من بين الغرائب والمفارقات التي حفلت بها الانتخابات الرئاسية الفرنسية، واحدة تسترعي الانتباه، تتعلق بصورة وعبارة الصفعة، في المعنيين الحقيقي والمجازي - الكنائي للكلمة. هناك صفعة شاملة طاولت الطبقة السياسية الفرنسية كلها، فوجئ بها ثلاثة ارباع الفرنسيين، اي باستثناء الربع الأخير الذي رغب في توجيهها، ولو بمقادير متفاوتة. ويجري تصوير الذهول الحاصل كما لو ان يداً خرجت من قاع المجتمع الفرنسي ومن عتمة حملة انتخابية باهتة، بسبب طابعها الاستعراضي الدعاوي الرخيص، وصفعت الجميع، يميناً جمهورياً لم يتوان عن مغازلة الخطاب الشعبوي لليمين المتطرف حول مسألة انعدام الأمن، ويساراً اشتراكياً يستحق صفة "يسار الكافيار" الشائعة ما دام بقي مطمئناً الى النتائج المحسوبة، وببلاهة نخبوية تفتقد التواضع. وهناك الصفعة الصغيرة، والحقيقية هذه المرة، التي وجهها مرشح "الاتحاد الديموقراطي الفرنسي" فرنسوا بايرو الى ولد ذي سحنة مغاربية مدّ يده الى جيب سترة المرشح لدى جولة انتخابية في ضاحية سكنية فقيرة من ضواحي مدينة ستراسبورغ. فالصفعة "الأبوية" هذه رفعت خلال ايام قليلة المكانة الاقتراعية لبايرو بنسبة ثلاثة في المئة تقريباً. فالرجل الذي حصل على اقل بقليل من 7 في المئة، وحل في المرتبة الرابعة، لم تكن استطلاعات الرأي تمنحه، قبل الصفعة، اكثر من ثلاثة أو أربعة في المئة. وقد رد شبان في مدينة رين على الصفعة بأن قذفوا المرشح اثناء جولة انتخابية بكعكتين مليئتين بالكريما وأصابوه في وجهه. تقبّل المرشح هذا الرد بروح رياضية من دون ان ينجح كثيراً في كظم غيظه وفي استخلاص عبرة تتحدث عن حال التردي التي بلغها المجتمع الفرنسي، كما انه شرح في مناسبة اخرى فحوى تصرفه التلقائي وشبه الغريزي. فشدد بايرو على انه لم ينظر الى سحنة الولد قبل صفعه، وأنه من هذه الناحية لا يميز بين "شقاوة" ولد وآخر استناداً الى العرق او الديانة أو اللون: إنها صفعة صغيرة ابوية وجمهورية يمكن ان يتقاسمها كل الأولاد الأشقياء بالتساوي ومن دون تمييز. بناء على هذا التعليل تدفقت بضعة ألوف من الأصوات الإضافية الى بايرو. وهناك من يحاول تجيير الصفعة بسفاهة ووضاعة كبيرتين، في ما يشبه اللعب بالنار. وأعني بذلك تصريحات رئيس المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا روجيه كيكرمان معلقاً على نتائج الدورة الاقتراعية الأولى. فقد رأى هذا "العبقري المؤيد لإسرائيل مهما فعلت"، في تصريح نقلته "هآرتس" الإسرائيلية بأنه "يأمل في ان يؤدي انتصار لوبين الى تقليص اللاسامية الإسلامية والسلوك المعادي لإسرائيل، ذلك ان النتيجة التي حصل عليها اي لوبين لهي رسالة الى المسلمين تدلهم الى ان عليهم ان يبقوا هادئين". وصرّح كيكرمان ذاته الى وكالة الصحافة الفرنسية بأنه لدى التفكير في نتيجة الاقتراع المفاجئة "نفهم بأنها نتيجة رد فعل فرنسي حيال مشاكل انعدام الأمن. إنه رد فعل دفاعي آسف له وأفهمه". ولكي يربح على كل الجبهات، دعا كيكرمان الى الاقتراع لجاك شيراك في الدورة الثانية الأخيرة. تصريحات رئيس المجلس التمثيلي اثارت جدلاً داخل الطائفة اليهودية، ووصفها رئيس تحرير صحيفة "لوموند" بأنها تعبّر بطريقة غير مسؤولة وصادمة عن شطط ينحو منحى الانغلاق الطائفي. وقد استوضحته صحيفة "ليبراسيون" فجاء جوابه على قاعدة "عذر اقبح من ذنب"، اي ممعناً في المخاتلة والالتباس. فهو اعتبر ان كلامه نُزع من سياقه، وأنه تحدث "عن التبعات الممكنة للاقتراع لمصلحة لوبين. وقد سئلت عما اذا كان هذا الأمر يفضي الى نقص في اعمال العنف، فكان علي ان أجيب نعم . ينبغي ان نأمل في ان تتخذ الحكومة المقبلة تدابير لمكافحة اعمال العنف". ليس هناك اذاً في تصريحات السيد كيكرمان الذي يعتبر نفسه شخصية يهودية فرنسية نافذة - وإسرائيلياً عضوياً إذا جازت العبارة، ليس هناك ما يدل الى ادنى شعور بالخطر حيال ظاهرة شعبوية وعنصرية تمثلت في اقتراع قرابة العشرين في المئة من الفرنسيين لمصلحة اليمين المتطرف. وإذا انتبهنا الى تصريحات لوبين في اعقاب النتائج مباشرة الى صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، والتي يعتبر فيها ان حال الدولة العبرية حيال الفلسطينيين تشبه حال فرنسا في الجزائر، جاز لنا، وعلى مسؤولية كاتب هذه السطور، ان نشتم رائحة صفقة بذيئة ومقيتة، تذكر في بعض وجوهها بمفاوضات بعض عتاة الحركة الصهيونية مع النازيين الألمان لترحيل اليهود الى فلسطين. الصفقة التي نشير إليها، تقوم على نوع من "الترانسفير" للذاكرة الكولونيالية الفرنسية، العزيزة على قلب لوبين، الى قلب الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي وانعكاساته في فرنسا، بحيث ينصبّ الحقد العنصري على "المسلمين" المتحدّرين من الهجرة المغاربية، وتتطلب هذه المقايضة التضحية بالمخاوف اليهودية وغير اليهودية من لاسامية لوبين ومقاومتها في مقابل انصياع لوبين وجماعته الى المنطق السائد حالياً، في اميركا وإسرائيل، للحرب ضد "الإرهاب". وبذلك نصل الى الصفعة العظمى، أمّ الصفعات، تلك التي ارتبطت بتفجيرات 11 ايلول سبتمبر. فغداة هذه العمليات المنسوبة الى شعبوي اسلاموي غامض اسمه اسامة بن لادن، وإلى تنظيمه السديمي "القاعدة" نشطت ماكينة دعاوية وإعلامية سعت حثيثاً وما تزال الى اقامة تطابق كلي بين حرب الرئيس الأميركي الشعبوي على طريقته الاستعراضية ضد "الإرهاب"، كل الإرهاب، وبين الحرب التي شنها الشعبوي الفاشي آرييل شارون ضد الشعب الفلسطيني برمته. ما بدا سخافة في البداية، اي هذا التطابق العسفي بين حربين مختلفتين جداً، يكاد يصبح الآن امراً واقعاً وإن خيل للكثيرين ان العالم بات يمشي على رأسه، اي بالمقلوب، وفي غمرة هذه التطابقات العاصفة او الصافعة إذا شئتم، وتصاعد غبارها الكثير قد تمرّ تصريحات رئيس المجلس التمثيلي اليهودي روجيه كيكرمان من دون ان تثير الانتباه والمحاسبة المناسبين، في مجتمعات ديموقراطية حتى إشعار آخر. في انتظار ما سيجلو تاريخ الأيام المقبلة. سيواصل بشر كثيرون من ذوي النيات والعقول السليمة معاينتهم الحائرة داخل صفعة كونية لا مثيل لها. ويبقى لكل واحد ان يقيس مقدار ذهوله حيال ما يرى بعين لا بد زائغة بسبب الصفع المتواصل للعقل والقلب. * كاتب لبناني مقيم في باريس.