أمّ الرحالة والمستشرقون الأوروبيون حلب السورية قبل ان يذيع مصطلح الاستشراق في أوروبا بكثير، والأرجح أن مدونات هؤلاء عن المدينة زادت من شعبية الفكرة في أوساط المثقفين مع نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التالي ودفعت بآخرين لاقتفاء أثرهم والنسج على منوالهم. وملكت حلب مقومات جذب كثيرة أغرت المستشرقين ليحطوا رحالهم فيها، منها ما يتعلق بالمدينة وما يرجع الى ميزات شعبها وكذلك ما تتمتع به من امن وتسامح وحرية في العمل والعيش والمعتقد، اضافة الى هيمنتها التجارية على المنطقة بحكم موقعها الجغرافي وربطها الطرق التجارية الواصلة بين ضفتي المتوسط وخبرة تجارها واشتغالهم منذ القديم في هذا المجال. قبلة الأجانب استقطبت حلب معظم الرحالة العرب مثل ياقوت الحموي وابن جبير وابن بطوطة والمقدسي والحميري، إلا أن ما يميز كتابات الرحالة الأوروبيين ميلها الى الدراسة: دراسة التاريخ والجغرافيا والعمارة واللغة والآداب والدين، أكثر من وصف المشاهدات الحسية، كما فعل العرب. ويمكن ملاحظة ذلك في مؤلفات القرنين السادس عشر والسابع عشر التي هي أشبه بالدارسات، وان تأخر مفهوم"الدراسات"بالمعنى الفني للكلمة الى أواخر القرن الثامن عشر، إذ ألّف جان سوفاجيه كتابه"الآثار الاسلامية والتاريخية في حلب"ليتناول بالبحث معالم المدينة وأسواقها وأسوارها. وكذلك فعل المستشرق الألماني نولدكه صاحب كتاب"تحف الانباء في تاريخ حلب الشهباء"، ومواطنه مانيكه الذي عدد مباني الفترة المملوكية التي بقي منها في عهده 45 معلماً من أصل 500 معلم موزعة على الدول العربية. واطلق تجار ومستشرقو الإمارات الايطالية الاسم الأجنبي لحلب"Aleppo"ألبو منذ أوائل القرن الثالث عشر للميلاد، دلالة على علاقتهم الفريدة مع المدينة حتى أن أهل البندقية أوفدوا ابناءهم اليها لتعلم عادات سكانها وتجارتهم ولغتهم العربية. واعتبرت ايطاليا بوابة حلب الى أوروبا لإعادة تصدير البضائع المحملة اليها لا سيما الحرير الذي احتكرت حلب تجارته من شمال ايرانوالهند وعولت عليه أوروبا آمالاً في تطوير صناعتها. ويعود الفضل الى حلب بتوقيع أول معاهدة تجارية مع البندقية سنة 1207 ثم مع إمارات أوروبية اخرى بعد ذلك، قبل افتتاح قنصلية البندقية عام 1548 والفرنسية عام 1562 فالانكليزية في 1586. وذكر القس جيوفاني ماريغولي من البندقية انه شاهد في حلب كثيراً من المسيحيين الأوروبيين بلباسهم العربي ولغتهم الفرنسية ذات اللكنة القبرصية، لدى زيارته المدينة سنة 1352 للميلاد ضمن ارسالية دينية. ويرى الباحث فؤاد هلال ان حلب ظلت"قبلة للأجانب من عابرين أو مقيمين، وأسست أول ارسالية دينية أوروبية فيها قبل 768 عاماً وساهم ذلك بنشر الثقافة واللغات الأجنبية ليتقن أهلها لغات عدة. وكانت كل الطرق من الشرق والغرب تؤدي اليها". وشبّه داندولو قنصل البندقية في حلب سنة 1599، المدينة ب"الهند الصغيرة". وقال دارفيو القنصل الفرنسي منذ 1679 في مذكراته ان الحلبيين"أحسن شعوب الممالك العثمانية طبعاً وأقلهم شراً وآمنهم جانباً وأشدهم تمسكاً بمكارم الأخلاق"، ما دفع المستشرقين الى زيارتها والاقامة فيها. وعدّد دارفيو المهن والأسواق والخانات وذكر في الجزء السادس من رحلته ان حلب حوت 75 جالية أجنبية لها تمثيل قنصلي أو تجاري"ويختلط فيها السكان من جميع الأمم فتضم من المسيحيين 30 ألفاً من أصل 290 ألفاً عدد سكانها". وهو ما ذهب اليه المستشرق جون ألدرد في القرن السادس عشر أن فيها من كل جنس"من يهود وتتر وفرس وأرمن ومصريين وهنود وأوروبيين، والجميع يتمتع بحرية العقيدة". وفي القرن نفسه"ركزت انكلترا أنظارها على حلب بعد ان تأخرت عن ميدان تجارة الشرق قياساً بفرنسا"، وفق ما ذكر الرحالة الانكليزي جون ساندرسون. وعزا الرحالة الفرنسي بردودل مكانة حلب التجارية الى ان"الطريق المنطلق من حلب الى آسيا الصغرى انتصر على الطريق البحري الذي اكتشفه البرتغاليون وسيطروا عليه، بسبب قصر طريق حلب ولكونه برياً في منأى عن القراصنة". وأقام الطبيبان الانكليزيان الشقيقان باتريك والكسندر راسل فترة طويلة في حلب بهدف استكشافها ليصدرا كتابهما"تاريخ حلب الطبيعي"سنة 1756 وهو من أهم الكتب الموثقة بأسلوب علمي عن حلب في تلك الفترة، وفيه رصد لمعظم مظاهر الحياة اليومية والطبيعية والزراعية والحيوانية وشرح مفصل للأبنية ووظيفتها وتركيبة السكان والحكم والطوائف والجاليات الأجنبية، إضافة الى التعليم والصحة والثقافة والكتب والمخطوطات. وقضى الشاعر الفرنسي الكبير لامارتين فترة مهمة من حياته مقيماً في حي الكتاب في حلب ليكتب أهم قصائده، ومنها قصائد لجوريل التي اقامت معه برفقة شقيقتها موليناري التي قرضت هي الأخرى الشعر، لكن باللغة العربية. ومن الرحالة الذين زاروا حلب في القرنين السادس عشر والسابع عشر وكتبوا عنها دارامون ولومانس وراولف وتافيزيه ودانديني ونيوبري وبوكوك وآخرون كثر. ولم تنقطع صلة الرحالة والمستشرقين بحلب أبداً منذ ان قصدها أرسطو بهدف الاستشفاء من مرض ألم به. وها هو جان هيرو صاحب كتاب"سورية اليوم"يفرد مساحة واسعة للحديث عن المدينة بعد أن سكنها لفترة وراق له طيب الاقامة فيها. والطريف ما ذكره الرحالة الانكليزي فولني في القرن السابع عشر عن استعمال الحلبيين للحمام الزاجل في تجارتهم. تقول القصة إن حمامة متجهة من أوروبا الى حلب سقطت فوق سماء الشام بيد تاجر دمشقي ليعلم من الرسالة المربوطة بقدمها عن ارتفاع أسعار الجوز في أوروبا فأرسل كمية كبيرة منه ليكسب كثيراً... وما لبث ان فقد الحمام فوق الشام لكثرة الصيادين التجار!