تكاد قصيدة الشاعر اللبناني، المقيم في المهجر الأسترالي، وديع سعادة تتلاشى من فرط شفافيتها. أو قل تكاد تنكسرُ من النظرة الأولى، وتتناثرُ إلى صورٍ غنائية لا يجمع بينها سوى الصّدى: صدى المعنى الذاهب حتماً إلى أفوله. هذا الأفول المدهش مردّه الخفّة الفائقة التي تتحرّر فيها الدلالات من مدلولاتها، والتي لا تمنحنا الوقت الكافي للتأمّل، تعبرُ كظلال، وأحياناً تتطاير كغبار تذريه الريح، وبالتالي لا تترك أثراً سوى وميض اختفائها. في هذا التلاشي، ثمة الكثير من البوح الشعري، القائم أصلاً على التداعي والنسيان، والذي يقوّض جوهرياً منطق"التخيّل"أو"الإنشاء"، لتنمو الفكرة الشعرية وتتحركُ طليقةً، خارج سياق الخطاب، أي خارج المستوى الدلالي والنحوي والصرفي للكلمات، بفضل طاقتها الخبيئة، حين يهجرها الشاعر عن عمد ويتركها تتضوّر وحيدةً في عذابِ شكّها. ولأن الشاعر لا يحب الإحالة إلى حقيقة بعينها، أو حدث بعينه، نرى قصيدته نحيلة، وحيدة، عزلاء، ترسم كينونة خائفة، حذرة وحائرة، وفي المستوى المضمر للصمت. في كتابه"غبار"الصادر عن دار المسار، يحتفل سعادة بجمال العابر، وبنضارة البرهة قبل زوالها، وبفتنة النسيان بصفته حالاً من حالات الانخطاف وسمو الذات. إنه التواري في حضرة وجود قوامه متواليات مجازية ورمزية تقوّض بعضها بعضاً. في كتابه"نص الغياب"الصادر أيضاً عن دار المسار، ينقل سعادة حال اللاّحسم التي تواجه الأنا المتكلمة، الباحثة عن حياةٍ أخرى خارج حياة الدوالّ، عبر جدلية الكلام والموت، بقوله:"معلّقٌ على حبل، معلّقٌ على ورقة، منتظراً حياة تطلعُ من شقوقِ الكلمات... أعرفُ كُتّاباً ماتوا على الحروف، وكُتّاباً ماتوا على النقاط، وكتاباً ماتوا على هامش ورقة... ماذا أنتظرُ من الكلمات؟ أريدُ البياض". الانحياز إلى البياض ميلٌ إلى التواري، خارج سطوة الزمانية، لأن الكتابة في جوهرها محو مستمرّ، لمن أدمن حياةَ الكلمات المسمومة بالغياب. لكن سعادة يعي أن الحياة والكتابة وجهان لبلوى واحدة. وهذا ما يجعل النبرة الرثائية أو الوداعية هي الأكثر حضوراً في شعره، كأنما يكتب مرثية واحدة طويلة، تتوزّع في كتبه الشعرية الثمانية، وهي رؤية ما بعد حداثية للغياب، حيث الأنا تخاطب نقيضها في لحظة رحيل، وترثيه في برهة خسارة، وتصبح، بالتالي، نهباً للعبة مرايا متقابلة، تعيش أو تموت على حدّي الاختلاف بين الإقامة والمكوث، الانتماء والاغتراب. في ديوان"محاولة وصل ضفتين بصوت"الصادر عن دار النهار، لا تملك"الأنا"فسحة للوجود خارج دائرة الآخر، من هنا محاولة الوصل بين علامتين، عبر ردم الهوة بين الكائن والكينونة:"كنتَ تنظرُ إليّ أنا الحيّ فيكَ، وأنظرُ إليكَ أنت الميتُ فيّ. تريدُ أن تبتسمَ لي، وأريد أن أبكيكَ. لكننا صمتنا، وتركناهم يدفنوننا هناك." و"هناك"ترمز، هنا، إلى اللغة ذاتها، بيت الكائن، شاء أم أبى، بعد سقوط المثل الأفلاطوني الأعلى. في هذه النوستالجيا نلمس الكثير من الحزن الذي يشفّ وينحل ويخفّ، ليصير وجيب كآبة، أو نداء فقدان، حتى أنّ الكلمات تبدو دامعة، رثائية، ولكن من دون نواحٍ مسموع. في"نص الغياب"يكتب سعادة:"مشيتُ طويلاً في خيال اللغة، حتى انكسرتُ في وهمِها". ولعلّ الاعتراف هنا يشي بتراجيديا الذات المبدعة، واصطدامها بحقيقة الوهم أو وهم الحقيقة، في رؤيا عدمية تحتفل بالسراب ومترادفاته النفسية والروحية. مع ذلك يبدو سعادة سعيداً بالانحناء أمام الوهم، يسلّمه مفاتيح مخيلته لتحلّقَ الكلمات على هواها، في سديم العلامات التي تحاور المحسوس والمرئي، ما يجعل القارئ يستعيد تأمّلات كييركغارد عن الروح أو برغسون عن الزمن، أو نيتشه عن وهم الميتافيزيقيا. توحي عناوين سعادة الشعرية بشغفٍ مؤرّق بالغياب، البياض، وحتى العدم، حيث نراه يجري خلف كل شيء، ويكتب عن كل ما هو متحرّك، وهمي، وموقّت، كمن يحاول دوماً القبض على ظل الشيء، لا الشيء ذاته. في نص بعنوان"الغباريون"من ديوان"غبار"تصل الرغبة بالرحيل، أو الهبوب، ذروتها، حيث العودة إلى شفافية الفكرة الأولى:"مقفرةٌ الطرقات وهابّون وحدنا. … جئنا لنرافقَ الغبارَ في هبوبهِ الأخير، نحملهُ إلى مثواه، وننامُ معه". تتكئ القصيدة هنا على السفر، المتمثل باستعارة الهبوب، أو الانسحاب من الوجود كمعطى ثابت، والعودة إلى المثوى الأخير، حيث الحياة رحلة من الغبار إلى الغبار. لا تريد القصيدة أن تمكث أو تتوقّف، تحدوها رغبة بالفرار، أو الطيران، منبعها عدم الركون إلى دلالة، والنفور من تاريخية مزيفة، لأن المغزى لمحٌ فحسب، يبرقُ أثناء القراءة، لا قبل ولا بعد، وبالتالي يكاد يكون لا زمانياً، لا يستقر في تأويل، ولا يحيل إلى خاتمة. وهذا ما يجعل وديع سعادة من أقرب الشعراء العرب المعاصرين إلى فكرة مالارميه الشهيرة عن الشعر الصافي، والتي أرى بؤرتها المركزية في هيمنة فكرة الغياب على مخيلة الشاعر، يعززها صفاء اللغة النثرية في أسلوبه منذ البدء، وغناها الإيقاعي المضمر. في قصيدة"جمال العابر"من كتاب"غبار"يؤكّد سعادة أن:"الأكثر جمالاً بيننا، المتخلّي عن حضوره". ويردفُ، بعد حين، منوّعاً على الإيقاع نفسه:"الأكثر جمالاً بيننا: الغائب". الغياب بصفته الأثر الذي تسعى إليه الكتابة، أو بصفته الوشم المتبقي من حياة سابقة. في قصيدة أخرى يعلن الشاعر صراحةً أنّنا مصنوعون من غياب يأخذ شكل النسيان، أو الذكرى:"الذكرى تكادُ تكون كلّ وجودنا". هل نسمي سعادة، إذاً، فيلسوف"الأثر"أم شاعر"الغياب"الأقوى حضوراً، أم نسمّيه مدمن"صمت"يحاول تدوين التأتأة، والإصغاء ملياً الى موسيقى الروح المهاجرة، في محاولة لاستعادة كينونة ذائبة في نصّ أو حلم، أم هو ببساطة شاعر المرئيات التي لا تكفّ عن التواري. من الصعب توثيق هذه الشعرية، وإحالتها إلى حساسية شعرية واحدة. من جهة، يميل الصوت الشعري لدى سعادة إلى استعادة أسلوب يانيس ريتسوس الحكائي، المعتمد على استنطاق البساطة، والاحتفال بتفاصيل خارقة لا تخطر على بال. في ديوانه"محاولة وصل ضفّتين بصوت"يتحدث سعادة عن مفارقة فلسفية شائكة، ولكن بلغة تعتمد البساطة الشديدة، وتطوير سردية مخادعة، بريئة برّانياً، وثنية في العمق:"في السماءِ أرواحٌ ترتجفُ من البرد/. أريد أن أشعلَ لها ناراً/. أريدُ أن أبكّل أزرارَ قمصانِها". ومن جهة أخرى، نرى سعادة مولعاً بالنسيان، مفتوناً بالهامش، مدمناً التمتمة مع أطياف تزوره في اليقظة كما في الحلم، فالموتى في قصيدة"إرث الموتى"يُبعثون من أجل غاية إنسانية جدّ فقيرة، لكنها الأعلى نبلاً:"طلعوا من تحت التراب/ وعادوا/ فقط ليرسموا ابتسامةً/ نسوا أن يتركوها لنا". الشعور بالفقدان هنا عميق، يحفر في وجدان العبارة، وما يريد الجسد ملاحقته لا تكفّ الروح عن بعثرته. يعودُ الموتى كأنما ليعتذروا للأحياء عن ارتكاب إثم الغياب. هذا ما يجعلنا نقول إن سعادة شاعر الحركة وليس السكون. وإذا جازفنا بمقارنة خاطفة، نقول إن قصيدة الحداثة مع أدونيس والماغوط ودرويش، وبدرجة أكبر مع أنسي الحاج، هي التي أشعلت الشرارة الأولى للخروج عن نسق"اليقينية"الشعرية المؤمنة ببلاغتها، والتي تتجلى بمفهوم الريادة، والثقة بالخطاب، والاطمئنان الى منابع الإلهام. شعرية سعادة تمثّل الذروة، بحسب رأيي، لأنها صعّدت فكرة اللايقين إلى أقصاها، في كتابةٍ تشبه كثيراً الشذرات الفلسفية الهاربة من سياق الجدل أو التنظير. وأكاد أسميها شعرية الرفرفة حول المعنى أو فوقه، ويشاركه في هذه الحساسية شعراء آخرون من أمثال بسام حجّار ونوري الجرّاح وعبده وازن، ومحمد بنّيس. في كتاب"غبار"يكتب سعادة عن الكائن الباحث عن الانعتاق من أسر الكينونة، وإن بدا ذلك حلماً ميتافيزيقياً، حيث يتحقق ذلك عبر إيقاظ بهجة"الخفّة"التي تمنح الروحَ طاقةَ التسامي والصعود:"قاطعُ المكانِ وقاطعُ الوقت بخفّةٍ لا تتركُ للمكانِ أن يسبيهِ، ولا للوقت أن يذرّيه ... سريعاً تحت شمسٍ لا تمسّه، تحت مطرٍ لا يبلّله، فوق ترابٍ لا يبقى منه أثرٌ عليه. سريعاً بلا أثرٍ أو إرثٍ أو ميراث". ذلك أن سعادة يخاف الاحتراق كلياً بنار المعنى أو الإرث، ويحب التطهّر بنار العودة، بحسب عبارة الشاعر عبده وازن، لأنه يرى الشعر مصلّى ومطهراً في آن واحد، عقاباً وثواباً. ثمة شعراء يمتلكون شعوراً عالياً بالخاتمة، حيث تسير قصيدتهم بثقة إلى نهايتها، واضحة المقاصد والإشارات. ولكن وديع سعادة، وعن سابق قصد، يترك قصائده معلقة، تتأرجح في فضاء التناقض، لأن التناقض جوهر الكينونة. في"نص الغياب"يكتب:"لا مكان للكلمات، إنها حالة غياب. حالة استحالة. تأتي كأنما ظل أتى/ وتذهب كأنما ظل ذهب، ولا وجه لها أو قامة أو مكان". ولأن سعادة مقيمٌ مهاجرٌ في اللغة، يصطفي من البلاغة ما يروق لمخيلته من مفردات متقشّفة، لا تعتمد بذخاً قاموسياً، بقدر ما تسعى إلى ايجاد علاقات جديدة في ما بينها. ولأن عوالمه متداخلة تمزج بين التذكر والتخيل، الرغبة والحلم، نرى اللغة ذاتها متداخلة النبرات، تذهب إلى دلالات لا ثقل فيها البتة، ربما بسبب خفّة الروح ذاتها، أو شفافية تواريها المستمرّ. وأعتقد بأنّ الشّعرية لدى سعادة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بفكرة الزمن. لذا نرى أن شغله الشاغل يتمحور حول فكرة الانعتاق أو الفرار، موظفاً وقفات صوفية خفية، تارة يسميّها سعادة البياض، وتارة أخرى يكنّي عنها بالغياب، أو العبور، كما هو الحال في"نص الغياب"حيث يقول:"صوتي هناك، يحاول وحده عبور الجسر، حذراً مرعوباً، موازياً طرفيه، متجرداً من كل ثقل حتى من صداه… يحاولُ علّهُ يعبر"ُ. لكأن سعادة يؤمن، على غرار الأميركي ولاس ستيفنس، الذي يتقاطع معه كثيراً من جهة الحساسية الفنية، والمفردات، والنظرة العدمية للجمال، بأنّ الشّاعر هو كاهن اللامرئي بحق.