لم تخمد بعد في فرنسا العاصفة التي أطلقتها عبارة وردت في كتاب بعنوان "ريف فرنسا" الصادر عن دار "فايار" الباريسية للكاتب الفرنسي رينو كامو، وهي لا تزال تتفاعل يوماً بعد يوم منذ العشرين من الشهر الماضي بعد أن لوحق المؤف بتهمة اللاسامية واضطر الناشر الى سحب الكتاب فوراً من الأسواق حتى قبل أن يَبت القضاء بأمره. وهذه سابقة في الحياة الثقافية الفرنسية. واللافت في الموضوع تنوّع الأطراف والجهات التي تألّبت ضد الكاتب، من المعنيين المباشرين بالاتهامات وفي مقدمهم رئيس مجلس ادارة "إذاعة فرنسا" جان ماري كافادا ومديرتها لور أدلير، الى وزيرة الثقافة الفرنسية كاترين تاسكا. وقد اتهم هؤلاء المولّف بتقديم طروحات عنصرية تستدعي الملاحقة القانونية. العبارة الأساس التي سبّبت هذه الهجمة الشرسة وكانت كُتبت عام 1994 في سياق يوميات ينشرها رينو كامو تباعاً، تصف هيمنة الصوت اليهودي على برنامج تبثّه إذاعة "فرنسا الثقافة" تحت اسم "بانوراما". وورد حرفياً على لسان الكاتب ما يلي: "يقلقني ويحزنني أن أرى وأسمع هذه التجربة الفرنسية ثقافة وحضارة، وقد أصبح الناطقون الرسميون باسمها ومعهم وسائل الاعلام في الكثير من الحالات في أيدي غالبية يهودية...". كان يكفي أن ينطق المؤلف بهذه العبارة حتى تقوم القيامة ولا تقعد وحتى يُتّهم صاحبها باللاسامية والتحريض العنصري وما شابه من هذه الألفاظ الجاهزة التي يرمى بها كل من تجرّأ في الغرب وتناول هذا الموضوع من قريب أو بعيد. عدد كبير من المقالات انطلق دفعة واحدة من كبريات الصحف والمجلاّت الفرنسية ويحمل تواقيع مدرائها وكبار كتّابها ليدين رينو كامو في حملة رجم إعلامي منظّمة هي أشبه بالإعدام. فما كان من الكاتب المتّهم إلا الاسراع في توضيح موقفه والقول: "ان المقاطع التي تمّ تجريمها تعكس مزاجي يوم كتبتُها، وأنا لا أنكرها بأي حال من الأحوال، لكن ينبغي ألاّ تُقرأ كما لو أنّها تؤلّف جزءاً من بحث أو من مقالة نقدية حول الصحافة في فرنسا. إنّها تتناول موضوعاً محدداً للغاية هو برنامج تبثّه اذاعة "فرنسا الثقافة" الذي كنتُ أستمع اليه بانتظام. وإن كنتُ عبّرت عن امتعاضي فلأنّ الصحافيين الذين يعدّونه، وهم في معظمهم من اليهود، يميلون، بحسب رأيي، الى تناول موضوعات يهودية بحتة مهمة في حد ذاتها، لكن ليست هذه هي المسألة وبوتيرة لا تخلو من المبالغة. كان ردّ فعلي سيكون هو ذاته تماماً لو تعلّق الأمر بأيّ تجمّع أو فريق آخر...". إلا أن هذا التوضيح من الكاتب لم يكن كافياً لوضع حدّ لهجمة راحت تتزايد وتبلغ درجات من العنف اللفظي نادراً ما عرفتها ساحة الحوار في فرنسا، وشارك فيها بعض الأسماء اللامعة، ونذكر منه هنا، على سبيل المثال، الفيلسوف ألان فنكلكروت وبرتران بوارو دلباش من الأكاديمية الفرنسية، وقد نشر هذا الأخير في صحيفة "لوموند" مقالاً يذكّر بالمعتقلات النازية ويطرح موضوع الذاكرة... لكن كاتب المقال يخرج عن رصانته "الأكاديمية" فيستعمل في حق رينو كامو ألفاظاً من وزن "القيء" قبل أن يضعه في جبهة واحدة مع بيتان وسيلين المعروفين بمعاداتهما لليهود. في اليوم التالي، وفي الصحيفة ذاتها، صدر مقال آخر من العيار الثقيل أيضاً وعنوانه "رينو كامو بيتيني نسبة الى بيتان متأخِّر". وتوالى سيل المقالات في كلّ مكان. حاول كامو الدفاع عن نفسه إلا أن صحيفة "لوموند" رفضت نشر مقاله بحجة أنه "يتجاوز الخطوط الحمر". وجاء في هذا المقال الذي طالعتنا نسخة منه في موقع الانترنت وهو موجّه في الأصل الى وزيرة الثقافة الفرنسية: "إن التأكيد على أننا غير معادين للسامية أشبه بما يقدم عليه الكثير من مروّجي الطروحات العنصرية، أي الاعتراف بأننا عنصريون. وهذا ما يجعل الدفاع عن النفس والحقيقة مسألة في غاية الصعوبة". ويعود الكاتب فيذكّر في موقفه قائلاً إن "المبالغة التي سبق أن وصفتها تجعل من هذا البرنامج الاذاعي أشبه بالبرامج المنحصرة في تجمُّع واحد دون غيره... وما يثير فعلاً هو أنّ مجرد طرح الموضوع أمر مستحيل، لأن طرحه سرعان ما يعرّضنا لسلاح اللغة المطلق، وهو سلاح لا يفلت منه أحد واسمه اللاسامية. غير أن هذا السلاح لا يستعمل دائماً بِرويّة. تجب إعادة النظر في تحديد هذه الكلمة لأن انعكاساتها خطيرة ككل سلاح مطلَق...". ويتابع كامو دفاعه عن نفسه بالقول نقلاً عن الانترنت دائماً: "شهدت للثقافة اليهودية ولاحترام التقاليد اليهودية وحتى للألم اليهودي أكثر بكثير مما شهد معظم الذين يتهمونني اليوم"... غريب! كان يدرك الكاتب وهذا ما ورد في يومياته المنشورة أيضاً مدى صعوبة استعمال "كلمة "يهود" لما تنطوي عليه في فرنسا، وفي الغرب عموماً، من مدلولات مأسوية. وقد ظنّ لوهلة، وهو المعروف بثقافته التشكيلية الواسعة، أن وقوفه الى جانب الكثير من الفنانين التشكيليين اليهود وتشجيعهم وتقديمهم الى الجمهور الفرنسي قد يشكّل غطاء لرأيه، لكنه سرعان ما أدرك أنه أخطأ التقدير، وجاءت ردود الفعل المشتعلة لتذكّره بالمعادلة الآتية: "كلّ شيء إلاّ هذا". وعاد الكاتب فأرسل مقالاً آخر الى صحيفة أخرى هي هذه المرة "ليبيراسيون" فرفضت نشره وسوّغت رفضها بالقول: "إن السجال انتهى وما من حاجة الى إعادة إطلاقه". إلا أن الصحيفة ذاتها نشرت في وقت لاحق مقالات معادية لكامو. والسجال الذي يدور من طرف واحد كان على خلاف ما ذكرت الصحيفة متواصلاً في كل الصحف الفرنسية ولقد توّجته افتتاحية جان دانيال في مجلة "لونوفيل أوبسرفاتور" التي شبّهت رينو كامو بهتلر ونسبت اليه تهمة "اللاسامية الحاسمة التي لا مجال للرجوع عنها أو للشفاء منها". لم يتمكّن رينو كامو، حتى اليوم، من الرد على منتقديه، بل أن عدداً من مؤيديه ممن أرسلوا مقالات الى الصحف الفرنسية دفاعاً عنه قوبلوا، هم أيضاً، بالرفض. وظن المتهجّمون عليه أنهم خنقوا صوته بصورة نهائية. إلا أن المعركة التي كانت، كما العادة في مثل هذه الحال، محسومة سلفاً، تغيّر مسارها فجأة عندما انبرى حشد من المثقفين الفرنسيين والأوروبيين ليدافعوا عن كامو ضد الحملة "العنيفة، الجائرة وغير المبرّرة" بحسب رأيهم. ولقد وقّع هؤلاء المثقفون أخيراً على بيان يؤيد الكاتب معتبرين أن سحب كتابه من الأسواق لا يشكل فقط ظاهرة خطيرة في الحياة الثقافية الفرنسية وإنما يحرم القرّاء أيضاً من حرية الحكم بأنفسهم على ما ورد في الكتاب. وحمل البيان تواقيع حوالى مئة كاتب ومفكر وفنان تشكيلي وإعلامي من بينهم كريستيان جامبي وجان دوبيرغ وبيار بيرجيه وكميل لورانس وفريديريك ميتران وماري ريدونيه... وهي المرة الأولى تنقسم فيها الى قسمين الساحة الثقافية حول موضوع في هذه الحساسية. واللافت أن مؤرخ الفن المعروف نيكولا فوكس فيبر، مدير مؤسسة "جوزف إند آني ألبرز" مقرّها الولاياتالمتحدة الاميركية وتحمل راية ضحايا النازية، تحدّث عن "الظلم الذي لحق برينو كامو والذي حركته صحف جادة تلاعبت في نصه وحرفته وصورت صاحبه وحشاً مخيفاً". من الاتجاه ذاته انضمّت أصوات أخرى فكتب السينمائي فنسان نوران قائلاً: "حدث أنني يهودي، لكنني أقف ضد المحاكمة التي رفعوها في وجهك. لك حرية الفنان وأعرف أنك لست لاسامياً. أما بالنسبة الى ما ذكرت بخصوص إذاعة "فرنسا الثقافة" فأنت على حق تماماً"... أمام هذه المعركة المحتدمة، يبقى السؤال: هل يستطيع الكاتب بالفعل أن يقول ما يفكّر فيه الآن، ليس فقط في شرقنا الحزين حيث تتزايد دعوات التكفير والتحريض على القتل، وإنّما في الغرب أيضاً؟ الغرب الذي استطاع أن يستوعب نيتشه وطروحاته، وكذلك طروحات مفكّري أو فلاسفة عصر الأنوار وحاملي لواء الحداثة أجمعين المشككين في كل الأفكار والمعتقدات والقيم، هل هو عاجز اليوم عن استيعاب عبارة في كتاب فيعمل على مصادرة هذا الكتاب ويحكم على صاحبه بالصمت؟ وإذا كان الحق في الرد والدفاع المشروع عن النفس هما من أبسط قواعد الديموقراطية وملمح أساسي من ملامح حرية التعبير، فمن يعطي رينو كامو الحق في الدفاع عن نفسه بعد أن أقفلت الصحف الفرنسية ومعها وسائل الإعلام الأخرى أبوابها في وجهه؟ ومن يردّ عنه الأصوات المنهالة عليه التي تدعوه الى الانتحار والتي تؤكد لجميع الذين وقفوا ويقفون الى جانبه انهم لن يجدوا بعد اليوم ناشراً لكتبهم ولا آذاناً صاغية لا في صحيفة "لوموند" ولا في اذاعة "فرنسا الثقافة"؟ ثمّة من يذهب بعيداً ويقارن بين قضية كامو اليوم وقضية درايفوس في الأمس. لقد اتخذت قضية كامو أبعاداً لم تعرفها الساحة الفرنسية منذ زمن بعيد، بل أنها فضحت الحلقة الضعيفة في الجسم الثقافي الفرنسي وطرحتها، للمرة الأولى، بصورة مكشوفة عارية فتبيّن كيف أن ثمة محرّمات، حتى في المدينة التي اصطلح على تسميتها بمدينة النور، لا يمكن المساس بها على الاطلاق. أمّا من يجرؤ ويتعرّض لها فمصيره العقاب الوخيم ولا يسلم منها أحد. ألم يُتّهم الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران الذي كان معروفاً بصداقته لليهود بأنه أدلى بتصريح لاسامي بعد أن ذكر الكاتب جان دورميسّون في كتابه عبارة على لسانه ينتقد فيها "هيمنة اللوبي اليهودي"؟ الأكيد أنّ القضيّة لن تتوقف عند هذا الحد. فهناك أصوات عدة معروفة بمواقفها الانسانية بدأت تتحرر من هذه التهمة وتعبّر عن رفضها لأيّ هيمنة ثقافية وتشعر بعمق كم المفارقة الكبيرة عندما تطالب باريس بحرية التعبير في العالم أجمع وهي غير قادرة أن تؤمّن هذه الحرية بالكامل لنفسها! وقبل أن ننهي هذا المقال نشرت صحيفة "لوموند" 25 أيار/ مايو الجاري بياناً يستنكر موقف رينو كامو ويتّهمه مجدداً بالعنصرية، ويجتزئ كلمات من سياق نصه العام فيعتبرها تنطوي على آراء "إجرامية ومُدانة ولا يمكن السماح بنشرها تحت شعار حرية التعبير". يحمل البيان توقيع 26 مثقفاً من بينهم جاك لانزمان، ميشيل دوغي، جاك ديريدا، وفيليب سولرز...