للسائح الذي يزور حلب فرصة ممتعة للتعرف على تراث قديم يشكل جزءاً من حياة سكان المدينة ولا يزال حتى اليوم كما تظهره حمامات المدينة التي تنبض بالحياة كل يوم. وعرف الشرق القديم الحمامات وأولت شعوبه هذه المنشآت الصحية مكانة متميزة واحتوت مدينة ماري في قصرها الملكي على أقدم حمام ومغطس معروفين حتى الآن ويعود تاريخها الى الألف الثانية قبل الميلاد. وكانت الحمامات مرتبطة على الدوام بمدى التطور والرقي الاجتماعي فهي عند الرومان كانت دليل تمدن ووسيلة اللرفاهية، يمارس فيها مختلف انواع الرياضة واللهو والسمر والمحادثة والمطالعة والموسيقى، وما حمامات شهبا التي بناها الامبراطور فيليب العربي في القرن الثالث الميلادي الا خير دليل على ذلك. وعلى رغم تأثر الحمامات في العهد الاسلامي بالنمط الروماني الا انها اكتسبت وظيفة دينية جديدة اضافة الى الوظيفة الاجتماعية وغدت ركناً اساسياً لاستعداد المسلم لأداء العبادات الاغتسال وانعكس ذلك على بعض اقسام الحمام وطريقة البناء كمنشأة معمارية اسلامية لها خصوصياتها وميّزاتها ومن اقدمها حمام قصير قرب البحر الميت. وعني الامويون والعباسيون بالحمامات مواكبة للتطور وتحقيقاً للوظيفة التي وجدت من أجلها مما أدى الى تحسن الصحة العامة كما يرى المستشرق والباحث الفرنسي سوفاجيه، الذي يضيف ان الحمامات العامة كانت "توفر دخلاً لاصحابها وتطور استعمالها الى حد ان حدائق اللهو نفسها جهزت بها". واهتم الاندلسيون ببناء الحمامات التي من اشهرها حمام الجوز في غرناطة وحمام قصر قرطبة الذي اشتهر بمغطسه. وكان لحلب نصيب كبير من الحمامات، ان على صعيد الكم او الكيف او على صعيد العراقة والاصالة وضمت حلب اقدم تلك الحمامات وهو حمام "الواساني" نسبة الى الحسن بن الحسين بن واسان الشاعر الحلبي المتوفى سنة 394 هجري. ولا يعرف الاسم القديم لهذا الحمام الذي يقع امام الباب الشمالي لخان الصابون. وقد هدّم اثناء توسيع الطريق الذي يصل الجامع الاموي "الكبير" بالقلعة كما هدم ايضاً حمام البيلوني او "موغان" والذي كان يقع في نهاية سوق الحرير. وبُني الحمامان في الفترة الزمنية نفسها اي الألف الثانية قبل الميلاد كما يرى المؤرخون. وصل عدد الحمامات في حلب الى 194 حماماً عاماً منتصف القرن الثالث عشر كما ذكر سوفاجيه، وهو عدد لم تحوه اي مدينة اخرى في العالم آنذاك حتى ولو كان عدد سكانها يفوق اضعاف عدد سكان مدينة حلب. وجرت العادة ان تضيف الشخصيات العامة حمامات جديدة بالاضافة الى الحمامات الفخمة الخاصة داخل الدور العربية التي اقتصرت على العائلات الموسرة. وأتى المؤرخ الحلبي كامل الغزي على ذكر عدد الحمامات في القرن السابع الهجري في كتابه "نهر الذهب في تاريخ حلب" فقال "عدّد أبو ذر صاحب كتاب كنوز الذهب نقلاً عن ابن شداد": 1 - الحمامات التي كانت في باطن مدينة حلب 60 حماماً منها "الجديد والسلطان والحدادين والعرائس" وهناك حمامات كانت وقفاً على الفقراء مثل "الذهب". 2 - الحمامات التي في الدور ومنها في "دار العظم ودار الشريف في قلعته ودار سيف الدين" وأكمل العدد حتى 92 حماماً. 3 - في ظاهر حلب "السوق والركن والكاملية" حتى 118 حماماً. 4 - الحمامات في المقام "الصالحين" منها "شبل الدولة والنقيب" حتى 130 حماماً. 5 - التي في الياروقة "قرية الانصاري" وهي ثلاثة منها "الظافر". 6 - التي في ارض الحلبة "محل حارة الجميلية" وهي اثنان "شهاب الدين العجمي وفخرالدين اياسي". 7 - التي في البساتين منها "بستان مشهد الحسين وبستان الشريف" حتى 159 حماماً. 8 - التي خارج باب انطاكية وهي اربعة منها "قيصر". 9 - التي في الرمادة "قرب مسجد البختي" منها "الملاح وفخرالدين" وأكمل العدد حتى 173 حماماً. وقال ابن شداد "وهي على هذه الكثرة لا تكفي اهل حلب"، وعندما جاء التتار واحتلوا حلب دمروا كل شيء ولم يبق من مبانيها الا القليل بما في ذلك عشر حمامات. وتعد الحمامات نموذجاً يحتذى به في طريقة جر المياه وتصريفها وفق شبكة موزعة على الحمامات كافة وتعتبر بذلك آية في فن العمارة وأصول توزيع المياه، ويتحدث جان سوفاجيه عن الفترة الايوبية من حكم حلب فيقول: "وتعرّض جر المياه للتجديد من ينابيع حيلان حتى حلب وانشئت في التجمع السكاني نفسه قنوات جديدة توزع المياه حتى الربض بواسطة 64 منهلاً عاماً. وأكملت في ظل يوسف الثاني بتشييد بضع قنوات اضافية في الرياض". وحظيت الحمامات زمن الايوبيين بمكانة متميزة لا سيما في عهد الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين اذ وصل عددها الى 164 حماماً و66 قسطلاً للماء. وجرت مياه نبع حيلان الى حلب بحيث وصلت الى كل بيت في حين لم تعرف قصور ومنازل اوروبا الحمامات، كما في قصر فرساي، حتى القرن التاسع عشر، ويتابع سوفاجيه الحديث عن شبكة المياه زمن العثمانيين فيقول: "قطعت هزة ارضية في سنة 1544 م سد المجرى المخصص لتحويل ماء الساجور وفعل الباشوات ما كانوا يستطيعون لمعالجة تلك الحالة، فأعادوا المنسوب الاولي للمياه وحبست عين ماء جديدة اقرب للمدينة للانتفاع بها، كما اهتموا باقامة قناة مياه زائدة من نهر قويق ووصل عدد الحمامات سنة 1683 م الى 64 حماماً كما ذكر دارفيو السفير الفرنسي في حلب آنذاك. اما عدد الحمامات في الثلاثينات من القرن الجاري فبلغ 42 حماماً بينما ناهز عدد السكان 200 ألف نسمة اي بمعدل يبلغ 4762 شخص لكل حمام. وتقلص العدد عام 1970 الى 40 حماماً ولم يبقى منها الآن سوى 18 حماماً اثرياً بالاضافة الى 33 حماماً جديداً. المجموعات السياحية يحاول كل من يزور حلب ان يجد الوقت الكافي لزيارة الحمامات لما لتلك الزيارة من طابع مميز يعيد السائح الى اجواء الشرق القديمة التي تنبض بالدفء والحميمية. وما زالت الحمامات تلعب الدور نفسه الذي لعبته منذ القديم لا سيما في مدينة مُحافظة مثل حلب، حيث ارتبطت الحمامات بحياة الناس وموروثهم الشعبي وباتت تقليداً اجتماعياً محبباً لارتباطها بالعادات والتقاليد وبنيت على آدابها وأوضاعها حكم وقصص وأمثال. ويفضل العريس على سبيل المثال ان يجعل "صباحية" العرس في الحمام فيدعو اصدقاءه واقرباءه لقضاء الصباح في الحمام وربما تصاحب ذلك وليمة فطور داخل الحمام نفسه، اما العروس فتدعو المقربات اليها الى الحمام في الليلة السابقة لليلة الزفاف "ليلة الحناء" حيث يقمن بصبغ الكفوف بالحناء ونقش الرسومات الجميلة فوق جسدهن. وإذا أراد الشاب الحلبي الزواج فما عليه الا ان يرسل والدته الى الحمام حيث المكان المفضل لرؤية الفتاة وقد تخففت من ثيابها وتفحص محاسنها وعيوبها. وقيل في المثل الشعبي: "خطبة العروس على جرن الحمام"، الا ان هذه العادة تناقصت باستثناء الحارات الشعبية ولدى بعض العائلات المحافظة. وللحمام طقوسه الخاصة اذ يكره التعري ولبس "المايوه" وقراءة القرآن في "الجواني" و"الوسطاني". وللاغتسال قواعده فتستحم المرأة اربع مرات يقال للمرة الواحدة "زوم" أو "تم". وفي كل مرة تغتسل ست مرات بالصابون وستاً بالبليون اي تغتسل 48 مرة وعلى الأغلب لا يتم التقيد بهذه القاعدة، ومن ادوات الحمام "البقجة واللكن والدريرة والمئزر والسطل... "وهناك الكثير من الامثال التي تتعلق بالحمام لا تزال تستعمل حتى اليوم، منها "بترُكْ تجارة الشام وما بترُكْ ليلة الحمام" و"هون بتعرف القرعة من أم الشعر" و"مثل حمام مقطوعة ميّته" و"ضاعت الطاسة" و"مصاري المجانين على مصاطب الحمامين" وأمثال كثيرة اخرى تدل على مدى ارتباط الحمام بالحياة الاجتماعية. وتخصص الحمامات اياماً للرجال حتى منتصف الليل واخرى للنساء حتى المساء ومنها ما هو مخصص للنساء فقط ويمكن للمجموعات السياحية الحجز المسبق ويمنع الاختلاط بين الجنسين حيث يدخل الرجال اولاً ثم النساء ويمكن بعد ذلك ان يلتقوا في "البراني" لاقامة الحفلات او تناول الاطعمة والمشروبات عدا الروحية منها. حاجات حضارية يقسم الحمام وفق الطراز المعماري القديم الى ثلاثة اقسام: 1 - البراني "المشلح": وهو اكبر الاقسام، ويحتوي على مصاطب للجلوس ومشالح للتعرية ومشلجب وتكون قبته عادة عالية الارتفاع كما يضم بركة الماء وتتم فيه حفلات الغناء والسمر وتناول المأكولات والمشروبات الساخنة. 2 - الوسطاني: درجة حرارته معتدلة وهو اصغر من البراني تحيط به الخلوات الصغيرة بقبابها العالية ذات النوافذ الصغيرة للانارة وتحتوي كل خلوة على صنبورين للماء الساخن والبارد. 3 - الجواني "بيت النار": تعلوه ايضاً القبب الصغيرة وفيه خلات وايوانات ويمتاز بارتفاع درجة الحرارة لوجود بيت النار ولا ينصح العبور من الوسطاني الى البراني مباشرة من دون اخذ استراحة في الممر المؤدي اليه كي لا يصاب المستحم بالزكام ويضم الحمام كافيتريا لتقديم المشروبات الساخنة والمرطبات. ومن أهم الحمامات التي ما زالت قائمة في حلب: 1 - حمام يلبغا الناصري "اللبابيدي": الذي يعد من اجمل الحمامات. ويقول ابن الخطيب في كتابه "الدر المنتخب" واصفاً حمام يلبغا وحمام اشتقمر: "ليس بالمملكة ما يضاهيهما". ويقع الحمام جانب باب القلعة التي كانت تربطه بها سراديب دمر احداها اثناء اعمال الترميم اللاحقة، لا يعرف اسم بانيه الاصلي وزمن بنائه ومن المرجح انه يعود الى بداية حكم المماليك لحلب اي في منتصف القرن الثامن الهجري نحو 1365م خربه المغول بقيادة تيمورلنك عند استيلائهم على حلب سنة 1400م وأعاد بناءه وترميمه الامير المملوكي سيف الدين يلبغا الناصري عام 1417م فعرف الحمام باسمه. يتقدم الحمام قهوة رصيف صيفي مزخرف أفقياً بالحجارة السوداء والصفراء. ويمتاز الحمام بواجهته الجميلة المزينة بالمداميك المتناوبة اللونين الاسود والاصفر على شكل خطوط افقية تشبه بطرازها المدارس الايوبية والمملوكية، ومدخله صغير له قنطرة عالية والى يمين المدخل عرضت اوانٍ زجاجية ونحاسية تشعر الزائر وكأنه يلج متحفاً قديماً. وسينتبه عند ولوجه الحمام الى وجود لوحة نحاسبة كتبت عليها ابيات شعر للشاعر المغترب زكي قنصل الذي زار الحمام سنة 1989م وقال مرتجلاً: حلب بدعة العصور فكبّر ثم كبّر لحسنها الأزلي كيف لا تخشع العقول وفيها مثل حمام يلبغا الناصري قيل صفه: فقلت آية حسن ابتدعها يد الإله العلي يتوسط القسم البراني بركة ماء شكلها مثمن فيها نافورة، ويتألف من اربع ايوانات معقودة في كل ايوان مصطبة ومشالح، وتعلوه قبة سامقة تستند الى قناطر الايوانات عبر زوايا مثلثية كروية قطعت من اعلاها لتشكل منفذاً للنور مثمناً مع ثمانية نوافذ مستطيلة اخرى، اما القسم الوسطاني والجواني كما هو الحال في النموذج التقليدي للحمام فيتألفان من قاعات رئيسية تحيط بها ايوانات وخلوات ثلاث في كل قسم ويتم الدخول من البراني الى هذين القسمين عبر ممر ضيق للحفاظ على الحرارة اما الجواني ففيه اربعة ايوانات ويضم شلالاً لشرب الماء البارد وحمام الساونا وفي وسطه حجر اسود رُصِفَ فوق الانابيب الساخنة والملح، يستلقي عليه مريض آلام الظهر والروماتيزم. اهمل الحمام زمن الانتداب الفرنسي وحوّل الى مكان لصنع اللباد من وبر الجمال فعرف باللبابيدي. استملكته مديرية الآثار وتم ترميمه عام 1960م واستثمرته الشركة العربية السورية للمنشآت السياحية "فنادق الشام" سنة 1985. ويقول مدير الحمام محمد وليد الهيب ان ادارة الحمام تقيم "حفلات عشاء للسياح تنظمها المكاتب السياحية تقدم فيها المأكولات والموسيقى الشرقية وتقدم الفرقة المولوية عروضاً لها وكذلك فرق الرقص الشعبي التي تمتع الزائر بتقديم الفلكلور الحلبي". ويضيف ان "عدد السياح وصل العام الماضي الى 15 الف سائح معظمهم من ايطاليا والمانيا وفرنسا واسبانيا" متوقعاً ان يزيد الرقم السنة الجارية لما يقدمه الحمام "من خدمات للاجانب غير متوافرة في بلادهم من تكييس وتلييف ومساج". ويشكل عدد السياح حوالى 40 في المئة من مجمل الزوار ومن اللافت للانتباه ان رسم دخول السائح هو نفسه للسوري ومقداره 365 ليرة سورية. 3.7 دولار مقابل خدمة كاملة، وهناك سجل للزوار عبر فيه كثيرون من السفراء والشخصيات الاجنبية المرموقة عن انطباعاتهم ومنهم الممثلة الفرنسية كاترين دونوف التي زارت الحمام واستحمت بمياهه الدافئة وعبرت عن اعجابها به. 2- حمام النحاسين: يقع في سوق المحمص جانب جامع العادلية في منطقة الأسواق القديمة جنوب الجامع الكبير ويعود الى القرن الثالث عشر الميلادي، ويعتقد انه "حمام الست" الذي بني في القرن الثالث عشر. يحتوي البراني على مقصورات ومصاطب ومشالح وفي السقف ثلاث قبب صغيرة للاضاءة بينما قبة الوسطاني بيضوية الشكل فيها كوات صغيرة ويضم الوسطاني خمس خلوات وغرفة للوضوء والجواني ستة خلوات وغرفة بخار. 3- حمام السلطان: قرب القلعة، بناه السلطان غازي سنة 1211م وكان مخصصاً للنساء ويعتبر من الحمامات التقليدية ويتميز بمقرنصاته البديعة التي تتدلى من زوايا القباب. 4- حمام الجوهري: بناه أمير حلب المملوكي علاء الدين اقبغا الجوهري عام 1384م في محلة باب قنسرين. بالاضافة الى الكثير من الحمامات الاثرية الاخرى ومن اهمها حسب قدمها. 5- حمام حمدان: 357 هجري "بني زمن سيف الدولة في ساحة بزة". 6- حمام البزدار في العقبة "582 هجري". 7- حمام اشقتمر في حي القصيلة "771 هجري". 8- حمام البياضة في حي البياضة "854 هجري" يقع مقابل جامع الصروي بناه المملوكي جمال الدين ابن النفيس. 9- حمام برهم في محلة الجديدة بناه بهرام باشا الوالي العثماني. 10- حمام باب الأحمر: يقع الى جانب بلبغا الناصري في الشارع المحيط بالقلعة وهو من الحمامات القديمة وتم ترميمه واستثماره وخصص للنساء فقط، وحمام ازدمر والقاضي وسوق الغزل وساحة بزة وحمامات اخرى تدل على الرقي والتمدن الذي وصلت اليه مدينة حلب منذ عهود قديمة لم تسبقها اليه مدن الشرق الاخرى.