استيقظت فرنسا بعد أسبوعين من العنف الصاخب الذي طاول السيارات والباصات والمرافق العمومية على بؤس الضواحي ومرارة حقائقها السوسيولوجية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي يمكن تلخيصها في مفردات مثل البطالة، التهميش، ألأمية، نبذ الشرائح المغاربية والإفريقية. وهذه على رغم مولدها في فرنسا وتجنسها الفرنسي، لا تتمتع بالحقوق نفسها وفرص العمل التي يوفرها المجتمع لشخص ذي أصول فرنسية. ولم تكن كلمتا"الأوباش و"الأوغاد"التي تفوه بهما وزير الداخلية نيكولا ساركوزي في حق شباب الضواحي سوى الفتيل الذي أضرم الشرارة في بركان كان يغلي منذ عقود . تتساءل فرنسا اليوم عن مصيرها على ضوء الانبثاق العنيف لهذه الأحداث التي هي ترجمة لتصدع اجتماعي خطير ظهرت شقوقه قبل عقود ولا احد من وجوه من الحكومات الفرنسية، اليمين منها أو اليسار، عالجها على نحو راديكالي. وهكذا أضحت الضواحي خزاناً لمشاعر حقد عادي تستعصي معالجته الوقائية بإنعاش قانون للطوارئ يعود إلى 3 نيسان أبريل 1955 وبموجبه تم ترهيب المواطنين الجزائريين ومراقبة تحركاتهم، أو مواجهتهم بإجراءات خيرية. وإن كانت غالبية المحللين تكهنت بحدوث هذه الوقائع، فإنها تشدد على أن فرنسا لم تفلح في إجراء القطيعة مع ذاكرتها الاستعمارية. انبثاق جيل الضواحي بثقافة جديدة تنهل من لغة الغيتوات الأميركية ومن بؤس الحياة الإسمنتية بما هي رديف لأفق بلا منافذ لا يختلف كثيراً عن مدن القصدير التي تراكم فيها الأباء والأجداد فور وصولهم فرنسا، هذا الانبثاق يحتاج إلى أجوبة وحلول جديدة. هنا شهادات من المفكر محمد اركون والاكاديمي عبد الله بن مليح والرسام رشيد قريشي. محمد أركون : غرباء في اوطانهم وفي فرنسا فيما كنتُ عائداً من زيارة عمل لإنكلترا تصفحت صحفاً بريطانية لم يفتها طبعاً رد الكرة وبعنف لفرنسا. فهي لم تتردد في وصف انفجارات الضواحي وكأنها مستهل لحرب أهليةپ! لكن علينا الوقوف لرصد الأسباب العميقة لهذه الأحداث التي لها أبعاد سوسيولوجية، اقتصادية، ثقافية تضرب في تربة تاريخ يربط وأحياناً الى حد الاختناق، فرنسا بالمغرب العربي. أول ما نقرأه في هذه الأحداث هو غطرسة فرنسا التي لم تفتح أي باب للحوار مع أبنائها المغاربيين الذين لا تعترف بهم. يشعر هؤلاء الشباب الذين توجوا مسارهم التعليمي بديبلومات جامعية محترمة بنبذ مزدوج: لا بلدانهم الأصلية بقادرة على استيعابهم ولا فرنسا وفرت لهم شروط الاندماج. عندما يدخل هؤلاء الشباب لقضاء العطل في بلدانهم الأصل يشعرون بالغربة، ولا يتماهون مع مناخها. فهم لا يعرفون عن بلدانهم الأصل شيئا. ثمة نقص تاريخي يرافق مصير هذه الشرائح التي لا تقدر على صوغ خطاب عن تاريخها المعقد. علاوة على أن وسائل الإعلام الفرنسية تتحدث بدلاً من هؤلاء أو تقولهم ما لا يقولون. انظر كيف جعل الإعلام الفرنسي من هذه التراجيديا فرجة. كنت أحد الأشخاص الذين دقوا ناقوس الخطر قبل سنوات. طالبت أن يفتح حوار موسع مع الفاعلين التاريخيين بغية الوقوف عند الصدمات التاريخية التي لا تزال تعتمل في عمق لاوعي المجتمع الفرنسي. لكن لا أحد من السياسيين التفت إلى هذا النداء أو اهتم به. كل ما يشغل بال فرنسا هو ما هو آني أي تسابق بهلاوانيين على الرئاسة! عبد الله بن مليح : جيل انعدام الهوية والظاهرة الاستعمارية كان من المتوقع أن ينفجر الوضع على هذا المنوال. كنا نتوقع منذ 25 سنة أن تلتهب الضواحي واليوم، تضافرت كل العناصر الموضوعية ليشتعل الفتيل. وبحسب تصريحات المسؤولين يتبين أن أوليات الحكومة الفرنسية لا علاقة لها بوضعية شباب الضواحي. إن تصورهم لا يتوافق مع وضع شباب الضواحي الامر الذي نجم عنه إنتاج فضاء مستقل في المجال اللغوي، إذ يتكلم هؤلاء الشباب لغة خاصة بهم، في المجال الموسيقي، أو في مجال اللباس... ابتكروا إذاً هوية مستقلة بهم هي بمثابة رد فعل على انعدام الهوية التي كان من المفروض أن يصنعوها في ظل اندماجهم المحتمل في المجتمع الفرنسي. نحن اليوم أمام ظاهرة إنعاش الذاكرة الاستعمارية . نقرأ في طيات الأحداث الجارية نوعا من إعادة تحريك هذه الذاكرة الاستعمارية، إذ يشعر شباب الضواحي على رغم جنسيتهم الفرنسية أنهم يتموقعون على هامش المجتمع الفرنسي، وعليه يتم تحريك مسلسل النبذ الذاتي الذي بموجبه يشعر هؤلاء أنهم أكباش فداء المجتمع، على رغم مستواهم الدراسي الذي يفوق الباكالوريا بأربع أو خمس سنوات. المهن التي تقترح عليهم، مثل حراس أمن في المتاجر الكبرى، هي تحقير لهم ولأصولهم. رشيد قريشي : احتجاج المحاصرين التمرد بما هو رد فعل حيال الفشل الذريع للدولة في مجال"الاندماج"، ليس سوى محصلة سياسة نبذ لهؤلاء الشباب المغاربيين وما رافقها من تصرفات قسرية تمييز من خلال البشرة، تمييز في فرص العمل بل اغتيالات عنصرية ، في حق أشخاص يحملون مع ذلك الجنسية الفرنسية. ومن الغريب أن هذه الأحداث التي توقعها الجميع منذ سنوات كان من المنتظر أن تقع من قبل. بعد أسبوعين من القلاقل ، لاحظنا رد فعل بطيء للمؤسسات. إننا أمام تعفن للوضع: لم نلاحظ أي رد فعل عملي في الساحة. أما عائلات الضحايا فهي مطالبة بالانتقال إلى قصر الإليزيه لعقد اجتماع مع المسؤولين وليس العكس. كما أن الجهات المسلمة، مثل المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، لم يصدر عنها موقف واضح وصريح. لو تعرض كنيس يهودي لأي أذى، لكنا سمعنا احتجاجات كل يهود فرنسا والعالم. مرة أخرى يقدم المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية البرهان على أنه لا يمثل مصالح المسلمين، بل مصالح الدولة الفرنسية. هذه الفتن هي محصلة واقع بائس من إلغاء شرطة الأحيا وإلغاء مساعدات كانت تمنح للجمعيات والتنديد بدور الوسطاء... كل هذه العوامل هي برهان على رغبة في إحكام الغيتو على هذه الشرائح. وهكذا فإن الشعور بالنبذ، والعنصرية المكتومة والإذلال اليومي لهذه الشرائح هو ما يفسر اشتعال الفتيل في الضواحي. وإن لم تقدم حلول ناجعة وسريعة، فإن الوضع قد يعرف تردياً سريعاً شبيهاً بما عرفته الجزائر أيام حرب التحرير: تطبيق لقانون طوارئ بموجبه يراقب بل يحاصر الشباب كما تمت في الماضي محاصرة الأهالي العرب.