طبول الحرب الأميركية لا تطرب السياح الأوروبيين، العزف على مصطلح "المناطق غير الآمنة" لم يرق لبعضهم، تداعيات "حرب الخليج الثالثة" "غمامة صيف"، سحر الشرق عصي على المقاومة ويغري باعادة اكتشاف المنطقة. ترتيب الأوراق وإعادة الأمور الى نصابها يحتاجان الى مهارة لا تعوزها الخبرة لدى القائمين على السياحة في سورية. أغرت حلب الأوروبيين منذ عهد بعيد، وعدّها الرحالة والمستشرقون مثل نولدكه وفوكنه وسوفاجيه مقصداً رئيسياً ومحطة مهمة لهم منذ بداية القرن السادس عشر الميلادي بما تمثله احياؤها وأسواقها من مادة خام لنتاجهم بعدما لاقوا فيها كل حفاوة وتقدير. وشجع ذلك التجار الأوروبيين على زيادة حركة تبادل البضائع والرساميل مع الحلبيين المولعين بالتجارة وإقامة القنصليات لرعاية مصالحهم ومن أقدمها قنصلية البندقية التي ترجع إلى العام 1518، وتعتبر بذلك أقدم قنصلية في الشرق تلتها الفرنسية العام 1562 والانكليزية العام 1583. واستدعى تكاثر الجاليات الأوروبية في المدينة تأسيس الخانات بمثابة الفنادق ودور العبادة والمدارس التعليمية والارساليات العلمية بعدما اعجبتهم الاقامة والعمل فيها نتيجة لطيب هوائها وحسن معشر اهلها حيث حوت أربعين محلاً لتجار البندقية ونصف العدد للفرنسيين في العام 1750. ثم تراجع دورها التجاري مع تغير وجهة سير القوافل التجارية باكتشاف رأس الرجاء الصالح وشق قناة السويس في العام 1868، فإنعكس ذلك على علاقتها بالأوروبيين. تحسن عافية السياحة قال الفرنسي رينيه انه زار حلب منذ ثلاث سنوات وآثر ان يصطحب معه في هذه الزيارة زوجته الهولندية في محاولة لاعادة اكتشاف المدينة والأوابد المحيطة بها من جديد: "زرت احد الحمامات بهدف الاستحمام وكذلك قلعة حلب الرائعة ولفت انتباهي الأشواط التي قطعتها اعمال الترميم فيها، ولا غنى عن زيارة قلعة سمعان التي أشعر فيها بالسكينة والخشوع". وعن تحدّيه مخاطر السياحة في المنطقة نتيجة الحرب على العراق قال: "اعتقد ان سورية في شكل عام تمتلك كل مقومات الراحة والأمان، وهذا انطباع الكثير من السياح الفرنسيين بدليل تنظيم هذه الزيارة"، مشيراً إلى ان معظم مرافقيه من السياح زاروا سورية في تواريخ سابقة. وأعربت كارين الألمانية عن سعادتها لزيارة حلب للمرة الثانية خلال خمس سنوات: "تستهويني احياء المدينة القديمة وأسواقها بالتجول والتسوق بما تمتلكه من سحر خاص يحمل الزائر الى حقب مختلفة… سأشتري العديد من المشغولات اليدوية الشعبية هدية الى احفادي"، مشيرة الى ان سماحة أهل البلد وبشاشة وجوههم وحسن استقبالهم للأجانب تزيد الإلفة والود والتواصل الروحي مع المكان، داعية السياح الأوروبيين وبخاصة الألمان منهم الى الاطمئنان لدى زيارة سورية ومد جسور الصداقة والتعاون مع شعبها الطيب ومبدية رغبتها في زيارة العراق "عندما تسمح الظروف بذلك". ولفت مدير احد مكاتب السياحة الى ان معظم السياح الذين يقصدون حلب يحملون الجنسيات الأوروبية "بسبب العلاقة الفريدة التي تربطهم بالمدينة منذ القدم وما تمتلكه من عناصر جذب، كنوع من السياحة الثقافية، توافق ميولهم وأذواقهم". وأضاف ان حركة السياحة بدأت تستعيد عافيتها بشكل تدريجي بعد شهرين من تعليق العمليات العسكرية الأميركية - البريطانية في العراق، متوقعاً ان تعوض المنشآت السياحية بعض الخسائر التي تكبدتها قبل نهاية السنة الجارية نتيجة الحملة الدعائية والجهود التي تقوم بها وزارة السياحة لتدارك النقص الحاصل في عدد السياح. جولة سياحية يفضل زوار حلب من الاجانب السير على الأقدام اثناء تجوالهم في المدينة القديمة لضيق الأزقة والشوارع حيث بنيت المحال التجارية بين أعمدة الأسواق القديمة، وبسبب كثافة انتشار الأوابد الاثرية اذ تختصر الجولة الازمنة والمسافات في مشهد بصري مؤثر وتلخص في بضع ساعات تاريخ خمسة آلاف عام من عمر المدينة التي اعتبرها بعضهم مزامنة للعاصمة دمشق من حيث استمرار الحياة فيها من دون انقطاع. معابد وثنية وكنائس بيزنطية ومساجد أموية وعباسية، أقواس رومانية ومدارس دينية ايوبية وحمامات وبيمارستانات مملوكية وأسواق وخانات وقساطل عثمانية وسور يضم مزيجاً من شتى الحضارات التي تعاقبت على المدينة وما اكثرها، تتكاثف الصورة وتلتقط عدسة الكاميرا عشرات الصور المتداخلة الممزوجة بعبق التاريخ خلال سير مئة متر. ولتفقد احوال الاحياء في المدينة القديمة نكهة خاصة حيث الأبنية التاريخية والبيوت العربية المتراصة التي تؤجج الحنين وتدفع الرغبة في التملك الى أقصاها. يستحسن ان تبدأ الجولة من جوار ساعة باب الفرج التاريخية فريدة التصميم المعماري في مركز المدينة وعلى بعد مرمى حجر من فندق بارون حيث كتبت أغاثا كريستي رائعتها "جريمة في قطار الشرق السريع"، ومن ثم دخول باب انطاكية باتجاه القلعة الشهيرة بضخامة حجمها عبر سوق الزرب والاستراحة في احد المقاهي المنتشرة حول القلعة على مقربة من معظم الأوابد الأثرية التي تشتهر بها مدينة حلب. ولا بد للسائح من ان يعرج على الصروح الأثرية التي تزخر بها المناطق المحيطة بالمدينة مثل موقع عين دارة وسيروس قورش وقلعة منبج، ولعل أهم الأوابد قلعة سمعان التي تحوي ثاني اضخم كنيسة بيزنطية بعد كنيسة اياصوفيا في اسطنبول التي ما زالت تقام بها بعض طقوس التعميد المسيحية من قبل السياح الأوروبيين التماساً للشفاعة من القديس سمعان الذي اقام أربعين عاماً فوق عمود حجري طوله 27 متراً وعرضه متران يقضي حاجات الفقراء من دون ان يضطر الى النزول طوال هذه المدة.