لنفترض، أو لنتخيل، ان امرأة فاجرة، شرسة الطباع وفظة في تعاملها مع ابنائها وجيرانها المباشرين، كانت تجتاز الشارع العام ثم جاءت سيارة يقودها سائق ثمل وبسرعة تتجاوز السرعة القانونية المسموح بها، وأحرق اشارة المرور وصدم المرأة، فما عساه ان يكون في هذه الحالة حكم النصاب المرشح للبت في هذه القضية، أي حكم القانون والعقل الحقيقي؟ مع اننا نمقت التبسيطات لأنها تعطل العقل والحس السليم وتسلس القياد للأهواء والنزوات، فإن قسماً بارزاً من المناظرة الدائرة حول الحرب العراقية يكاد يكون مشابهاً، في ما يخص أدوات الإقناع والتمثيلات البلاغية الدعوية، للنقاش المحتمل حول الحادثة المفترضة آنفا. ثمة في هذا العالم من يقول بأن فجور المرأة وفظاظتها هما السبب الأول والأخير لحصول الحادث سواء كان السائق ارتكب فعلته عن طيش ونزق أم عن سابق تصور وتصميم. ولا يخفى على القارئ ان أصحاب هذا التعليل وأنصاره يختزلون الحادث الي قراءة بدائية "جوهرانية" و"ثقافوية" تجيز تصنيف البشر، بحسب مانوية شائعة في هذه الأيام، بين أخيار وأشرار وفقاً لمعايير أخلاقية صارمة لا تأتيها النسبية والتاريخية لا من أمهامها ولا من خلفها: لو لم تكن المرأة فاجرة، لما وقعت الحادثة اصلاً. وثمة بالطبع من تقودهم كراهيتهم للمرأة الفاجرة الى تأييد السائق الثمل واعتبار فعلته من قبيل فرض الكفاية الذي يستحق الشكر، من دون ان يفطنوا الى حجم المديونية الرمزية والمعنوية التي باتت متوجبة عليهم حيال محررهم ومخلصهم من المرأة الشريرة. لا نبالغ اذا قلنا ان الحرب العراقية، بالأحرى الحرب الاميركية على العراق، تكون تكون استثنائية في جانبها الايديولوجي والدعوي وطغيان هذا الجانب على سواه. وغني عن القول ربما ان الادارة الاميركية الحالية نجحت الى حدّ بعيد في فرض تبسيطاتها الخطابية وجعلها المنظار الأكبر، ان لم يكن الأوحد، لتعقّل المسألة العراقية وذيولها. في هذا الإطار تصير القرارات الأخرى للمسألة نفسها، ومعها احتمالات معالجة مختلفة، مجرد أوهام صادرة عن مخيلة مساكين مثاليين، وضعفاء عموماً، حتى وان كانوا يمثلون غالبية قطاعات الرأي العام في العالم. فالرئيس الاميركي جورج بوش لا يكف عن تقديم نفسه في صورة حامل الترياق السحري للعراق المريض. وفي خطابه الذي ألقاه في اليوم الثاني عشر للحرب، اكد بأن الانتصار قريب وبأن قوات التحالف حققت تفوقاً جوياً كاملاً و"بأننا نوزع أطناناً من المعونات الانسانية"، وبأن اميركا قررت بعد هجوم 11 ايلول سبتمبر ان لا تنتظر قيام الأعداء بتوجيه ضربات الينا، ووعد العراقيين بأنه سيخلصهم من صدام حسين: "نصل حاملين معنا الغذاء والأدوية وحياة أفضل. ولن نتوقف عن عملنا قبل ان ننتهي من تحرير بلدكم"، ومعنى هذا ان الرئيس الاميركي يحمل الى العراقيين، ما يتعدى بكثير مشروعاً سياسياً قابلاً للنقاش والتعديل: انه حامل البشارة العالمية، ولأنه يتلهف الى تأدية دور "المخلّص" و"الشفيع" و"المبشر" بإخراج العراقيين من ظلمات العبودية والاستبداد الى أنوار الحرية، فإنه يحتاج الى هذه الوضعية ويلح في طلبها. والوصفة السحرية أو البشارة التي يحملها الرئيس ومن حوله جوقة من المنشدين ومن الوالفين في المضاربات والمقاولات والصفقات، وقبض العمولات كما هي حال "أمير الظلمات" المستقيل من وظيفته الإرشادية، أي ريتشارد بيرل. هذه البشارة تكاد تتلخص في كلمة واحدة متماثلة مع ذاتها وفي ذاتها، اذ ان وحدانيتها أقرب الى اللاهوت منها الى الناسوت: الحرية. فشعار الحملة العسكرية الجارية هو "الحرية للعراق"، وليس هناك ما يدل على ان تجهيز عقود وصفقات اعادة إعمار العراق، قبل اندلاع الحرب، وتوزيعها على شركات اميركية وثيقة الصلة بعدد من أركان الإدارة الحالية، لا ينتقصان، على ما يبدو، من الوظيفة الصوفية للحرية ومن قيمتها اللاهوتية. وقد سبق لكاتب هذه السطور ان قام بتمرين دلالي على خطاب الرئيس بوش، قبل شهرين، فظهر ان الرئيس استخدم في خطابه كلمة "حرية" سبع عشرة مرة، وفي سياقات متنوعة تتراوح بين الاجترار البلاغي - الصوفي وبين التأكيد، الناسوتي هذه المرة، على حرية السوق والمبادرة الاقتصادية. هذا فيما استخدم الرئيس، في خطابه البرنامجي التبشيري نفسه، مرتين فقط، وبطريقة خجولة كلمة "العدل" أو العدالة في معنى يقرب من "الحرية". وفي هذا ما يكفي للتدليل على فلسفة المحافظين الجدد في الولاياتالمتحدة الذين يريدون التحكم بمسار العولمة الجارية، اذ يشعرون بأنها تسبقهم. وتقوم هذه الفلسفة على المزاوجة بين نزعة اخلاقية طهرانية متزمتة وبني نزعة نيوليبرالية متفلتة قدر المستطاع من القيود والضوابط والقواعد المعمول بها عالمياً. وخلاصتها تعتبر ان الخلاص الفردي قدر محتوم، سواء كان الفرد شخصاً بعينه أم كياناً جمعياً، وبأن ليس هناك ما يمكن التفاوض عليه والتباحث فيه مع الخاسرين من العولمة ومن لعبة السوق. يمكن في أحسن الأحوال التعويض على الخاسرين، المصابين بقصور ذاتي تخصهم جوهرياً ولا يتعلق بشروط وضعيتهم في لعبة القوى والأمم والأفراد، بشيء من المساعدات الخيرية التي تسمح للرابحين بتزكية أرباحهم وتخليقها مقابل اعتراف الخاسرين بالجميل. والعدالة هي هذا، أي ان الأقوى يقرر من هو الخاسر، والمرشح للخسارة، ومن الرابح والمدعو الى الربح. وقوة الأقوى لا تعود الى شروط موازين القوى وعلاقاتها، بل هي تتعلق بقدرته على الأهتداء والتزام الطريق السوي والمستقيم، أو على العكس بالسقوط في الضلالة والمروق والشر، واستحقاقه بالتالي المصير الذي سيلقاه حتماً. لا يتحدث جورج بوش وجوقته عن العدل لأنهم يحسبون أنفسهم قابضين على زمامه ولو وضعهم ذلك في وضعية "الخصم والحكم" في آن معاً. فهم بالذات نصاب العدل وأحكامه، ومن حقهم اختيار مدى انصياع الآخرين لمقتضيات عدلهم، ربما في ذلك الهيئة المخولة حتى اشعار آخر للبت في مسائل العلاقات بين الدول، أي منظمة الأممالمتحدة ومجلس الأمن. قد يبدو للبعض ان توصيفنا ينطوي على مبالغة وتبسيط كاريكاتوري. والحال ان المسألة العراقية، والطريقة الاميركية لحلها تكشف عن مدى الترهات الايديولوجية لأصحاب البشائر الكونية والخلاصية. حتى الحرب الجارية على قدم وساق وسط غبار معارك شديدة وضارية، وسكان مدنيين لا نعلم أين سيجدون زهوراً وأرزاً لينثروها على رؤوس المخلّصين والمحرّرين، فيما يتلقون اعتذارات على الهفوات الحربية والضربات الناقصة الذكاء. هذه الحرب ليس حرباً، في عرف صانعيها ودعاتها. فهي ليست من طراز الحرب التي قال عنها الشاعر الجاهلي بأنها "ما علمتم وذقتم" وبأنها "تعرككم عرك الرحى بثفالها" وبأنها تتئم وتتناسل وتنجب أولاد شؤوم وضغينة. لا ليست حرباً هذه العمليات التي تكوي العراق وتنفخ فيه شياطين حروب كثيرة أخرى. انها عملية تقوم بها فرقة شرطة أخلاقية كونية للقضاء على عصابة خطيرة من الزعران والمارقين الذين يتخذن السكان وبلدهم رهينة في أيديهم الظالمة. لا مكان اذن للبحث في الهاجس العربي الحديث لامتلاك أسباب القوة في منطقة تعج بالنزاعات، وفي مقدمها النزاع مع دولة استيطانية تمتلك ترسانة نووية. فثمة "أدباتية" سيقولون لك ان الخلط بين العراقوفلسطين غير مقبول، ومن هؤلاء مثلاً في فرنسا السيد كلود لانزمان الذي يعتبر نفسه صرحاً ثقافياً واخلاقياً لا يشق له غبار. فقد كتب لانزمان، مدير مجلة "الأزمنة الحديثة" التي ورثها بطريقة عجيبة عن مؤسسها الفيلسوف جان بول سارتر، وصاحب فيلم "شوا" المحرقة الذي لا يبلى، كتب مقالة في صحيفة "لوموند" أعلن فيها مناهضته للحرب الاميركية على العراق، وطرح مجدداً السؤال الاتهامي التشكيكي الذي طرحه قبل شهرين تقريباً حول المسألة نفسها: هل يحق لنا ان ندمر بلداً من دون شفقة؟ غير ان هذا الاعلان البلاغي لمناهضة الحرب الذي يخالف صيحات حفنة من أشباه الفلاسفة فنكلكروت وغلوكسمان وروديكير وأشباه السينمائيين رومان غوبيل وأشباه السياسيين آلان مادلين، يمهد لإدانة ومناهضة خطر آخر "موجود في شوارعنا". الخطر هذا ناجم، بحسب لانزمان، عن التماهيات وعمليات الخلط المشينة التي يلجأ اليها المتظاهرون النازعون الى السلام. من ذلك، حرق الأعلام الاسرائيلية أو وضع الصلبان المعقوفة ذات الترميز النازي فوق نجمة داوود، والاعتداءات المثيرة للسخط التي تستهدف اليهود في فرنسا، "يجري الخلط بين العراقوفلسطين، يضيف لانزمان، خاضعين بذلك لشعارات صدام حسين، ويجري الجمع بين بوش وشارون في عبارة واحدة متنقلة هي "بوشارون"، جاعلين من اسرائيل مرة اخرى كبش فداء مثالي، فيما هي اسرائيل تنأى بنفسها بداهة عن هذه الحرب، وتتخذ الحذر بحق حيالها، ولم ترغب فيها أبداً". كلام لانزمان هذا لا ينم عن انتهازية تغمز من قناة السجال البريطاني - الاسرائيلي فحسب، بل هو دجل صريح. يريد لانزمان ان يقنع القراء بأن أركان الدولة العبرية لم يلجأوا الى الخلط قبل غيرهم، منذ 11 ايلول، بين بن لادن وبين عرفات، وبأن شارون لم يحضّ الدارة الاميركية من دون كلل على المسارعة الى شن الحرب على العراق من دون ابطاء وتأخير. بل حتى ايهود باراك وأمثاله سارعوا غداة 11 ايلول، الى إحداث الخلط وإحكامه آملين خصوصاً مع الليكوديين، في تحقيق الخلط بين مسألة لا تقبل التفاوض ارهاب اسامة بن لادن وبين مسائل قائمة من ذي قبل داخل فضاء تفاوض سياسي، أي فلسطينوالعراق.