انه العالم بأسره، مسرح كبير، يؤدي فيه الجميع أدوارهم على نحو شبه آلي. لاعبون كبار، وآخرون صغار، على هذا المسرح. لاعبون أقوياء، وآخرون ضِعاف، على هذا المسرح. الا ان الجميع يؤدون أدوارهم على نحو شبه آلي، مدفوعين بقوى أو بآليات خفية أو كامنة، قد يكون من الممكن الكشف عنها، الا ان من غير الممكن لجمها أو الوقوف في وجهها أو معاندتها. وقد يحسب اللاعبون الكبار أو الأقوياء أنهم يملكون الكثير أو القليل من أوراق اللعب، في هذه المنطقة أو تلك من عالمنا الذي بات صغيراً بسببٍ من التقدم العلمي ومن ثورة الاتصالات. قد يحسبون ذلك، وقد يكون من الصحيح انهم يملكون ما لا يملكه اللاعبون الصغار أو الضعاف وانهم يستطيعون التحكم أو السيطرة هنا أو هناك، ازاء لاعبين أقل منهم قوة أو دراية. الا انه من قبيل التوهم، أن يحسب هؤلاء اللاعبون الأقوياء انهم احرار تماماً، أو أنهم يملكون تماماً حرية اتخاذ القرارات. انهم - هم أيضاً - لا يملكون سوى تأدية أدوارهم التي تأهلوا لها، وان كان في هذه التأدية ما يوحي بأنهم مبادرون، أن قادرون على فرض ما يريدون. قد يكون المشهد العالمي اليوم نموذجياً في قدرته على اثارة التأمل في موضوع القوى والمصالح التي تحرك العالم، أمماً ودولاً وشعوباً وأحزاباً وأفراداً... فالقوة الأميركية تسعى الى الايحاء بأنها وحدها قابضة على مصير العالم، متحكمة به، ولا تقبل ان يشاركها في ذلك أي طرفٍ آخر. ولما كان العالم قد أصبح صغيراً فقد بات في امكان هذه القوة أن تتدخل في كل مكان منه، حتى ليبدو للجميع أن كل حدثٍ، كبيراً كان أو صغيراً، هو من تدبير هذه القوى العظمى، أو على الأقل يخضع لتوجيهها. ترى، هل نقول - استناداً الى ما نراه في واقعنا الراهن - ان القوة الأميركية تملك اليوم القدرة على التحكم بأمور غيرها؟ وقبل ذلك أو بعده تُرى كيف تملك أمر نفسها؟ الاجابة عن السؤال الأخير لا يمكن ان تكون سوى ضربٍ من التقدير أو التصور. وقد تصدى لها على نحو شعري لماح، أي على نحو غير مباشر، الكاتب والمسرحي السويسري فريدريك دورنمات 1921 - 1990 في مسرحيته المعروفة"علماء الفيزياء"، التي يتحدث فيها عن مأساة العلم الذي يجد نفسه - من حيث لا يدري ولا يشاء - في خدمة المصالح الظاهرة أو الخفية، فلا يصب دائماً في مصلحة البشرية، وانما قد يؤدي الى انتاج المشكلات والأخطار الكبيرة. في المسرحية، يتملك الجنون علماء الفيزياء الذين يحسبون أنفسهم في البداية قادرين على اتخاذ القرارات التي توفر خيراً للبشر، فإذا بهم يكتشفون عجزهم عن التحكم بمسار عملهم، فيتملكه الخوف من كونهم يساهمون في انتاج وسائل الفتك والدمار. كأنما أراد دورنمات ان يقول في مسرحيته هذه ان هنالك آليةً جهنميةً تتحكم بمسيرة التطور العلمي، فتضع أهداف العلم الخيِّرة في هامش ثانوي. واذا كان العلم لا يتحكم بنفسه، فربما السياسة أيضاً لا تتحكم بنفسها، بل الأرجح ان العلم والسياسة يعملان ضمن آلةٍ كبرى خفية، تدور وفقاً لاتجاهات المصالح المادية التي تمثلها الشركات العملاقة التي تنتج المواد الاستهلاكية على اختلافها، ومن ضمنها أنواع الأسلحة التي لا تتوقف هي الأخرى عن التطور، لكي تظل أسباباً - قد تكون اضافية - للحروب التي تتهيأ ظروفها من مرحلة الى مرحلة، والتي لم تجد البشرية حتى الآن أي مخرج للهروب من حتميّاتها الكارثية. هل نتذكر ابن خلدون فنقول ان هنالك منطقاً عاماً لصعود الدول وهبوطها؟ وهل نقول - انطلاقاً من ذلك - ان المنطق نفسه يقف وراء تشكلات القوى العالمية الراهنة؟ وهل نقول اعتماداً على ابن خلدون ودورنمات ان هذه القوى، وعلى رأسها الولاياتالمتحدة الأميركية تلعب اليوم على المسرح العالمي أدوارها التي تهيأت لها وفقاً لمنطق صارم، هو الذي يحكم كل تطور في العلم وفي السياسة وفي مستويات العيش، وهو الذي يحكم تالياً جميع أنواع الصراع التي نشهدها هذه الأيام؟ هل نقول استتباعاً ان القوى الصغيرة أو الضعيفة تعاني من تحكمين اثنين: تحكم القوى الكبيرة التي تستغلها أو تتلاعب بها وفقاً لمنطق العلاقة بين القوي والضعيف، وتحكم المنطق العام الذي أتينا على ذكره، والذي لا تُفلتُ من الخضوع له أي قوة، كبيرة كانت أو صغيرة؟ انه اذاً مسرح كبير، عالمنا الذي نعيش فيه. وكل لاعب يؤدي دوره الذي لا يختاره، وان كان يتناسب مع حجمه وقوته. المسرح الكبير، الذي هو العالم بأسره، يحظى اليوم بمزيد من الاضاءة. بل أكثر من ذلك، هو اليوم مكشوف ليلاً ونهاراً، بلا حجب أو ستائر، وذلك بفضل وسائل الاعلام المتطورة، التي تقدم لنا صوراً لما يجرى لحظة بلحظة. هل تساعد وسائل الاعلام - اذ تُسلط الأضواء على تفاصيل ما يجرى - في فهم الوقائع وفي فهم أدوار اللاعبين على المسرح العالمي؟ قد يكون من المناسب القول انها تقرب لنا الصور وتتيح لنا أن نرى بأبصارنا رؤيةً واضحةً جداً، الا انها لا تساعدنا كثيراً على الفهم، بل غالباً ما توقعنا في الحيرة والتشوش. ذلك ان وسائل الاعلام هي أيضاً محكومة بمنطق المصالح والأدوار المهيأة أو المرسومة. ثانيةً نتذكر ابن خلدون ونقول: كم كانت كبيرةً عبقريته عندما تكلم على منطق تاريخي للأحداث، ولتبلور القوى، ولتصاعد الدول وانحدارها. كم كان عبقرياً في ما تراءى له، وهو ينظر الى مسرح لم يكن يحظى باضاءةً تذكر.