام الحزبين، مثل الولاياتالمتحدة الاميركية، وإن كان هذا النظام يندرج في إطار نظام التعدد الحزبي، حيث يعمل النظام السياسي وفقاً لهذا النظام الأخير، ولكن طبيعة السياق المجتمعي للنظام السياسي تزكي وجود حزبين كبيرين، وبجوارهما قد تكون هناك أحزاب صغيرة تتمتع بثقل أقل. ومن نافلة القول أيضاً إن هناك صلة وثيقة بين نظام الأحزاب في دولة ما وطبيعة نظامها السياسي من حيث ديموقراطيته، فالتعدد الحزبي يعد في حد ذاته مؤشراً على وجود الديموقراطية، وإن كانت درجة هذه الديموقراطية تظل مرهونة بفاعلية النظام الحزبي. بمعنى آخر فقد يكون التعدد الحزبي مجرد ديكور في إطار النظام السياسي ليس إلا، ومن هنا فإن معيار تداول السلطة بين مختلف الأحزاب هو الفيصل في الحكم على نظام ما إذا كان ديموقراطياً أم لا، ولا يكفي أن يعمل هذا النظام وفقاً لقاعدة التعدد الحزبي، فثمة أحزاب بعينها تحتكر النظام السياسي بتزييف الإرادة العامة، على رغم وجود أحزاب أخرى تعمل في سياق هذا النظام. وإذا ما انتقلنا للحديث بشكل مباشر عن الوضع العربي في ما يتعلق بتجربة الحياة الحزبية، في محاولة لاستشراف مستقبل التعددية الحزبية في الوطن العربي، فإن ثمة تساؤلاً مشروعاً يطرح نفسه بداية في هذا السياق ومفاده: هل يمكن الحديث عن مستقبل عام لهذه التعددية يشمل كل أقطار الوطن العربي أم يجب تناول كل حال على حدة؟ الواقع أن هناك الكثير من السمات المشتركة في التجارب الحزبية العربية، ولكن هناك الكثير من أوجه الاختلاف. نبدأ بالحديث عن أوجه الخلاف، فنجد أن هناك اختلافاً كبيراً في النماذج الحزبية العربية، وذلك على النحو الآتي: - هناك مجموعة الدول التي لم تدخل بعد في ميدان التعدد الحزبي، وتشمل هذه المجموعة دول مجلس التعاون الخليجي إضافة إلى الجماهيرية الليبية. - هناك مجموعة الدول التي تعمل وفقاً لقاعدة التعدد الحزبي بشكل حقيقي، وتشمل هذه المجموعة على وجه التحديد كلاً من لبنان والمملكة المغربية. - هناك أخيراً مجموعة الدول التي تعمل وفقاً للتعدد الحزبي شكلاً لا مضموناً، وتشمل هذه المجموعة باقي البلدان العربية. ففي هذه الدول هناك تجارب للتعدد الحزبي، ولكنها تجارب منقوصة، حيث ثمة قيود بعضها إجرائي والآخر موضوعي تحول دون تأسيس أحزاب ذات توجهات معينة. لكن في الوقت نفسه فإن السياق العام لتطور النظم السياسية العربية، والتي تندرج في إطار النظام الاقليمي العربي، وهي أيضاً جزء من العالم الثالث، يبرر الحديث عن العالم العربي كوحدة واحدة، فالدول العربية حديثة النشأة، ويكشف نمط تطور الحياة الحزبية عن خصائص مشتركة. فقد تسربت إلى الحياة العربية مفاهيم التمثيل السياسي والحياة النيابية بسبب أو بمعنى أدق نتيجة الإصلاحات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي اطلقها محمد علي الكبير في مصر. أي أن نقطة البداية كانت تقريباً واحدة، ومعظم الدول العربية التي حققت استقلالها الكامل أو شبه الكامل بين عامي 1919 - 1950 تبنت مبدأ التعدد الحزبي وإدارة الحياة السياسية وفق إطار دستوري ليبرالي، وإن كانت هذه الليبرالية ناقصة، إلا أنها كانت بداية لتجربة حكم ديموقراطي. من ناحية ثانية فقد ورثت النظم السياسية العربية أوضاعاً من الحقبة الاستعمارية ما زالت تؤثر بشدة في طبيعة هذه النظرة حتى اللحظة الراهنة، وقد ساهمت هذه الأوضاع في عرقلة فرص النمو الديموقراطي، حيث شكلت صورة مشوهة للمجتمعات العربية، على الصعيد السياسي والاقتصادي. فأحزاب الثلاثينات والأربعينات في العالم العربي لم تكن على شاكلة أحزاب أوائل القرن أو عشريناته، حيث قادت الأولى حركة النضال ضد الاستعمار وكان همها ليس الديموقراطية، وإنما الحصول على الاستقلال، وبعد تحقيق هذا الاستقلال، أصبح همها الجديد ليس الديموقراطية أيضاً، وإنما إعادة بناء الدولة الحديثة الاستقلال التي أنهكها الاستعمار عقوداً طويلة. ومع تبني النظم السياسية في هذه الدول نظام الحزب الواحد، والذي رأت فيه الوسيلة المثلى لدمج المجتمع انتهت تجارب التعدد الحزبي التي شهدتها البلدان العربية قبل واثناء وقوعها فريسة للاحتلال، وفي السياق نفسه فإن زرع الاستعمار الأوروبي وبعده مساندة الولاياتالمتحدة لإسرائيل في المنطقة كان هو الآخر عاملاً شديد الضرر على نمو فكرة التعددية الحزبية، حيث إن هزيمة 1948 أدت إلى خلق جيل جديد من النخبة السياسية والعسكرية دعا إلى إحداث تغيير جذري في بنية النظم والمجتمعات العربية شبه الدستورية لمواجهة الصراع مع إسرائيل، وهو ما كان معناه مواتاً مبكراً لليبرالية العربية التي كانت آخذه في التشكل. وعلى ذلك النحو ظلت التعددية الحزبية غائبة عن القاموس العربي خلال الخمسينات، وحتى نهاية الستينات، لكن هزيمة حزيران يونيو 1967 أعادت الجدل حول قضية الديموقراطية. فالفشل الذي مُني به العرب كان سبباً في شن هجوم كبير على الأنظمة العربية وطبيعة آليات عملها القائمة على نظام الاحتكار الحزبي. وذهب قطاع كبير من المثقفين الى القول إن غياب الديموقراطية كان سبباً مباشراً لحلول الهزيمة. وهنا المفارقة الكبرى" فالنظم العربية التي وأدت الحياة الحزبية في سبيل النضال ضد إسرائيل في البداية عادت بعد هزيمة 1967 لتفكر من جديد في خطأ هذا النهج وفي كيفية إعادة تجارب حزبية جديدة. والواقع، أنه ومنذ 1967 تجمع الكثير من العوامل التي دفعت في سبيل إعادة الجدل حول الديموقراطية العربية، وفي القلب منها بالطبع تجربة التعدد الحزبي، ومن أهم هذه العوامل: - المشكلات التي نجمت عن العمل بنظام الحزب الواحد، والذي أشاع الوعي بأهمية عامل المشاركة السياسية، وفي الوقت نفسه فإن هذا النظام لم يتح الفرصة لمشاركة كل الفاعليات في الحياة السياسية، إضافة إلى ذلك فقد بدأ هذا النظام يواجه أزمة الشرعية بعد اختفاء جيل القادة المؤسسين. - المشكلات الانفصالية التي بدأت تواجه معظم الدول العربية، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة، منذ منتصف السبعينات وحتى أواخر الثمانينات، والتي أدت إلى اندلاع الكثير من حركات الاحتجاج الجماهيرية، وذلك حينما عجزت الدول العربية عن الوفاء بالمتطلبات الأساسية للمواطن. ومع توجه بعض الدول العربية إلى سياسات الليبرالية الاقتصادية ونظام اقتصاد السوق، وجدت هذه الدول نفسها مندفعة إلى اعمال درجات من الليبرالية على صعيد الحياة السياسية. - أخيراً، إن التحولات التي شهدها النظام الدولي منذ أواخر الثمانينات، قد دفعت هي الأخرى في سبيل التوجه الى الديموقراطية، في ما عرف بالموجة الثالثة، حيث أسفرت هذه التحولات عن سقوط النظم الاشتراكية، وانهيار منظومة القيم السياسية التي كانت هذه الدول تعمل وفقاً لها، وفي مقدمها النظام الشمولي، الذي يحول دون نمو فرص التعددية الحزبية. المهم أن الدول العربية التي عملت وفق نظام الحزب الواحد في الخمسينات والستينات عادت منذ منتصف السبعينات وأواخر الثمانينات الى العمل بنظام التعدد الحزبي كوريث لنظام الحزب الواحد، وأصبح من الممكن منذ منتصف التسعينات الحديث عن تجربة التحول الديموقراطي في العالم العربي مجدداً. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: ما شكل وحصيلة هذه التجربة في ثوبها الجديد؟ الواقع، انه باستثناء التجربة اللبنانية واعتباراتها الخاصة، وما حققته المملكة المغربية ابتداء من العام الماضي، فإن عملية التحول الديموقراطي في جميع الدول العربية تواجه تحديات عدة، وذلك على رغم أن بعض الدول العربية ذات النظام الرئاسي قد عرفت خلال التسعينات مبدأ التنافس على قمة السلطة ذاتها، وهذه الدول على وجه التحديد هي: تونس، الجزائر، اليمن، موريتانيا، جيبوتي، فقد ظلت هناك مجموعة من الدول التي لم تخط بعد على طريق التعددية السياسية وإقرار حق تكوين الأحزاب السياسية، وعلى صعيد موازٍ فإن مجموعة الدول المسماة بدول التعددية المقيدة، والتي تشمل أيضاً الدول الخمس السالفة الذكر، ما زالت تعتمد الديموقراطية شكلاًَ لا مضموناً، فهناك أحزاب سياسية، ولكن ليس ثمة تداول للسلطة، وهناك انتخابات ولكنها غالباً ما تكون محسومة سلفاً لمصلحة الحزب الحاكم، وهناك دساتير دائمة، ولكن ثمة ترسانة من قوانين الطوارئ التي تعوق تطبيق هذه الدساتير، وهناك برلمانات ولكنها في الغالب الأعم برلمانات الحزب الواحد. والمشكلة الرئيسية وراء هذا الوضع أن معظم النظم السياسية العربية قد شهدت انقطاعاً حاداً في مسيرة تطورها التاريخي، وذلك بحدوث الكثير من الثورات التي قلبت الأوضاع رأساً على عقب، إذ غيرت معالم هذه المسيرة تماماً، وارتدّت بها إلى نقطة الصفر، حيث تم القضاء على التجارب الحزبية الوليدة، والتي كان بعضها قد تطور بشكل ملحوظ، وتم تصميم نظام الحزب الواحد، الذي كان معناه احتكار العمل السياسي من فصيل بعينه، وهو ما أدى إلى نفي الاتجاهات السياسية الأخرى، وهذا واضح بشكل أكبر في الحال المصرية، حيث قضت ثورة تموز يوليو 1952، على التجربة الحزبية التي عرفتها مصر خلال فترة العهد الليبرالي استناداً إلى دستور 1923، وأقامت نظام الحزب الواحد الذي استمر حتى منتصف السبعينات. لم تكن هناك إذاً فرصة لنمو تيارات سياسية مختلفة داخل دولة الحزب الواحد، وقد اشتبك الحزب الواحد مع الدولة فصار الاثنان واحداً، وبعد أن عادت بعض النظم السياسية العربية إلى تبني الصيغة الحزبية، لم يفض هذا الاشتباك لأن ذلك الحزب ظل أيضاً هو الحزب الحاكم، ولم تعكس الخريطة الحزبية الجديدة طابعاً جديداً، ربما لأنه لم يكن هناك في الحقيقة واقع جديد إلا على مستوى الشكل فقط. فعملية التحول الديموقراطي التي جاءت تالية لدولة الحزب الواحد، والتي كان من المفترض أن تكون ثورة مضادة ضد المفاهيم الاحتكارية التي أرستها هذه الدولة، كانت محدودة للغاية. فالذي حدث في إطار هذا التحول أن ظل هذا الحزب هو أيضاً صاحب السلطة. أما باقي الأحزاب التي ظهرت في العهد الجديد فقد كانت مجرد ديكور لإخراج مشهد التعددية الحزبية. وعكست الخريطة الحزبية صورة الماضي أكثر مما جسدت الحاضر، حيث سيطر عليها طابع السلفية السياسية، فقد عادت معظم الأحزاب القديمة ببرامج قديمة لتواجه واقعاً جديداً تردد خطابات الماضي ولا تتعامل مع الحاضر والمستقبل، ويتضح هذا أيضاً من الحال المصرية وكذلك الأردنية والجزائريةوالتونسية، حيث إن الأحزاب التي نشأت في ظل العمل بنظام التعددية الحزبية كانت في معظمها امتداداً فكرياً للأحزاب التي تم القضاء عليها بعد قيام دولة الحزب الواحد وحظر التعددية. ولم يكن مكمن الخطورة فقط أن هذه الأحزاب عادت لتعمل بعقلية الماضي في ظل واقع مختلف، وإنما لأنها عادت من جديد لتجد نفسها مرة أخرى وجهاً لوجه أمام الحزب الجديد القديم الذي ما زال ممسكاً وحده بالسلطة، حتى في عصر الانفتاح الجديد، وهو ما أدى إلى حالات الاستقطاب المعروفة في السياسة العربية بين الحزب الحاكم من جهة وأحزاب المعارضة من جهة أخرى، على النحو الذي صارت معه تجربة التعدد الحزبي أقرب إلى طابع التحزب منها إلى مفهوم الحزبية الذي يعني المنافسة الصحية والتواصل مع الآخر. وهكذا تجد تجربة التعدد الحزبي في العالم العربي حالياً نفسها أمام موروث ضخم من عصر دولة الحزب الواحد يحول دون تطويرها. وفي هذا الإطار ينبغي أن نشير أيضاً إلى أنه مثلما قضت هذه الدولة على التعددية السياسية بشكلها المنظم في إطار أحزاب سياسية، فإنها أيضاً أجهضت فرص وجود مجتمع مدني، حيث إن سياساتها القائمة على مبدأ التعبوية قد نفت دور المنظمات الوسيطة بينها وبين الشعب. والواقع أن كارثة دولة الحزب الواحد في العالم العربي لم تكن فقط في ما قامت به من ترسيخ احتكار العمل السياسي لمصلحة فصيل معين، وإنما أيضاً في التوقيت الذي ظهرت فيه، حيث نشأت في إطار مجتمعي حديثة الاستقلال تواجه أزمات التنمية السياسية المعروفة، فلم تفشل فقط في علاجها، وإنما أعطتها أبعاداً أكثر عمقاً. ففي الوقت الذي فشلت دولة الحزب الواحد على سبيل المثال في حل أزمة التغلغل، فإنها عمقت هذه المشكلة بسبب سياساتها القائمة على اختراق المجتمع، فأصبحت أزمة الاختراق موازية لأزمة عجز هذه الدولة عن التغلغل. وبعبارة أخرى فإن دولة الحزب الواحد جعلت من هذه الأزمات أزمات مركبة. ومع ضعف أو عدم وجود أحزاب قوية أو مجتمع مدني قادر على قيادة عملية التحول الديموقراطي التي جاءت تالية لدولة الحزب الواحد، فإن هذه العملية قد جاءت بإرادة فوقية وتحديداً من قمة السلطة نفسها التي وجدت نفسها مضطرة لإحداث بعض الانفتاح في النظام السياسي لمواجهة أزمات محددة عاناها النظام في هذه الدولة العربية أو تلك، وذلك على غرار التحول الذي حدث في الحالين الأردنية والجزائرية على سبيل المثال، والذي جاء استجابة لانتفاضات اقتصادية من الشعب. على أي الأحوال، فإن التحول الديموقراطي الذي بدأته الدول العربية في العقدين الأخيرين قد جاء ناقصاً ومحدوداً ومفصلاً مع ما أرادته الحكومات. فكيف يمكن أن تتطور تجربة التعددية الحزبية العربية في ظل هذه الأوضاع؟ أشرنا سابقاً إلى أن هناك الكثير من العناصر المشتركة التي تؤثر في واقع النظم السياسية العربية بشكل يمكن الحديث معه عن مستقبل هذه النظم بشكل عام. وفي ثنايا هذا المستقبل قضية التعدد الحزبي، لكن هناك خصوصيات معينة لكل نظام، أو مجموعة أنظمة. وعلى أي الأحوال فإن مستقبل هذه النظم يظل محكوماً بالكثير من العوامل، التي سيتحدد على أساسها شكل التعدد الحزبي في العالم العربي، ومنها: - ميراث الحقبة الاستعمارية. فالعالم العربي في معظمه دول حديثة الاستقلال. وقد ورثت هياكل سياسية عن فترة الاستعمار، ثم إن هذه الفترة قد أجهضت تجربة النمو اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً في الدول العربية، بمعنى أننا أيضاً إزاء مجتمعات حديثة لم تتبلور فيها الطبقات بشكل كافٍ، وعلى نحو ينشئ التمايزات الطبيعية فيما بينها، والتي تشكل خطوطاً للتمايزات السياسية وأساساًَ لتوجهات مختلفة. ومن هنا فإن الأحزاب القائمة لا تستند إلى قواعد جماهيرية متمايزة، ويؤدي ذلك الوضع من ثم إلى عدم قدرة الأحزاب على بلورة برامج محددة ومختلفة عن بعضها بعضاً، فالكل يتوجه إلى القاعدة والجمهور نفسيهما. - طبيعة الثقافة السياسية السائدة، والتي هي في معظمها من نمط الثقافات التي لا تشجع على المشاركة، ثم انها ثقافة تميل إلى طابع الاحتكار والإقصاء، وليس إلى قبول الآخر والتفاعل معه. ومن هنا تجد الأحزاب نفسها في مأزق، فهي من ناحية تتعامل مع قواعد جماهيرية غير متجاوبة بسبب سيادة ثقافة تدعو أو تكرس حال عدم المشاركة. ومن ناحية ثانية فإن السياق المجتمعي يغلب طابع الصراع على التفاعل بين مفردات الخريطة الحزبية، على النحو الذي يقدم صورة مشوهة عن آليات التفاعل الحزبي، ويكرس حالات الاستقطاب بين القوى السياسية المختلفة. وفي السياق نفسه هناك قوى مغضوب عليها، على رغم ما لديها من قواعد جماهيرية، ولا يسمح لها بالوجود الشرعي على الساحة السياسية. - الحصاد الفقير لتجربة التحول الديموقراطي الثاني الذي جاء في إطار الموجة الثالثة، والتي عرضنا لها تفصيلاً مسبقاً، يعكس في الحقيقة مجمل المشهد الراهن للتعددية السياسية في الوطن العربي بشكل عام. في ضوء هذا الواقع، يمكن أن ندلف مباشرة الى استشراف مستقبل التعددية الحزبية في الوطن العربي، ولأن ثمة تمايزات كما قلنا بين كل قطر، فسوف نعرض كل حال على حدة، لكن هناك مجموعات من الدول يمكن التعرض لها بشكل اجمالي. وهي على سبيل التحديد مجموعة دول الخليج العربي، حيث تشترك هذه الدول في طبيعة النظم السياسية القائمة والتكوينات الاجتماعية وأيضاً بطابع اقتصاداتها القومية التي تقوم أساساً على النفط. ونقول إن هذه الدول قد بدأت تشهد منذ مطلع التسعينات تطورات ملموسة في نظمها السياسية. فقد تشكلت في بعضها مجالس تشريعية السعودية، عمان، وبعضها الآخر كانت به مجالس تشريعية بالفعل، والبعض الآخر أحيا تجارب تشريعية قديمة مثل البحرين. ومن ناحية ثانية فقد عرفت بعض هذه الدول كما في حال السعودية وعمان أيضاً تنظيماً جديداً لأنظمتها السياسية، لكن هذه المجموعة، باستثناء الحال الكويتية ما زالت تعتمد على آليات تقليدية في إدارة العملية السياسية. فالمجالس التشريعية فيها والتي تحمل اسم "مجلس الشورى" تقتصر اختصاصاتها على دائرة الاستشارة، وهي في النهاية ليست برلمانات بالمعنى الحديث، أي برلمانات تمارس التشريع والرقابة حقاً. ولا تعرف هذه الدول نظام التعدد الحزبي، فقط في الكويت هناك تمايز بين التيارات السياسية المختلفة، وقد ترسى هذه التمايزات لأحزاب سياسية في المستقبل. أضف إلى ذلك أن المجالس التشريعية في معظمها تأتي عن طريق التعيين وليس الانتخاب السعودية، الإمارات. وإن كان مجلس الأمة في الكويت يأتي عن طريق الانتخاب، فإن طريقة انتخاب مجلس الشورى في عمان مثلاً مشوهة نظراً للتدخل القسري من جانب الحكومة لتحديد خريطة المرشحين كما حدث في الانتخابات الأخيرة. في ظل هذا الوضع فإن مجموعة دول الخليج العربي تبدو بعيدة وفي بداية الشوط في مضمار التعددية السياسية في سبيل تشكل أحزاب سياسية. أما في بلاد المغرب العربي فإن الوضع يبدو أفضل. فالمغرب تعمل وفقاً لنظام التعدد الحزبي، وهي الدولة الوحيدة التي نص دستورها على تجربة نظام الحزب الواحد عندما كان هذا النظام هو المعمول به في العالم العربي. وفي الجزائر وعلى رغم حال التعدد الحزبي فإن دمج الإسلاميين والسماح لهم بتشكيل حزب، كما حدث في الحال الأردنية، هو المشكلة الأساسية في طريق تطوير التعدد الحزبي، كما هو الوضع في مصر وتونس. ويبدو النظام الليبي في هذا الإطار غريب الأطوار، حيث هو الوحيد بين أنظمة العالم العربي السياسية حالياً الذي يعتبر تشكيل أحزاب سياسية بمثابة "جريمة". وإذا ما انتقلنا إلى منطقة الشرق العربي فنجد أنفسنا أمام حالين متشابهتين هما العراق وسورية، اللتان تعملان بنظام التعددية المقيدة وفقاً لنص الدستور، وليس بحكم الواقع كما في الحال المصرية، لكن التجربة العراقية ما زالت دون توجهات من النظام الحاكم للتطوير، وقد كشفت ذلك الانتخابات البرلمانية الأخيرة. أما سورية فقد شهدت خلال الشهر الجاري تطوراً له مغزاه في هذا الإطار، حيث سمحت السلطة لأحزاب الجبهة الحاكمة بإصدار صحف. وفي لبنان، وعلى رغم حال التعددية الحزبية الكبيرة التي تعيشها البلاد، فإن استناد هذه التعددية الى أساس طائفي يحد من معناها، ويبقى آفاقها مرتهنة بتنفيذ بنود اتفاق الطائف لعام 1990 الذي أنهى الحرب الأهلية، ونص على إلغاء الطائفية، لكن هذا لم يحدث بعد. وبشكل عام، يمكن القول إن المشهد المستقبلي للتعددية الحزبية في العالم العربي يحوي معوقات مختلفة كالآتي: - هناك مشكلة دمج الإسلاميين في المعادلة السياسية، كما في حال مصر والجزائروتونس. - هناك مشكلة تقليدية آليات عمل النظام السياسي، كما في حال مجموعة دول الخليج العربي. - هناك مشكلة ميراث دولة الخمسينات والستينات، كما في سورية والعراق. - هناك المشكلة الطائفية في لبنان، وإلى حد ما الحال السودانية في ضوء استمرار مشكلة الجنوب، وفي هذا السياق أيضاً هناك مشكلة الصراع الأهلي وضعف مؤسسة الدولة، كما هو الوضع في الصومال. وأخيراً وبالنسبة الى فترات الانتخابات وفي ظل هذا المناخ السياسي تصبح الانتماءات العشائرية والقدرة المالية والقدرة على تقديم الخدمات للمواطنين وحل مشكلاتهم المعيشية هي عوامل الشعبية ومحددات الاختيار، وبالتالي تتوارى إلى الخلف كل مبادئ حقوق المواطنة والمساواة وحقوق الإنسان. * استاذة العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في القاهرة.