توقفت زمرة من الشباب أمام شاشة عرض تلفزيونية في مقهى مزدحم في حي مدينة نصر... وراحت تتابع ما تبثه الشاشة باهتمام بالغ وإنصات تام. كان المشهد غريباً، فلم يكن هذا موعد بث مباراة كرة قدم، ولا حتى كرة سلة، كما أنه لم يكن"فيلماً ثقافياً"من النوع"التشريحي"لأن العرض كان على الملأ. المفاجأة هي أنهم كانوا يستمعون إلى حوار السيد وحيد الاقصري، مرشح حزب مصر العربي الاشتراكي لرئاسة الجمهورية على إحدى القنوات الفضائية. على رغم أن مظهرهم كان يدل على أنهم"شباب روش طحن موت"، إلا أن اهتمامهم بحديث الرجل كان واضحاً وحقيقياً. وغالب الظن انهم ليسوا على علاقة لا ب"كفاية"أو"لا بد"ولا حتى بأي من أحزاب المعارضة. لكن اهتمامهم كان مثيراً، حتى أن صاحب المقهى انخرط في مناقشة طويلة مع اصدقاء له. الجميع يحلل سبب اهتمام هذه"الشلة"بوحيد الاقصري او بغيره من مرشحي الرئاسة، وخلصت جلسة التحليل والتقصي الى أن اعضاء هذه الشلة ولدوا في عصر الرئيس حسني مبارك، والتحقوا بالمدارس الابتدائية، ثم الإعدادية ثم الثانوية في عهده ايضاً، ومن بعدها الجامعة في عهده كذلك، ومنهم من تخرج كذلك والتحق بالعمل أو بدأ يبحث عن فرصة في عهد الرئيس مبارك. أي أنهم لا يعرفون غيره رئيساً، ولم يسمعوا هذا اللقب ملتصقاً بأحد سواه طوال هذه السنوات الطويلة. وما كانوا يشاهدونه على شاشة الفضائية في تلك اللحظة يعد لا سابق له بالنسبة اليهم: حملات انتخابية، وأكثر من مرشح. شعارات لرئيس حزب كذا، وكاريكاتور لمرشح يرتدي طربوشاً، ومشهد لثالث يخطب مستخدماً الشعارات التي طالما سمعوا عنها في ستينات القرن الماضي عن"الامبريالية الاستعمارية"و"الشرور الرأسمالية"وغيرها... إنهم يعاصرون التاريخ! أحداث ساخنة وعلى رغم أن تحليل صاحب المقهى لموقف الشباب"الروش"الذي لم تقف"روشنته"حائلاً أمام الاهتمام بحالة الانتعاش السياسي التي تشهدها مصر هذه الايام، فإنّه لا يقف عند حدود أولئك الشباب فقط. إذ إن المصريين الاحياء منهم والاموات لم يعايشوا جواً كهذا منذ العصر الفرعوني. لقد امتلأ فراغ فصل الصيف الشبابي بأحداث ساخنة، فبدلاً من التلطع على النواصي لمعاكسة الفتيات فقط، أضحى مرشحو الرئاسة مادة لحديث شلل الشباب. وبدلاً من إمضاء جل الوقت في احتساء الشاي، وشرب الشيشة، ولعب الطاولة والدومينو على المقاهي تسللت قضايا سياسية الى هنا وهناك. وبدلاً من الاصرار العتيد على اقتصار المشاهدة التلفزيونية على"ميلودي"و"مزيكا"و"روتانا"، حازت احاديث الترشيح وبرامج المرشحين الانتخابية جانباً من كعكة المشاهدة. حتى التجول في شوارع وسط القاهرة مساءً، وهي الوسيلة الترفيهية الوحيدة المتاحة للملايين من الشباب والشابات، لم تقف عند حدود الفرجة على واجهات المحلات فقط، لكنها شملت كذلك"الفرجة"على اللافتات الملونة الضخمة لمختلف المرشحين. ولأن حديث"البطالة"ورد في غالبية حوارات المرشحين وبرامجهم الانتخابية التي يعرضونها ليلاً ونهاراً، كان من الطبيعي ان تسترعي انتباه الكثيرين من الشباب المصري المتضرر من تقلص فرص العمل والذي يبحث عن اي قشة امل يتعلق بها بدلاً من الغرق في بحور الاحباط والاكتئاب. وتابع الشباب كذلك خروج أول حزب سياسي مصري الى النور يترأسه شاب هو الصحافي احمد عبدالهادي - الذي كان يكتب اخباراً علمية لپ"الحياة"قبل نحو خمس سنوات. وعلى رغم أن الحزب واسمه"شباب مصر"لم يدخل ماراثون الترشيح الرئاسي بمرشح، بعدما منعته ظروفه القانونية من ذلك لخروجه إلى النور بعد صدور القانون الخاص بانتخاب الرئاسة، فإن رئيس الحزب عبدالهادي طالب"شباب مصر بعدم مقاطعة الانتخابات بل أعلن كذلك دعمه للرئيس حسني مبارك، لما يحمله من قدرة على تفهم خطوات الاصلاح، التي تأكدت من خلال عمليات تغيير شاملة في مختلف القطاعات". منتديات نقاش الطريف أن رئيس الحزب دخل معترك السياسة من خلال موقع إلكتروني اسسه على شبكة الانترنت قبل سنوات بالاسم نفسه شباب مصر الذي لاقى قبولاً كبيراً بين مختلف اوساط الشباب المصري بسبب انتقاده للاوضاع السائدة. بل إن الموقع تعرض أكثر من مرة لمضايقات وتوقيفات إلكترونية أمنية بسبب محتواه. وعلى شبكة الانترنت أيضاً، تأججت المشاركة السياسية الشبابية، سيما من خلال منتديات النقاش وساحات الحوار، ومواقع البلوغز BLOGS التي ذاع صيتها في الاشهر القليلة الماضية باعتبارها متنفساً سياسياً واجتماعياً لجموع الشباب"المثقف"الغاضب من تدهور الاوضاع. بلوغز"الوعي المصري" يجري حالياً تصويتاً إلكترونياً على مرشحي الرئاسة، وجاءت نتيجة التصويت كالتالي: 36 في المئة قالوا"لا شكراً، أنا مقاطع"، و34 في المئة اختاروا ايمن نور، وحصل كل من الرئيس مبارك ورئيس حزب الوفد الدكتور نعمان جمعة على 12 في المئة، وحصل احمد الصباحي على ثلاثة في المئة، في حين حصل كل من اسامة شلتوت، ووحيد الاقصري، ورفعت العجرودي، وممدوح قناوي على واحد في المئة، وحاز كل من ابراهيم ترك وفوزي غزال صفر في المئة. ولم يفت صاحب بلوغ"لنتعد الطبيعي"رامي كرم، وهو اشهر"المبلوغين"المصريين والعرب، أن يعلق ساخراً على استطلاعين إلكترونيين للرأي. الاول اجراه موقع قناة"الجزيرة"وكان السؤال هو"هل تعتقد بأن مرشحي انتخابات الرئاسة المصرية يحظون بفرص متساوية في حملة الانتخابات؟". وجاءت النتيجة كالتالي:"نعم 6.9 في المئة، ولا 93.1 في المئة". ويتعجب كرم من جدوى توجيه سؤال تعرف إجابته مسبقاً، مؤكداً أن ذلك لم يكن استطلاعاً للرأي، بل"اختبر معلوماتك"أو"اختبار مدى قدرة الجزيرة على غسل مخ القراء". الاستطلاع الآخر الذي يتعجب منه صاحب بلوغ"لنتعد الطبيعي"ورد في موقع الدعاية للرئيس مبارك"مبارك 2005"وهو:"برأيك ما هي أهم قضية تحدد اختيارك لمرشح الرئاسة؟". والاختيارات هي:"خلق فرص عمل جديدة، أو مزيد من الحرية والديموقراطية، او تحسين الاجور". ويسأل:"لماذا هذه الاختيارات الثلاثة؟ وماذا عن الفلاحين؟ وماذا عن المعتقلين؟ وماذا عن الاقتصاد المحلي؟". "شبابنا يعمل" وضع الاقتصاد المحلي هذا هو الذي تحوم حوله شبهات احجام الشباب المصري عن المشاركة السياسية في العقود الاخيرة. فالفقر والبطالة والفوارق الشاسعة بين الطبقات لا تولد سوى شيئين: إما الجريمة أو الاحجام عن المشاركة. والمؤكد أن أي طوق نجاة يقدم الى أي من اولئك الشباب المحبط، فإنه حتما سيتعلق به. أحد تلك الاطواق مدها"الاستاذ"عمرو خالد المحاسب والداعية الاسلامي الذي حقق انتشاراً وشعبية غير مسبوقين في اوساط الشباب المصري، لا سيما بعدما اتخذ من قضية البطالة هماً شاغلاً له من خلال موقعه على شبكة الانترنت، وبرنامجه الفضائي"صناع الحياة". أحدث حلول"الاستاذ"هو مشروع"زراعة الأسطح"أي اسطح البيوت والمباني. ونعود الى الرئيس حسني مبارك الذي يتوقع فوزه في انتخابات الرئاسة المباشرة المقبلة. فهو بدوره اختار"الشباب"ليكونوا على رأس اولوياته في برنامجه الانتخابي. فنحو 33 في المئة من اجمالي تعداد مصر شباب تراوح اعمارهم بين 18 و35 عاماً. من اجل اولئك، وبدلاً من"زراعة الاسطح"، طرح مبارك افكاراً اخرى تهدف الى توفير 4.5 مليون فرصة عمل لهم على مدى السنوات الست المقبلة تحت عنوان"شبابنا يعمل". ومن المقرر ان يكون عمل شبابنا هذا بعيداً تماماً من اروقة وظائف ومكاتب الحكومة. ففي حال تنفيذ ما وعد به الرئيس، سيتمكن كل شاب وفتاة من بدء مشروعهما الصغير من خلال اتاحة التمويل اللازم من برنامج القرض الصغير إضافة الى توفير مستلزمات الإنتاج والمعرفة الفنية، وفرص التسويق لمنتجاتهم. كما وعد بأن يمول القطاع المصرفي ألفي مشروع صغير ومتوسط في مجالات الصناعة والتجارة، وشركات المهنيين والنقل، وتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات. بقي أن نتيجة"التصويت"الذي اعترض عليه"المبلوغ"المصري جاءت كالتالي: 40 في المئة اعتبروا"مزيداً من الحرية والديموقراطية"أهم قضية تحدد اختيارهم لمرشح الرئاسة، واختار 25 في المئة"خلق فرص عمل جديدة"، وجاء"تحسين الاجور"في ذيل القائمة الثلاثية بنسبة 25 في المئة. وتأتي هذه النتيجة غير المتوقعة على ضوء ما يراه المصريون ويلمسونه في حياتهم اليومية. لكن قد تكون هذه بالفعل هي رياح التغيير. عموماً لم يتبق سوى أيام لتفتح مراكز الانتخابات ابوابها ل34.5 مليون ناخب، نصفهم من الأميين، لكنهم - أو على الاقل من يتوجه منهم بالفعل - يأملون في كثير من الديموقراطية، قليل من التزوير، والأمل الأكبر معقود على توجه الشباب الى صناديق"الانتخاب"وليس"الاقتراع"على الاقل من باب حب الاستطلاع. ولعلها خطوة أولية لإذابة الثلج بين الشباب والمشاركة السياسية.