تسلم مجلس الأمن الدولي اليوم الجمعة تقرير القاضي الألماني ديتليف ميليس، رئيس"اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق في العمل الارهابي"الذي أودى بحياة رئيس الحكومة اللبناني رفيق الحريري ورفاقه في 14 شباط فبراير. هذه الخطوة بداية لعملية قضائية وسياسية وديبلوماسية ستشكل سابقة مذهلة في تاريخ المنطقة العربية وفي مستقبلها. ما يجب التنبه له هو صيانة الاستعداد الدولي، والعربي ايضاً للمضي في خطوات الاجماع على دعم نتائج التقرير وعلى عدم توفير درع الحماية من العقاب والمعاقبة والمحاكمة لكل من لعب دوراً في الجريمة، فرداً كان أم مؤسسة أم دولة. مثل هذا الصون يتطلب حكمة سياسية محلية ترفض الانسياق الى الفتنة، كما يتطلب لجماً لأي رغبات أميركية في استخدام عنصر سورية في القضية اللبنانية للتأثير في عنصر سورية في القضية العراقية. ويتطلب بالضرورة الالتزام بالخيارات"المدنية"المتاحة في الساحة الديبلوماسية والسياسية والاقتصادية بابتعاد تام عن الخيارات"العسكرية". تداخل العناصر الفلسطينية واللبنانية والسورية في تقريرين دوليين يقتضي التوقف عند هذه الملفات في الحسابات الاقليمية والدولية. فمن المتوقع ان يتضمن تقرير مبعوث الأمين العام المكلف مراقبة القرار 1559، تيري رود لارسن، إشارة الى تسليح سورية لفصائل فلسطينية في لبنان، الى جانب عرضه التعاون بين رئيس حكومة لبنان فؤاد السنيورة ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في معالجة ملف الفلسطينيين في لبنان. وفي تقرير ديتليف ميليس، هناك بطبيعة الحال عنصر سوري أساسي له علاقة ليس فقط بعملية التحقيق في اغتيال الحريري وانما ايضاً بما يلي عملية التحقيق التي اطلقها القرار 1595. ان يكون في موقع القرار اللبناني رجل مثل السنيورة، وفي موقع القرار الفلسطيني رجل مثل عباس، في مرحلة بهذه الأهمية للشعبين الفلسطيني واللبناني، صدفة جميلة ومشجعة. فكل من الرجلين يتسم بالوعي والعملية والحكمة والالتزام والصدقية الاقليمية والدولية. وقد تصرفت السلطة الفلسطينية منذ مطلع ايلول سبتمبر بغاية الحزم والجرأة بعدما توافر لديها محضر ما حدث في اجتماع في دمشق بين الرئيس السوري بشار الأسد وقيادات فصائل فلسطينية. وحسب مصادر مطلعة على ما حدث، تجاوز الحديث سحب"الخطوط الحمر"عن الاعتبارات والقيود السابقة للدعوة الى"الكفاح المسلح"، ما أدى الى تحرك سريع لقيادة"فتح"لاستدراك المخاطر المترتبة على ذلك الاجتماع في دمشق. ونتيجة إدراك القيادة الفلسطينية معنى استخدام الورقة الفلسطينية في لبنان بإفرازاتها المدمرة، اتخذت هي المبادرة لمنع مثل هذا التطور وفعلت ذلك بأكثر من اجراء. وبين النتائج هو التفاهم الذي توصل اليه محمود عباس وفؤاد السنيورة أثناء اجتماعهما في باريس هذا الاسبوع والذي يتضمن عنصر التمثيل الفلسطيني في لبنان الى جانب الاتفاق على ان لا مجال لاعفاء السلاح الفلسطيني في لبنان من تنفيذ القرار 1559 الذي طالب بتفكيك كل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية. أهمية التمثيل الفلسطيني الرسمي في لبنان متعددة الجوانب، ابرزها: أولاً، ان للفلسطينيين في لبنان مرجعاً فلسطينياً يتمثل بالسلطة الفلسطينية بدلاً من افتراض ان مرجعهم منظمة هنا أو فصائل هناك. وهذا يضعف اللجوء التلقائي والاعتماد الاوتوماتيكي على الفصائل ومن ضمنها تلك التي تلبي أوامر دمشق وتخضع لرغبات القيادة السورية. كما ان التمثيل الفلسطيني الرسمي في لبنان يعطي فتح مجالاً للعناية بالفلسطينيين ولقطع الطريق على الفصائل المتطرفة مالاً ونفوذاً. وثانياً، ان التمثيل الديبلوماسي المتبادل، وان لم يكن بالمعنى التقليدي للتبادلية، يرسخ خطوة أخرى فائقة الأهمية في مسيرة استقلال القرار السياسي اللبناني عن سورية، انه عبارة عن تفكيك مقولة"التلازم"بين المسارين اللبناني والسوري في العلاقة مع السلطة الفلسطينية. ما يجدر بالإدارة الاميركية ان تفعله هو تصحيح سياساتها نحو"السلطة الفلسطينية والحقوق الفلسطينية بما يؤدي الى ضمان استمرار وتقوية العلاقة اللبنانية - الفلسطينية الجديدة. فهذا استثمار ليس بالضرورة في عزل سورية، وانما في تطويق الفصائل الفلسطينية المتطرفة التي سبق وافترضت انها تمتلك وزناً تخريبياً خارقاً للعادة. ومثل هذا الاستثمار يتطلب جرأة أميركية على تحدي الحكومة الاسرائيلية لاثبات الجدية في العزيمة على قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة بفاعلية. فإذا استمرت واشنطن في التلكؤ وفي حماية اسرائيل من استحقاقات السلام والخيار التفاوضي فإنها تغامر ليس فقط بتدهور على الساحة الفلسطينية، وانما ايضاً بدفع لبنان الى خارج الانجازات التي حققها حتى الآن، وكذلك تغامر بإطالة الأوضاع المتردية على الساحة العراقية. فما يجري على الساحات اللبنانية والسورية والفلسطينية والعراقية الآن، وبالذات بعد تقرير ميليس سيكون عبارة عن مرحلة"شد الحبال"وتصادم الاستراتيجيات، ولذلك، على الادارة الاميركية ان تننبه كثيراً وان تتحلى بكثير من الحكمة. عليها أولاً، استبعاد توجيه الضربات العسكرية لسورية إما لتؤثر في مواقفها نحو العراق او لتضغط عليها من أجل لبنان. فالخيار العسكري ينسف ما تم انجازه حتى الآن، خصوصاً لجهة حشد المواقف العربية المساندة كلياً للتحقيق الدولي ولاجراءات مجلس الأمن في اطار الديبلوماسية او العقاب. فأي تسرع الى عمل عسكري اميركي ضد سورية قد ينسف قاعدة الاجماع المتوافرة في مجلس الأمن وقد ينسف معها الاستعداد العربي للمضي في حجب الغطاء العربي عن دمشق والمضي في التمسك بالمرجعية الدولية. أيضاً، على الإدارة الاميركية فصل الموضوع اللبناني عن الموضوع العراقي عندما تتحدث عن سورية. فمن الخطأ استخدام الملف اللبناني من أجل الملف العراقي لأسباب عدة، أهمها اختلاف الملفين اصلاً جملة وتفصيلاً. العراق كان عبارة عن قرار أميركي - بريطاني انفرادي بشراكة مع عراقيين في المهجر لقلب نظام بأي ذريعة. ولبنان عبارة عن تحرك اميركي - فرنسي - أوروبي داخل مجلس الأمن بقرارات تشكل سوابق بشراكة مع حركة لبنانية وطنية داخلية هدفها الاستقلال الفعلي وانهاء الوجود العسكري والنفوذ السوري في لبنان والتعرف الى الحقيقة في جريمة اغتيال سياسي وعمل ارهابي. أي خلط بين الملفين يؤذي ملف لبنان. فإذا ارادت واشنطن ان تشير الى نجاح نادر في سياساتها اليوم، عليها ان تحرص على صيانة ملف لبنان من ملف العراق. وعليها ان تتوقف عن كلام إطاحة نظام بشار الاسد لأنه في حال سقوط هذا النظام، سيكون ذلك بسبب اجراءات سورية وليس بسبب قرارات أميركية مبطنة ومسبقة. وفي بعض الأحيان، مفيد جداً عدم التسرع الى زعم الفضل في غير محله، بل مؤذ جداً القيام بالعكس. الأمر الآخر الذي على الادارة الاميركية تجنبه هو تحويل المسألة الى معركة أميركية - سورية بدلاً من تطورها الى أزمة بين سورية ومجلس الأمن. لذلك فمن الضروري للديبلوماسية الاميركية في نيويورك ضمان دعم روسياوالصين والجزائر وغيرها من الدول المهمة في مجلس الأمن قبل التحرك بمشاريع قرارات. عليها وعلى الحكومة الفرنسية ايضاً تجنب لعبة تؤدي الى ترك الانطباع بأن هناك امتعاضاً فرنسياً من الديبلوماسية الاميركية او تسريب أميركي لتوريط الديبلوماسية الفرنسية. فالقرارات التي ستطرح في مجلس الأمن تتطلب استراتيجية متماسكة ومبادئ مبسطة وكذلك استمرار العمل الأوروبي - الأميركي المشترك. ولأن تقريري ديتليف ميليس وتيري رود لارسن مجرد بداية لعملية معقدة ذات محطات، ان تجنب الاخطاء أمر في غاية الأهمية بقدر أهمية التماسك في المواقف والحزم في الرسائل الى جميع المعنيين. الديبلوماسية الفرنسية بدورها مطالبة بالأخذ على محمل الجدية امكانات تعطيل استراتيجياتها نحو الملف اللبناني - السوري إذا اخطأت التقدير، أو إذا انساقت وراء اندفاع أميركي في غير محله، أو إذا خسرت الوزن الاميركي الفائق الأهمية في المرحلة المقبلة كما في المرحلة السابقة التي أوصلتنا الى حيث نحن الآن. فلا مجال لنفي الفضل الاميركي والفرنسي في الملف اللبناني، إذ من دون العلاقة بينهما ومن دون تصرفهما داخل إطار الشرعية الدولية ومن دون عزمهما المشترك على تنفيذ القرارين 1559 و1595، لما وصل لبنان الى التخلص من سيطرة القوات الاجنبية والسلطات الأمنية الموالية لها عليه، ولما تمكن من الكشف عن الحقيقة وعمن وراء اغتيال رئيس حكومته السابق بسبب دوره في استصدار القرار 1559. المسؤولية تقع ايضاً على الصينوروسيا والجزائر وغيرها من الدول الاعضاء في مجلس الأمن التي عليها الآن ان تفكر بصورة غير معتادة نظراً الى الظروف غير المعتادة التي أدت بمجلس الأمن الى تكليف لجنة ميليس بمهمة لا سابقة لها وبصلاحيات لا سابقة لها. فهذه اللجنة وليدة مجلس الأمن وهو مطالب باتخاذ الاجراءات الضرورية المتطابقة مع الاستنتاجات التي توصل اليها ميليس وفريقه. الحكومة اللبنانية تريد تمديد ولاية ميليس لاستكمال التحقيق بجوانبه الأخرى وللمساعدة في تحضير ملفات المحاكمات التي على القضاء اللبناني تحضيرها حتى وان كانت المحاكمات ستعقد خارج لبنان. هذه الحكومة في حاجة الى معونة الأممالمتحدة والاسرة الدولية في اكثر من مجال، من التهيئة لقانون انتخابي جديد الى تمكين الجيش اللبناني لدرجة يتمكن بها من السيطرة على كامل الأراضي اللبنانية. فالفترة المقبلة صعبة ومعقدة وقد تكون خطيرة، انما ما اتخذته حكومة السنيورة من قرارات حتى الآن يبشر بقدرتها على كسب الدعم الدولي لاجراءات لاحقة قد تفرضها الظروف والحاجة. فهذه بداية العملية وما يستنتجه ديتليف ميليس في تقريره فيه الكثير من الادانات، المحطة المقبلة محطة العقوبات والمحاكمات، إنما يجب بالضرورة ان تبقى الخيارات الأولى مدنية وليس عسكرية في هذا المنعطف.