يصرّ نجيب محفوظ على الكتابة، ولو بالاملاء، على سكرتيره الحاج صبري الذي يقرأ له الصحف يومياً. فمنذ ما يقارب ستة شهور تخلّى عن القلم نهائياً بعدما اشتد ضعف بصره وازدادت رجفة يديه. ولعل الكتاب الجديد الذي صدر له قبل أيام في القاهرة وعنوانه"أحلام فترة النقاهة"يضم آخر ما كتب من نصوص بخطّ يده الذي تضخم في الآونة الأخيرة تبعاً لعدم رؤيته السطور. دأب نجيب محفوظ قبل سنوات على"تدوين"أحلامه التي يسميها أحلام النقاهة، لا سيما بُعيد شفائه من الاعتداء الذي تعرض له العام 1994. وهذه الأحلام التي وجد فيها حافزاً على الكتابة لا تشبه كثيراً الأحلام التي يبصرها المرء عادة خلال النوم، كونها نصوصاً مؤلفة عبر لعبة تخييلية جميلة. وإن بدت أحلام عدة تنتمي الى عالم اللاوعي والماوراء، فإن أحلاماً كثيرة تغدو أقرب الى القصص القصيرة جداً أو المشاهد السردية القصيرة التي تستبطن الذات وتسترجع لمحات من الماضي، البعيد والقريب. فالكاتب الذي يعيش في ما يشبه الظلمة الخفيفة جعل من تلك"الأحلام"نافذة يطل من خلالها على العالم. وليس من المستهجن أن تقترب أحلام غير قليلة من الواقع والحياة اليومية وأن تهيمن عليها النزعة الواقعية تارة والرمزية طوراً، ما يؤكد انتماء هذه الأحلام الى عالم محفوظ، القصصي والروائي الرحب. واللافت ان هذه النصوص الأحلام تشبه في بعض نواحيها، اللغوية والتقنية، نصوص كتاب"أصداء السيرة الذاتية"الذي كان أول ما صدر لمحفوظ بعد الاعتداء. مَن يقرأ هذه"الأحلام"يشعر أن ما من خيط يفصل فيها بين الماضي والحاضر، بين الواقع والخيال، بين الوهم والحقيقة. وينجح محفوظ أيما نجاح في صوغ أحلامه وكأنها مشاهد قصصية مقطوفة قطفاً، بإيجاز تام وبعيداً من أي نزعة تفسيرية. فالنصوص قصيرة وقصيرة جداً في أحيان، تلمع كلقطات عابرة في المخيلة أو كذكريات منبثقة من عتمة الذاكرة. يسرد محفوظ عبر"أنا"الراوي حيناً ويلجأ حيناً آخر الى فعل القصّ التقليدي، فيروي عن نفسه وكأنه بطل الحلم ثم يروي قصة يكون بطلها شخصاً آخر. انها التقنية القصصية يستخدمها محفوظ ببراعته التي لم تنل منها الشيخوخة مثلما نالت قليلاً من لغته أو عصبه اللغوي. يبصر نجيب محفوظ نفسه مثلاً على درّاجة، جائعاً يبحث عن مطعم شعبي. وعندما يجد أحد المطاعم يكتشف أنه"خربة"مملوءة بالنفايات. أحياناً يبصر نفسه في محطة"الترام"منتظراً قطاراً يفوته، أو في المطار أو المكتب أو المستشفى... وأطرف أحلامه ذلك الذي وجد نفسه خلاله في جنازة لا يعرف أحداً من المشيعين فيها ولا الميت نفسه. يبصر أخته وقد أصبحت غريتا غاربو الممثلة الشهيرة، ويبصر سيد درويش وشكوكو وريّا وسكينة... وفي حلم قاتم يبصر جثمان أخته يتحول جثمان الفتاة التي يحبّها... انها أحلام حافلة بالمصادفات والمفاجآت والخوارق، فيها من العبثية ما فيها من السخرية السوداء: رجل يدخل شقته ويكتشف أنها ليست شقته، أستاذ ميت يتصل بتلميذه هاتفياً، عروس توقفها الشرطة في ليلة العرس، موتى يطلّون برؤوسهم... على أن أحلاماً عدة تصبح أقرب الى الكوابيس التي تقضّ مضجع"الحالم"فيقول:"خيّل اليّ ان شخصاً يتبعني". هذه"المطاردة"تتردد في بعض الأحلام مذكرة ب"كوابيس"الكاتب فرانز كافكا. يصعب فعلاً حصر"أحلام"نجيب محفوظ التي بلغت في الكتاب مئة وستة وأربعين حلماً، فهي قصيرة وخاطفة ومملوءة رموزاً واشارات أو علامات. وان لم تكن تحتل مرتبة متقدمة في نتاجه الهائل فهي تمثل مفاتيح مهمة للأبواب الكثيرة التي يحفل بها عالمه الروائي الضخم، علاوة على كونها نصوصاً سردية تكشف ما توارى في دخيلاء محفوظ وأعماق لا وعيه.