بعدما تم"استكتابه"غير مرة من قبل العديد من الأطراف لعديد آخر من الأهداف والغايات والتوجهات، صدر أخيراً التقرير بقلم مؤلفه الفعلي ديتليف ميليس. وحيال حالات الاستنفار على التوتر العالي والضغوط والحذر بلغ الإفراط في المبالغة لما سيتضمنه حد الرعب والتخويف من مغبة الوقوع في المطب الكبير، لذا بدا ما ورد في هذا التقرير وكأنه من عاديات الأمور بالإضافة إلى التسريبات والإيحاءَات ولإيماءَات، بدت حالة انتظار التقرير هي الحدث وليس مضمون هذا التقرير بحد ذاته وما ورد فيه... وعليه نقول بأننا في مرحلة ما بعد نشر تقرير القاضي ميليس مقارنة بالمرحلة التي سبقته، وحالة الهلع التي أسبغت على تلك المرحلة. لذا نحن نعايش الآن حالة تداعيات نشر تقرير المحقق الدولي بكل ما له وما عليه وسط أجواءَ سمتها الكبرى شدة الحذر مما هو آت وتفاعلاتها على غير صعيد وفي أكثر من اتجاه مما ظهر حتى الآن والمنتظر أن يحدث. ويمكن قراءَة تقرير ميليس بأكثر من طريقة وأسلوب كالاكتفاءً مثلاً بالإطلاع على الموجز من دون التدرج إلى التفاصيل، أو اجتزاء التفاصيل وقراءَة مقاطع مبتورة ومعزولة عن غيرها. أما قراءَ هذا التقرير فهم كثر ويتوزعون إلى نوعيات مختلفة. فهناك من قرأ ما كان يرغب في أن يتضمنه التقرير شخصياً. وهناك من قرأ ما كان لا يرغب في قراءَته أو من قرأ ولم يجد ما كان يود العثور عليه بسبب أو لآخر. ومن هذا المنطلق يمكن القول أنه كان هناك أكثر من تقرير،وهذه التعددية تعكس تعددية الآراءَ في المجتمع اللبناني خاصة لتشمل جمعية القراءَ على الصعيدين الإقليمي والدولي. سؤال: هل برزت الحقيقة التي كان ينتظرها الجميع عبر صدور تقرير ميليس؟ كلا. ذلك أن الطريق إلى بلوغ الحقيقة المنشودة في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري مرحلة شاقة ومضنية وقاسية وعملية مركبة وبالغة التعقيد ويبدو أن القاضي ميليس يعتمد أسلوب"جرعة جرعة"على غرار سياسة"الخطوة خطوة"، بمعني عدم تظهير صورة الحقيقة دفعة واحدة، هذا لو توفرت لديه كل الأدلة والقرائن والمعطيات المعززة بإفادات شهود لهم صدقية عالية الدرجات والبعيدة عن الشبهات. لقد اعترف القاضي ميليس وهو يعرض تقريره على مجلس الأمن الدولي بأنه تعرض وفريق العمل الذي يعاونه في مهمته إلى"تهديدات جدية". وأحد الأسئلة الجوهرية بعد اليوم هو: من باستطاعته حماية ديتليف ميليس المولج بحماية حقيقة والكشف عنها وهي المهمة التي انتدب من أجلها من التهديدات التي تتربص به؟! كشف التقرير عن بعض الخبايا وعن بعض"الأسرار العلنية"لكنه زاد من ضبابية الموقف العام التي تسهم في حملة تداول العديد من الأسئلة أكثر مما تقدم من إجابات على بعض علامات الاستفهام الملحة لكشف اللغز الكبير. وفي هذا المجال قول لافت للبطريرك نصرالله صفير بعد عودته من الفاتيكان إلى هناك يحاك أن عندما سئل عن رأيه في ما يجري أجاب:"في هذه المرحلة لا نعرف من هو المتهم ومن هو البريء". وأضاف على طريقته تلميحاً بأن ما جرى ربما حدث عن قصد أي الا يتضمن التقرير كل شيء دفعة واحدة وعلى طريقة مبدأ"الغموض البناء". وفي عملية التقويم العام لهذا التقرير أن فيه العديد من نقاط الضعف والحلقات الكثيرة المفقودة ،وما فترة تمديد أكمال مهمته حتى الخامس عشر من كانون الأول ديسمبر المقبل إلا محاولة للمضي في مسيرة البحث عن الحقيقة، علّ تطورات الأيام والأسابيع المقبلة تشكل فرصة لاستكمال دوره. وحرص في تقريره الإشادة بدور القضاءَ اللبناني والمساعدة التي تلقاها من جمع المسؤولين على كافة المستويات، وكأنه يوهي أن بإمكان العدالة اللبنانية المضي في ممارسة دورها في المرحلة القادمة لاستكمال مراحل التحقيقات. ومرة أخرى يفرض التساؤل نفسه: كيف يمكن تأمين حياة الباحث عن الحقيقة والمؤتمن على الكشف عنها. واستطراداً من يحمي رجالات القضاءَ اللبناني من قبل الأيادي الآثمة التي عبثت بالأمن اللبناني والتي فعلت ما فعلته. وهنا يبرز الحديث عن طريقة محاكمة المتهمين حتى الآن: هل عن طريق القضاءَ اللبناني أم المطالبة بمحكمة دولية، أو بمحكمة مختلطة تضم قضاة من لبنان ومن دول أخرى. لقد بات معلوماً لدى الجميع أن لبنان يحكم بالمجهر الدولي، فبين القرار 1595 الخاص بتشكيل اللجنة الدولية للتحقيق بحادثة الاغتيال إلى قرار دولي آخر رقم 1559 الذي يدعو إلى تجريد الميليشيات من أسلحتها، والمقصود طبعاً"حزب الله"وسلاح المخيمات الفلسطينية. ونظراً الى تداخل الأمور وتشابكها ببعضها البعض تتزايد موجة المطالبات بضرورة فصل مسارات القرارين عن بعضها البعض.ذلك أن والربط بين القرارين عملية تلقائية، خصوصاً مع نشر تقرير الموفد الدولي الآخر تيري رود لارسن والذي أشار بوضوح إلى استحالة"التعايش"بين مشاركة المقاومة حزب الله في العمل السياسي وفي الحكومة القائمة حاليا، والمضي في حمل السلاح. وفيما يحارب لبنان على أكثر من جهة في هذه الأيام التعامل مع تحقيقات ميليس إلى ضرورة التعاطي مع مهمة تيري رود لارسن، برز كلام واضح للرئيس اميل لحود في جلسة مجلس الوزراءَ الأخيرة الخميس الفائت رداً على مضمون تقرير المبعوث الدولي حيث قال:"لديهم وجهة نظرهم ولدينا وجهة نظرنا... هم متمسكون بوجهة نظرهم ونحن متمسكون بوجهة نظرنا، والبند المتعلق بالمقاومة نكرر القول أنه يدخل في إطار الحوار الداخلي بين اللبنانيين". ويمضي الرئيس اميل لحود إلى القول...". إن أهم شيء في هذه الفترة الدقيقة هو وحدة اللبنانيين لأن ثمة أفخاخاً خارجية لا يريد أصحابها أن يروا لبنان مرتاحاً ومستقراً وآمنا ويحاولون تحريك الواقع السياسي وربما الأمني على هذا الأساس. وهذا الكلام الرئاسي ليس نابعاً من فراغ عندما نلاحظ تسارع الأحداث على أكثر من جهة خاصة في ما يتصل بتحركات وتحرشات على الحدود اللبنانية - السورية، ويعطف عليها انتفاضة بعض الفصائل الفلسطينية المقيمة في المخيمات في لبنان وتحديداً جبهة أحمد جبريل، وجبهة أبو موسى والتوابع من الأصول والفروع والتي جرى استنفارها في الأيام الأخيرة وفق سيناريوهات غير بريئة على الإطلاق. وهذا يطرح السؤال المحوري: ما هو مصير السلاح الفلسطيني المكدس في لبنان بداخل المخيمات أو في خارجها؟ واستطراداً: ماذا عن موجات التسلل إلتي نشطت عبر الحدود السورية - اللبنانية في أكثر من موقع وأكثر من اتجاه؟ وكان يوم القدس الجمعة مناسبة بالغة الأهمية وفي هذا التوقيت بالذات مع الاحتفال الكبير الذي إقامة حزب الله بمناسبة يوم القدس. لقد كان العرض هاماً ورسالة إلى أكثر من عنوان، وكان الأمين العام السيد حسن نصرالله"رئاسياً"في خطبته بمعني التمرس أكثر فأكثر القيادة وسلاح المقاومة وواقع واضح لمن يريد أن يعلم قوة حزب الله خاصة على الصعيد الدولي. وهكذا يبدو من استعراض سياق الأحداث في الآونة الأخيرة تناسل أزمات فرعية عن الأزمة الأساسية،ومن ذلك طرح إشكالية ترسيم الحدود بين لبنانوسورياً، وشعور النظام في سورية بأن المواقف الأميركية والفرنسية بصورة خاصة تحمل الكثير من"الاستهداف"حالات التشنج والتصلب وممارسة أقصى الضغوط على نظام الدكتور بشار الأسد والذي وضعه تقرير ميليس بالإضافة إلى قرائن أخرى في موقف بالغ الصعوبة من حيث التعاون المطلق مع لجنة التحقيق الدولية ومعاقبة المرتكبين أو المشاركين في جريمة 14 شباط فبراير من العناصر السورية التي وردت بعض أسماءَها في تقرير ميليس رغم عملية شطب هذه الأسماءً من بعض نسخ التقرير الذي قدم لمجلس الأمن. ونكتب هذه السطور ومجلس الأمن الدولي يعّد لعقد جلسته غداً الاثنين لدراسة استصدار قرار نشأ حوله اختلافات في الآراءَ والمواقف حتى بين الدول المتحالفة. والخلاف يدور حول درجة الضغط الذي يجب أن تمارس على سوريا لمعاقبة المتورطين بجريمة الاغتيال بعد التثبت الفعلي من ذلك بدلائل قاطعة. ورغم أن الخيار العسكري ليس مطروحاً كبديل أول في هذه الفترة،فأن واشنطن وباريس ولندن لن تضيع هذه الفرصة في"الانقضاض"السياسي على النظام السوري، وهي صيغة تصاعدية إذا لم تتجاوب دمشق كما يجب أو كما هو مطلوب. وهكذا نجد لبنان بشؤونه وشجونه مالئ الدنيا وشاغل الناس! عالمياً. هل يجب أن نخشى من هذا الاهتمام الدولي وخاصة الأميركي منه أو نفرح له وبه أم نخشى على أنفسنا منه ومن مضاعفاته وذيوله لجهة المضي في استخدام لبنان كساحة مستباحة لصراعات إقليمية ودولية على أرضه؟ وإذا كانت جريمة الاغتيال زلزالاً حدث ليقوض الكثير من المعطيات القائمة سواءَ على الصعيد اللبناني أو الإقليمي، فإن تداعيات هذا الحدث شكلت أو مطلوب منها أن تشكل امتداداً لهذا الزلزال من هزات وخضات ارتدادية تطال المنطقة بشكل أو بآخر وجب متابعة ما يجري من تحولات ومتغيرات لبلوغ معرفة دوائر هذه الزلزال وإلى أين يظل مداه. بالنسبة إلى الوضع اللبنانية الداخلي فإن هذا الوضع برمته لا يزال في غرفة العناية الفائقة لأن كل ما جري على صعيد التحقيقات بهذه الجريمة لايزال في نقطة البدايات وليس في مراحل النهائيات. وهنا مكمن الخطورة والمتمثل بتعزيز وتقوية الجبهة الداخلية واللبنانية وصولاً إلى تكريس صلابة هذا الموقف وبناءَ جهاز مناعة بامكانه أو باستطاعته القدرة على مواجهة المكائد التي تتربص بالوطن حاضراً ومستقبلاً، حيث يبدو بوضوح وكأن المنطقة تخضع لعمليات استدراج لأكثر من صراع، ولأكثر من منطقة متفجرة. أما بالنسبة إلى سورية فإن شؤونا مصيرية مرشحة للحدوث وهذا رهن معرفة معالم أسلوب التعامل مع هذا الوضع البركاني. فأما أن تقوم دمشق بعملية استدراكية لتحجيم الضرر وتحديد الخسائر لمرحلة أكثر صعوبة آتية إليها من غير اتجاه وبأكثر من وسيلة أو أسلوب حيث أن مناورات الماضي لم تعد، تواكب أساليب العصر في التعامل مع العالم الخارجي أو مع دول الجوار وفي طليعتها لبنان وتعمل دول محورية في المنطقة لتجنب سورية الخطر الأكبر مبارك في دمشق ومشاورات لا تنقطع مع القيادة السعودية. وفي المقابل على المطالبين بتقويض هذا النظام أو ذاك أدراك حقيقة البدائل المطروحة أو المتداولة. ومع مرحلة تحديد المسؤوليات وإيضاح: من مع من؟ ومن ضد من؟ ينبغي ضرورة التنبه إلى تحمل ما ستفرزه الأحداث الجارية من عمليات التغيير والتطوير حتى لا يتكرر السيناريو العراقي. إضافة إلى ذلك، أن ما يتحكم في هذا العالم هو مبدأ المصالحات والمقايضات وإرساء قواعد متوازنة تبنى عليها العلاقات بين الدول. وبالعودة إلى موقف لبنان الرسمي الذي تم التعبير عنه خلال الساعات القلية الماضية يفهم منه وكأنه مناداة بشعار لكم لبنانكم ولنا لبناننا،وضمير المخاطب هو عائد إلى الولاياتالمتحدة عبر الأممالمتحدة. جميل. لكن على لبنان أن يعرف حجم دوره البالغ الدقة والحساسية في هذه الأيام بمعزل عن غزل سياسي من هنا أو التريث على الكتف من جهة أخرى. وفي الكلام الأخير يصح الاستشهاد بحكمة من الأمام الشافعي تختزل أبعاد الحاضر الأليم والمستقبل الأكثر ظلمة وظلاماً، ربما، وهي التالية: هذا الموقف على خطأ لكنه يحتمل بعض الصواب وهناك صواب لكنه يحتمل الخطأ أيضاً. كاتب لبناني.