شهدت الأوساط الثقافية والإعلامية في فرنسا، منذ بضعة أيام، ما يشبه أن يكون حدثاً فكرياً أطلق مناظرة ساخنة لم تهدأ بعد. والحدث هذا ليس سوى سلسلة متراصّة من أحكام القيمة التي أطلقها الكاتب الفرنسي المتمتع بنجومية ثقافية وفكرية يشاركه فيها بعض النجوم الآخرين ممن يطلق عليهم اسم وصف"الفلاسفة الجدد"، وهو آلان فنكلكروت. وقد صدرت هذه الأحكام في اطار تقويم أو تشخيص"فلسفي"بالأحرى متفلسف أعطاه الكاتب المذكور لصحيفة"هآرتس"الاسرائيلية، ثم نشرت صحيفة"لوموند"الواسعة الانتشار فقرات بارزة منه، فيما تولت مواقع على الانترنت ترجمة نص المقابلة بكاملها. والحق ان حديث فنكلكروت انطوى على قدر لا يستهان به من التوصيفات العنصرية لأحداث العنف في الضواحي الفرنسية، مما حمل بعض المنظمات المناهضة للعنصرية على التفكير في تقديم دعوى ضده بتهمة التحريض العنصري. على ان السيد فنكلكروت قدم، في مقابلة اذاعية معه، اعتذاراً لكل من جرحته عبارات الشخصية المتحدثة في المعنى الروائي للكلمة هذه المرة في جريدة"هآرتس"و"هي ليست أنا"، على قول فيلسوفنا الجديد. وتضمن الاعتذار اشارة الى درس تعلمه وهو أن لا يعطي بعد الآن مقابلة صحافية لا يتحكم هو نفسه بمصيرها أو بترجمتها. تجدر الاشارة هاهنا الى أن الصحيفة الاسرائيلية المذكورة وصفت تصريحات فنكلكروت بأنها جديرة بمناضل في صفوف"الجبهة الوطنية"، أي حزب اليمين المتطرف الذي يتزعمه كاره الأجانب جان ماري لوبن. وهذا الاعتذار دفع منظمة"مناهضة العنصرية والعمل للتقريب والصداقة بين الشعوب"الى التراجع عن فكرة الادعاء على الفيلسوف. الى ذلك، حاول فنكلكروت توضيح ما غمض في أقواله، على ما يحسب، وذلك في مقابلة صحافية مبرّزة أجرتها معه صحيفة"لوموند"، مكرراً الحديث عن عدم تعرفه على الشخصية المتحدثة في"هآرتس"وهي شخصية تبعث على القرف والاحتقار، وهي بالطبع ليست هو. وثنّى بالقول، في غير مناسبة، ان كلامه لم يفهم كما ينبغي، علماً بأنه لم يكتب نعياً روائياً من النوع الذي يثير مشكلة العلاقة بين الراوي وبين المؤلف، على ما يعلم نقاد الأدب. وهو، على أي حال، تراجع صراحة عن فكرة واحدة وردت في حديثه الى"هآرتس"، وهي الفكرة التي تقسم الانسانية الى أناس متحضرين أو حضاريين والى أناس متوحشين، وذلك في معرض تقويمه للدور التنويري الايجابي الذي انطوت عليه، بالرغم من الوجوه السلبية الأخرى، الحقبة الاستعمارية. بعبارة أخرى، يحاول فيلسوف زمانه ان يرد المناظرة برمتها الى سوء فهم ناجم عن علاقة ملتبسة بين الفيلسوف ونفسه، فهو يحسب على الأرجح أن رهان المناظرة واستواء دلالاتها معقودان على جلاء الالتباس الذي يكتنف علاقته بنفسه. وقد سبق لفلاسفة آخرين، وحقيقيين، أن رأوا في هذا الالتباس وفي منحه صفة القوام الوجودي الثابت الانطولوجي وجهاً بارزاً من وجوه الوعي الشقي الذي لا يجد حلاً لعقدة"الاضطغان"سوى في استدخالها واستبطانها على نحو أشد. باستثناء النقطة المتعلقة بتقسيم البشر الى حضاريين ومتوحشين، اكتفت توضيحات الفيلسوف بتقديم تنقيحات لمواقفه وتشخصياته التي جاءت في"هآرتس"، أي انه يتعهد ويتحمل مسؤولية الباقي كله. والباقي هذا يجعل أعذار فنكلكروت أقبح من ذنب. فهو يرفض اختزال ما جرى في الضواحي الى مسألة اجتماعية، بل يفضل الحديث عن نزاع اثني - ديني، ويستند هذا التشخيص الى ملاحظته ان معظم الشبان الذي ألهبوا الأحياء"الصعبة"هم من السود ومن العرب المغاربة الذي يتماهون مع الاسلام. وحين قيل له في صحيفة"لوموند"ان رجال الشرطة والمربين لم يلحظوا وجود مطالب دينية، علاوة على مشاركة فرنسيين"أقحاح"في أعمال العنف، أجاب فيلسوف زمانه معترفاً، على مضض، بأن الدين لم يلعب أي دور، بصفته هذه أي ديناً، في أعمال العنف، لكنه لعب دوراً باعتباره مرجعية هوية. فهو يرفض التعميم، لكنه يصر على النظر الى الأصول الاتنية والدينية للقسم الأكبر من مرتكبي العنف والذين استهدفوا رموز الجمهورية وسعوا الى ارتكاب مجزرة بوغروم تطاول، ليس بشراً حقيقيين، بل فكرة مجردة هي الجمهورية. ويرد الفيلسوف المشكلة الى انتشار عقيدة اللاعنصرية التي تحول دون تسمية الاشياء بأسمائها والتي تؤدي في القرن الحادي والعشرين دوراً يشبه الدور الذي لعبته الشيوعية في القرن العشرين. ويعترف السيد فنكلكروت بوجود تفرقة عنصرية وبوجود حرمان وبؤس اجتماعيين وارتفاع لنسبة البطالة في ضواحي الصخب والعنف، لكنه مع ذلك يرفض اعتبار هذا مشكلة اجتماعية تتصل بتاريخ الهجرة المتعددة المصادر والمتفاوتة المصائر والانضواءات في نسيج المجتمع الفرنسي. فهو يفضل على ما يبدو رد المسألة الى الكراهية المنتشرة في العالم العربي والاسلامي حيال الغرب بقضه وقضيضه، وهي كراهية تجد أصداءها في فرنسا. ويستدل فيلسوف زمانه ونسيج وحده على هذا بأن هناك مهاجرين من أصول أخرى من الصين وفيتنام والبرتغال مثلاً يلاقون صعوبات في فرنسا من دون ان يلغوا في العنف وتدمير ما يصر على تسميته برموز الجمهورية. وبدلاً من أن يقوده هذا التعيين السوسيولوجي الى مقاربة تاريخ الهجرة ودرجة اتصالها، المتفاوت بطبيعة الحال، بالحقبة الاستعمارية، نراه يسعى بكل بساطة الى"إغراق السمكة"في المياه المفترض أنها مياهها، بحسب نزعة جوهرانية ثقافية شائعة. وما يقضّ مضجع الفيلسوف هو سعي الأفارقة السود والعرب الى المطالبة باعتراف بذاكرة عذاباتهم على غرار الاعتراف بفظائع"المحرقة"التي طاولت اليهود. وهنا بيت القصيد. فالسيد فنكلكروت يبدي خشيته من تعاظم الحديث عن الذاكرات، ومن نشوء وجه تناظر بين"محرقة"اليهود وبين جرائم أخرى ترقى الى العهد الاستعماري وتجارة الرقيق. وهذا ما يجعل من الممثل الفكاهي الأسود"ديودونيه"الداعية الأبرز للاسامية في فرنسا. ما يستنفر حمية الفيلسوف هو التعرض لمكانة"الحرقة"التي ينبغي أن تبقى استثنائية وتتمتع بوحدانية تجعلها فوق التاريخ وتعطي للمتصلين مباشرة بها، بالمعنى القرابي والقبلي للكلمة وليس بالمعنى الفلسفي والتاريخي الانساني العريض، مكانة الضحية القصوى التي يحق لها ان تكون فوق كل شيء. لنقل ان تصريحات الفيلسوف تحمل خليطاً من أسوأ الوجوه في ثلاث نزعات شائعة. الوجه الأول هو النخبوية الاجتماعية التي تبلغ صلافتها حد البذاءة. والثاني هو العنصرية الشعبوية المستندة الى جوهرانية ثقافية - اثنية لا فكاك منها الا في اطّراح الهوية الذاتية والإذعان لتنويرات الأسياد النخبويين. والوجه الثالث هو بالطبع صيغة لا تبوح باسمها لعقيدة صهيونية مسكونة، في فرنسا تحديداً، بنزعة طائفية صريحة لا يقلل من شأنها قول فنكلكروت لأقرانه من اليهود بأن عليهم ان يذهبوا الى اسرائيل اذا كانوا يحسبون ان هويتهم الفرنسية قائمة على المصلحة فقط. باختصار، يشكل فنكلكروت عينة أو نسخة فرنسية مرتبكة لتلقف تهويمات المحافظين الجدد الايديولوجية، ولصعوبات تجرعها في بلد تركّب تاريخه الاجتماعي على مسار مختلف.