ماذا يفعل خيرت يان يانسن الان؟ عادت إلى السطح مُجدداً قضية هذا الفنان الهولندي الذي يُعَّد أكبر مزوّر للأعمال الفنية في القرن العشرين. فقد أصدرت المحكمة الفرنسية في مدينة أورليانز، في 2 آذار مارس الجاري، قراراً يقضي بإعادة"80"لوحة إلى"سيّد المزوِّرين"الذي أُلقي عليه القبض سنة 1994 وضُبِط في حوزته 1600 لوحة مزورة لعمالقة الفن في القرن العشرين من بينهم كارل أبل، كوكتو، كليمِت، ميرو، ماغريت، دالي، دوفي، شاغال، ماتيس، موندريان، بيكاسو، وغيرهم. وبعد سلسلة من التحقيقات المطوّلة التي استمرت قرابة ستة أشهر حُكِم على يانسن، وصديقته السيدة ألين فان بارين بالسجن سنة واحدة، كما مُنعا من دخول الأراضي الفرنسية مدة ثلاث سنوات تُحتسب بعد انتهاء المدة المقررة للسجن. خيرت يان يانسن كان يحمل اسمين مزورين، الأول هو يان فان دن بيرخن، والثاني يوهان وليام فان تونسيرن. وكانت لديه سبعة حسابات مصرفية بأسماء مزورة بين ألمانياوفرنسا. لاحقته الشرطة الهولندية خمس سنوات لكنها لم تستطع أن تجد له أثراً. وكانت سعادة الإنتربول كبيرة حينما تمكنت الشرطة الفرنسية من مداهمته في بيته الريفي النائي في Le Chaux جنوب مدينة بواتييه، وألقت القبض عليه وعلى 1600 لوحة مزيفة دفعتْ أحدهم للقول:"هذه اللوحات تكفي لأن تملأ متحف اللوفر!". لماذا كرّس يانسن أكثر من أربعين عاماً من عمره لتزوير الأعمال الفنية، وتقليدها، واستنساخها، وهو فنان متمكن من فنه، وقادر على الإبداع، والإتيان بما هو جديد، ومنسجم مع ذائقة النخبة والجماهير على حد سواء؟ شغلت به منذ إلقاء القبض عليه من قبل الشرطة الفرنسية في منتصف عام 1994، وفي أثناء سير التحقيق معه، وانتهاءً بمحاكمته، ومصادرة أعماله الفنية المزورة، وما أثارته من لغط كبير لأن محكمة أورليانز كانت تنوي" إبادة هذه اللوحات المزيفة" لكنها كانت تخشى أن يكون من بينها لوحات أصلية، فدرجة التقليد العالية فنياً كانت تربك الخبراء، وتضعهم في دوائر الشك والحيرة، مما دفع بالمحكمة الى أن تعيد" 80" لوحة فنية ليانسن، ولا نعرف مصير المتبقية الباقية من اللوحات المزورة. سيرته وُلِد خيرت يان يانسن في مدينة" والره" في هولندا عام 1943. كان مولعاً بالكتب الفنية منذ صغره، وقد ساعده في ذلك الولع الفني المبكر أن أباه كان مُحباً للفن، وغالباً ما يصطحبه في جولات فنية لزيارة المتاحف وصالات الفن التشكيلي. ويُذكر أنه في زيارته الأولى للمتحف الوطني في آمستردام أنفق مصروفه كله من أجل شراء صور لوحات للفنان الهولندي الكبير رمبرانت. هذا يعني أن ذائقته البصرية كانت مُستَنفرة منذ سنوات الطفولة. حينما أكمل تعليمه الثانوي قرر من دون تردد أن يتخصص في دراسة تاريخ الفن ليتزود بالمعرفة الفنية، ويفهم ما يدور حوله من حركات فنية واسعة اجتاحت أوروبا في القرنين الأخيرين. أثناء دراسته تاريخ الفن التقى مايكل بودولكه، وهو تاجر لوحات أميركي من أصل بولندي. ثم تعرّف الى ديوكه باكر، ويبدو أن هذا الشخص هو الذي زرع في ذهنه روح المغامرة لأنه كان ضابطاً سابقاً في الجيش، وقد أُطلق سراحه من السجن بعد أن تأكدت السلطات المعنية من"حسن سلوكه وسيرته"حيث تبنى الاثنان إدارة غاليري"موكم"في آمستردام. وفي هذا الصالون أقام يانسن بعض معارضه الفنية، واستقطب تشكيليين وكتب دراسات نقدية مهمة عن تجاربهم. في منتصف سبعينات القرن العشرين فضَّ باكر وبودولكه شراكتهما إثر خلافات حادة، مما دفع يانسن لأن يفتح صالوناً جديداً خاصاً به سماه"ياكوب". وبعد مدة فتح صالوناً ثانياً باسم"رام". ملأ هذا الصالون بلوحات لفنانين يمحضهم حباً من نوع خاص أمثال كارل أبل، وشاغال، وميرو. وفي هذين الصالونين تلقى يانسن الكثير من التشجيع، ولمس مشاعر الإطراء من أصدقائه تجار الأعمال الفنية، إضافة إلى إعجاب أصدقائه الفنانين بتجربته الفنية التي كانت تتفتح يوماً بعد يوم، مقرونة برؤية نقدية حادة، وذائقة فنية عالية تميّز بين الجيد والرديء بحساسية مرهفة وسريعة. وعلى رغم هذا الإعجاب الكبير الذي كان يتلقاه من زملائه التجار والفنانين غير أنه لم يحقق أرباحاً مادية تشجعه لمواصلة مشروعه الفني. فلا غرابة أن يكرّس بعض وقته للكتابة النقدية التي كانت تجد طريقها إلى النشر في مجلة"آلسفير"ذائعة الصيت في هولندا. غير أن الكتابة النقدية لم تضع حداً لمعاناته المادية التي بدأت تتفاقم، خصوصاً بعد أن عجز عن تسديد الإيجار الشهري لغاليري"رام"الذي يطل علىKeizersgracht القناة المائية الأكبر التي تشق جسد العاصمة آمستردام. لم يبع من لوحاته الفنية المعروضة أي شيء يذكر فكيف يسدد إيجار الغاليري، ويؤمّن حياته اليومية؟ قال يانسن:"نظرت حولي، نظرت إلى الغاليرهات المجاورة، وفكرت في النهاية بأن عليَّ أن أقدّم للناس ما يريدون". أول عمل زوّره يانسن كان للفنان كارل أبل ويعود إلى سنة1951. وكان مرسوماً ب"الغواش"وهو نوع من الألوان المائية السميكة. أحاط هذا العمل بإطار أنيق وعرضه في مزاد علني صغير. ظل يانسن جالساً في الصف الأخير من غرفة المزاد التي يرتادها نخبة من تجار اللوحات الفنية حتى لاحظ أن لوحته"المزورة"بيعت ب260 ألف جلدر هولندي، وكان الشخص المقتني هو المهندس المعماري الشهير آلدو فان آيك الذي صرّح في حينه بأنه رأى هذا العمل في أحد المعارض قبل ثلاثين سنة! بعد وقت قصير قدّم يانسن عملاً فنياً"مزوراً"آخر للبيع في مزاد علني في لندن. وكان العمل مطبوعاً في الكتالوغ تحت عنوان" طفل مع دمية" وموقّعاً باسم الفنان أبل. وقد أرسل مقتني اللوحة صورة للعمل الفني إلى كارل أبل، وحينما شاهدها أبل قال إنها لوحته. هذه اللوحة المرسومة بألوان مائية وصلت إلى سعر يفوق التقديرات. لم تصل لوحات أبل سابقاً إلى هذا السعر الذي عدّه أصحاب المزادات العلنية قياسياً. خلال ست سنوات امتلأت السوق بالأعمال المزورة لكارل أبل، وبدأ أصحاب الغاليريات تبادل التهم. وفي 1988 صادرت الشرطة مئات الأعمال الفنية، والطباعية المزوَرة لكارل أبل من غاليري MAT في آمستردام. وقد لفت هذا الغاليري انتباه المعنيين بالأعمال الفنية لأن الأسعار التفضيلية كانت مقتصرة على الأعمال الغرافيكية لكارل أبل. وبعد شهرين وجدت الشرطة أعمالاً فنية مزورة أخرى. وبالتعاون مع الإنتربول بدأت عملية اصطياد عصابة تزوير الأعمال الفنية. فقد أعلن روود أنخينهالست، صاحب غاليريMAT بأنه باع قرابة"100"لوحة مزورة لكارل أبل. كما بيعت أعمال كارل أبل المزورة في غاليريات أخرى داخل هولندا وخارجها، وتحديداً في باريس حيث اقتناها صاحب الغاليري من تاجر لوحات يُدعى هنك أرنست. اعتقل التاجر بينما ظل المزوِّر الحقيقي طليقاً. يانسن هرب من هولندا واستقر في فرنسا حيث ألقي عليه القبض مع صديقته ألين فان بارين سنة 1994. احتضان موهبة لعب أدريان فينيما، تاجر اللوحات الفرنسي المعروف دوراً مهماً في ترسيخ نزعة التزوير لدى الفنان خيرت يان يانسن، وساهم في الترويج لأعماله المزورة، وبيعها في العواصم الأوروبية لسنوات طوال مقابل شراكة رابحة، ناهيك المحفزات الأخرى التي شجعت يانسن على قبول هذا العرض المغري. فلقد وفّر له فينيما بيتاً رائعاً مبنياً على طراز القرن السابع عشر، وفي قرية نائية، وبعيدة من الأنظار حيث جمع له كل ما تحتاجه عمليات التزوير من مستلزمات من بينها آلات الطباعة النادرة المصنوعة بين 1920 و1950 مع عُددها الاحتياطية، وكميات كبيرة من الورق المصنوع في تلك الحقبة الزمنية أيضاً، ومجموعة كبيرة من الطوابع تحمل أسماء فنانين كبار أمثال بيكاسو، دالي، وماغريت وغيرهم. كما درّبه على تزوير الشهادات الأصلية التي حصل عليها فنانو القرن العشرين، وقام يانسن بإتقان توقيعات كل الفنانين الذين يزوِّر أعمالهم ليصل بالنتيجة إلى إنجاز أعمال فنية مزوَرة لا يستطع أن يميزّها عن الأعمال الأصلية سوى يانسن نفسه! هذا البيت الريفي الهادئ حوّله يانسن إلى ما يشبه المتحف العالمي الذي يضم أعمالاً غير تقليدية"مزورَة". انقطع يانسن للعمل الدؤوب الذي لا يعرف الراحة بين 1991 و1994. وبين أوان وآخر كان فينيما ينقل بعضاً من هذه الأعمال المزورة، ويبيعها في باريس وبقية العواصم الأوروبية مستوفياً حصته من هذه المبيعات وكانت النسبة التي يأخذها من اللوحة المزورة تراوح بين 500? إلى 1500 ?، وقد اعترف السيد يانسن بأنه باع قرابة 30 لوحة مزيّفة. ولكن البوليس لم يقتنع بهذا الرقم المتواضع، فقدرة يانسن على الإنتاج كانت غزيرة، ومعرفة فينيما بأسواق الأعمال الفنية كانت كبيرة ، لذلك فإن عدد اللوحات المزورة التي بيعت خلال تلك المدة كانت أضعاف الرقم الذي أعلنه يانسن. وقد أشار المزور الأكبر في القرن الماضي إلى أن "التعبيرية التجريدية"هي أسلوب إشكالي كونها من الأساليب العصية والصعبة والتي تحتاج جهداً كبيراً لفهم معانيها ودلالاتها في العمل الفني الواحد، ومن جهة أخرى فإن هذا الأسلوب ممكن أن ينفذه طفل لم يجتز عامه الرابع. غير أن يانسن جرّب خلال سنوات العزلة، والسنوات الأولى التي زوّر فيها الكثير من الأعمال الفنية، مختلف الأساليب والتقنيات القديمة والحديثة، فلقد رسم بالألوان الزيتية، والمائية، وبأقلام الرصاص، والباستيل، والحفر، والنقش، والطباعة الحريرية، وما إلى ذلك، باختصار لقد جرّب كل الأساليب التي استعملها الفنانون الكبار الذين أحبهم، وقلّد أعمالهم الفنية، وأكثر من ذلك فقد جرّب أساليبه الخاصة التي كانت تساعده على تمويه الآخرين تجاراً، وفنانين، ونقاداً، ومتلقين. كان يانسن يشعر بالفخر لأن أعماله الفنية المزوّرة كانت متنوعة إلى درجة كبيرة، وقد انتقل من نوع فني إلى آخر، باحثاً عن أساليب جديدة، وحيل غير معروفة يفاجئ بها الآخرين. وبعد وفاة السيد فينيما استأجر يانسن بيتاً آمناً في شارع 2 Rue des Maltotiers في أورليانز. ومن هناك بدأ يزاول جانباً من مهنته الفنية، ونشاطاته التجارية، تساعده في ذلك صديقته ألين فان بارين. وذات يوم تمكنت الشرطة من الوصول إليه نتيجة اطمئنانه المفرط إلى أن ما يقوم به هو عمل إبداعي، وليس جريمة يحاسب عليها القانون. كما كان يعتقد بأن حذره يبعده دائماً عن أعين الرقباء والمتلصصين. وفي نيسان أبريل 1994 اكتشف خبراء فنيون عملين مزوّرين لشاغال ودوفي في مزاد علني في مدينة شتوتغارت. ثم تم استدعاء الشرطة الذين تتبعوا الأثر إلى يان فان دن بيرخن،"الفنان" الهولندي الذي يعيش في فرنسا، وكانت تلك هي بداية النهاية. وحينما جاءت الشرطة إلى أورليانز وجدوا البيت مهجوراً في Rue des Maltotiers. في الحال طرقوا على باب البيت الريفي، وقال أحد رجال البوليس"ما إن دخلنا البيت حتى وجدنا"لوحات فنية مزورة تكفي لتأثيث اللوفر". برَّر يانسن ما فعله أمام الصحف الفرنسية قائلاً:" من الواضح أن الناس سعداء بالأعمال التي بعتها لهم. كنت أحاول دائماً أن أقدّم لهم فناً بمواصفات عالية. حسناً، الناس يعتقدون بأنهم اقتنوا عملاً لكارل أبل أو لماتيس، ولكن إذا كانوا سعداء، فما المشكلة؟ انهم يعتقدون بأن ما اشتروه من لوحات هي أعمال فنية حقيقية... إن ما فعلته في عالم الفن يجب أن يقارن مع أعمال مشابهة في عالم الموسيقى. فالموسيقي يجب أن يُدفَع له لأنه أعاد إنتاج عمل لباخ أو موتزارت أو بيتهوفن. عمله هو إنتاج قطعة مماثلة للنسخة الأصلية. هذا بالضبط ما فعلته أنا مع بيكاسو وميرو وأبل". قضى ستة أشهر في سجن فرنسي في أورليانز منتظراً المحاكمة. بدأ كتابة مذكراته التي حملت عنوان"ماجينتا: مغامرات أستاذ في التزوير"و"الماجينتا"هو اللون الأحمر الضارب إلى الأرجواني، والذي يسميه البعض"البنفسجي المحمّر"، وهذا اللون هو أحد أسرار يانسن الفنية، فاللون الوردي للماجينتا يجعل الألوان تلمع، وتتوهج، فالأصفر يصبح أكثر اصفراراً أو برتقالياً، والأحمر يصبح أحمر عميقاً، واللون الأزرق يصبح أقوى، وأشدّ زرقة. وعندما يجف الطلاء يُعرف مصدر هذا اللون. وبمرور السنوات أصبحت"تدرّجات واشتقاقات الماجينتا"صيغاً ناجحة، وعندما يراها الخبراء يقولون"إنها صيغ لونية ممتازة وذات مواصفات عالية". في الفترة الأخيرة، وبعد إطلاق سراحه، بدأ ظهوره العلني على شاشات التلفزة الهولندية للحديث عن تجربته"التزويرية"أو تسليط الضوء على عالمه الفني الخاص به. هل تخلص من آفة تقليد الفنانين الكبار واستنساخ أعمالهم الفنية؟ لعله يعمل في المستقبل خبيراً فنياً يكتشف الأعمال المزورة!