ثمّة طرائق متنوعة لرسم معالم جغرافية المدن والبلدان ولرواية أحداث وتفاصيل إنسانية تواكب عادةً زيارات العمل أو المؤتمرات العلمية التي تنعقد في حواضر الغرب وفي حرمات مؤسساته الأكاديمية. الكاتب حطّّ الرحال في هلسنكي ودوّن بعض مشاهداته. من أين أدخل في هلسنكي التي تقع في"بلاد الله الواسعة"، وتحديداً في أقصى الشمال المعمور؟ وما الذي يحمل لساني عربي كي يقصد بلاد الصقيع مخلفاً وراءه خريف بلاده المشمس؟ إنها"لعنة"اللسانيات المحببة التي قادتني, وزميلي هيثم قطب, إلى هذه المدينة الاسكندينافية لحضور الحلقة الدراسية التاسعة والعشرين لجمعية اللسانية الدولية SILF التي اكتشفنا، متأخرين، أنها مغرقة في أوروبيتها لا بل في فرنسيتها! كان لا بد من هلسنكي ولو طال السفر. والكلام هنا لا يؤخذ مجازاً. فالأربعة آلاف كيلومتر التي قطعناها جواً بيروت، فيينا، هلسنكي استغرقت منا حوالي نصف نهار. بيد أننا اكتشفنا لاحقاً أن"مغامرة"اكتشاف بلاد السلمون تستحق بجدارة هذا العناء! سائق التاكسي ذو الأصول الروسية لم يتوان للحظة عن الاستجابة لتساؤلنا، فأفاض في شرح أحوال بلاده وفي وضعنا على خريطة عاصمته العصرية التي تبهرك, لكنها لا تذكرك لا بباريس ولا ببيروت. فهي نسيج وحدها بجمهورها الذي يغلب عليه الشباب والذي يأسرك ببشاشته وحسن وفادته. سائقو التاكسي، وبخاصة أولئك الذين يقودون خطاك الأولى في مدن جديدة يعطونك بحق الانطباع الأول عمّا وعمّن ستواجهه في أيامك القلائل الحافلة بالنشاطات والمواعيد. إنهم يعتبرون بمنزلة البوصلة البشرية المتحركة التي ترشدك إلى أقرب الطرق وأيسر السبل وأفضل الأسعار. أحاديثهم العفوية، و"المبرمجة"أحياناً، التي"تكرج"على ألسنتهم يوظفونها للتأثير في ركابهم أولاً وإشهار"خلطة"معلوماتهم السياسية والمالية والاقتصادية والسياحية ثانياً، ناهيك عن شغفهم الطبيعي بالثرثرة لقتل الوقت، وللتنفيس عن دواخلهم، وهم يقودون مركباتهم على طرق المدينة بمهارة وتقنية وشغف بإثبات الذات. سائقنا الخمسيني الأصلع أضفى مرحاً على جو حافلته الصغيرة التي جمعتنا وراكبين أميركيين من كليفلاند. اطمئنا منا، بحذر، إلى أجواء لبنان. ومن ثم تشاركا الحديث معنا ومع دليلنا الفنلندي المهذار. "لا تتعجبوا منا"، قال،"فالفنلنديون لا يبتسمون، عادةً، ولكنهم مع ذلك لطفاء". واكتشفنا لاحقاً أنهم غاية في التهذيب والكياسة. ودهم ورحابة صدرهم تختفي خلف ملامحهم الجدية."ضرائبنا هي الأعلى في العالم، حوالي 70في المئة"اكتشفنا لاحقاً أنها 35 في المئة ولكنها تصاعدية وتشمل أية أعمال إضافية. انفرجت أساريرنا وتمنينا - في سرنا - أن لا تصل هذه المعلومة قط إلى رئيس وزرائنا الذي كان يجاورنا في المقلب الآخر من الكرة الأرضية. لغة سائقنا الانكليزية المقبولة دفعتنا كي نتساءل عن الوضع اللغوي، فأجاب بأن السويدية والروسية لغتان سائدتان في فنلندا، لأسباب تتعلق بطبيعة العلاقة ? السابقة ? بين الحاكم والمحكوم. فملك السويد حكم هذه البلاد لمدة 600 سنة في حين ضمها قيصر روسيا إلى ملكه لفترة تناهز المئة عام. لذا فاللغتان تدرسان الى جانب الفنلندية بالطبع. تدخل البلاد من أبوابها اللغوية بالطبع. لذا استفسرنا منه عن المرادف الفنلندي لتعبير صباح الخير، فاستدرك بأن التعبير الشائع هو"هيي". واكتشفنا لاحقاً أنه ينبغي مضاعفتها"هيي، هيي"لقول"إلى اللقاء". خصوصية هذا التعبير السلس لم تمنعنا من التفكير في عولمة أساليب التخاطب والشكر والاستحسان التي نعرف نماذج عدة منها في بيئتنا العربية. الداء العولمي واحد. وخير دليل هو مطعم"ماكدونالدز"الذين شنّف أبصارنا ونحن في طريقنا من المطار الذي يقبع على بعد 19 كيلومتراً من عاصمة الصقيع. وقد اكتشفنا شقيقاً له في قلب المدينة. وفي طريق العودة ادركنا أن فيينا تبزّ هلسنكي في المطاعم والمقاهي المعولمة. وداعة المدينة وانتظام دورة حياتها اليومية وبساطة أهلها وهدوؤهم المتمادي معالم أساسية تضعك في أجواء هذه المدينة الساحرة والمسكونة بالجمال الطبيعي الفاتن. ولفتتنا أضواء السيارات المشعة ليلاً ونهاراً, فأعلمنا السائق بأنه تدبير معمول به في اسكندينافيا لتلافي حوادث سير محتملة وللتأكد من أن المركبات شغّالة وغير مركونة. قبيل وصولنا إلى الفندق، طمأننا السائق إلى أن مدينته هي الثانية لجهة الأمن والأمان. فقرّت أعيننا. وأردفت الأميركية بأن اللوكسمبورغ هي الأولى في التراتبية الأمنية. وكانت راكبة أردنية شابة أخبرتنا في الطائرة أن جامعة هلسنكي تحلّ في المرتبة السابعة عشرة عالمياً. واكتشفنا لاحقاً أن فنلندا هي السابعة أوروبياً لجهة المساحة، إذ تبلغ 338000 كلم مربع, ويسرح في غاباتها مليون من حيوانات الرنّة، وأن عدد سكانها يناهز خمسة ملايين ونيف"أما تعداد هلسنكي، إحدى مقاطعاتها الستّ، فلا يتعدى نصف مليون مواطن. بدأت الأرقام تشكل معالم متناثرة للمشهد العام الذي نحن في صدد اكتشافه خلال اسبوعنا الفنلندي الحافل. يعود الفضل في نشأة العاصمة عام 1550 إلى الملك السويدي غوستاف فاسا الذي قام بهذه البادرة في إطار المنافسة التجارية مع تلّين Tallin، على بحر البلطيق. وقد استقرت هلسنكي في موضعها الحالي منذ أواسط القرن السابع عشر. وما لبث السويديون أن أقاموا تحصينات بحرية عام 1748 لصدّ الروس الذين سرعان ما احتلوا المدينة 1809 واعلنوها عاصمة لدوقية فنلندا المستقلة. وبغية إبراز عظمة كل من الدوق الكبير والإمبراطور الروسي شيدت مباني وسط المدينة على الطراز الامبراطوري المميز. ومع استقلال البلاد 1917 إتخذت المدينة دورها الحالي كعاصمة للجمهورية الفتية. ويعود الفضل للألعاب الأولمبية 1952 في اكتساب هلسنكي صفة المدينة الدولية في فترة ما بعد الحرب. معلوماتنا الجغرافية"الأولية"استكملناها من"لَوْرا"الطالبة في جامعة هلسنكي ? قسم اللغات الرومنية، التي ذكرتنا بأن البلاد استقلت، بعد حكم روسي قيصري 1809 ? 1917، وبأن العاصمة القديمة كانت في توركو Turku القريبة من مدينة ستوكهولهم. ومرد ذلك أن الملك السويدي"استقرب"هذه المدينة فمان على اتباعه الفنلنديين وجعلها عاصمة لهم. القصة إذاً لا تعدو أن تكون محض سياسية. ولاحقاً أعيدت العاصمة إلى هلسنكي الرابضة بهناء على ضفاف البلطيق بعدما استطاعت على مرّ القرون الحفاظ على طابعها الإنساني الراقي والجذاب في آنٍ معاً. ماريا مدبّرة أوبرج Kongressikoti المجاور للحي الجامعي فاخرت بعراقة مبناها الأثري الذي شيّدت طبقاته الأربع عام 1863، واستكملت عام 1926 الطبقة الخامسة التي أقمت فيها ليالي ستاً"نعمت خلالها بطقس متوسطي رائع كذّب توقعات مذيعي الأحوال الجوية. المبنى ذو المصعد الخشبي المعتّق يقع في منطقة Kronohagen، الأقدم في هلسنكي، والتي تمددت العاصمة انطلاقاً منها. جميل أن يتساكن المرء في خريف العام 2005 مع عراقة الزمكان كما يسميه زميلنا علي زيعور. وعملاً بقاعدة تذوق الطبق الوطني ما إن تطأ قدماك بلداً جديداً، ارشدتنا ماريا إلى مطعم Kolme Kruunua أو"التيجان الثلاثة"الواقع قرب المرفأ حيث احتفلنا بنزولنا إلى البر الفنلندي بوجبة بدأت بالسلمون المدخّن واتبعناه بحساء السلمون وختمناه بالسلمون المشوي الفاخر. فكانت أمسيتنا الأولى فنلندية بامتياز: سلمون بسلمون بسلمون! كاتري، النادلة الشابة، الطالبة في جامعة هلسنكي، لم تكن على علم بالمؤتمر اللساني الذي نحن في صدده. فزدناها معرفة لسانية وأفاضت بدورها في الحديث عن واقع هذه المدينة الحالمة والمزروعة في قلب عالم الصقيع الدافئ ولياليه البيضاء المشهورة. وما لبثت زميلتها أوللا، في المقهى المجاور، وطالبة اللسانيات التي تجيد لغة راسين كأبنائها أن أضافت جديداً إلى معلوماتنا. فبلاد"النوكيا"والصناعات الخشبية ذات الجودة العالية انتخبت عام 2000 أول رئيسة جمهورية لمدة ست سنوات قابلة للتجديد لمرة واحدة فقط آه كم تعني لنا هذه الجملة في لبنان؟، وليطمئن الرجال"فالأمر ليس بهذه الصعوبة و"ما شي الحال". فنلندا لا تعدم أيضاً نساءً مرموقات، فالوجه النسائي الآخر والبارز على الصعيد الأكاديمي تمثل بالبروفسورة H. Niemi نائبة رئيس جامعة هلسنكي التي أقامت حفل استقبال على شرف المؤتمرين في بهو المبنى الأثري الذي يعود لعام 1832 والمجاور لكنيسة نيقولا اللوثرية والواقع في ساحة Senat التي تشكل من خلال منظومة مبانيها المحيطة وحدة معمارية ذات نمط كلاسيكي جديد لا نظير لها. وفي كلمتها المقتضبة أشارت إلى أن الجامعة تأسست عام 1640 في العاصمة القديمة توركو وأنها انتقلت إلى هلسنكي عام 1828. كلياتها الإحدى عشرة التي يدرس فيها 7500 أستاذ منحت لتاريخه 38000 دبلوم 64 في المئة منهم لإناث. وسنوياً يتخرج منها حوالي 4200 طالباً منهم 400 من حملة الدكتوراه. هذه الأرقام والمؤشرات أكدت للمجتمعين الأهمية التي توليها فنلندا للمسألة التعليمية. وخير دليل هو هذا الصرح الأكاديمي الذي يوفر أجواء البحث العلمي والتعليم ويشكل نموذجاً للتفاعل مع مجتمعه. وقبيل دعوتنا لتذوق أطايب المطبخ الفنلندي، أبت إلا أن تذكرنا برقمين أساسيين للعام 2004"ميزانية الجامعة البالغة 501 مليون يورو ومنشوراتها العلمية البالغة 9500 مطبوعة. وجواباً عن استفساري بخصوص اهتمامات الطلاب وتوزعهم على الفروع الدراسية، اجابتني بأنهم استقبلوا العام الفائت 5827 طالباً توجه 55 في المئة منهم لدراسة العلوم و35 في المئة لدراسة الزراعة والتحريج و27 في المئة لدراسة اللاهوت. واللبيب من الإحصاء يفهم! ونختم مشاهداتنا السريعة للمشهد الفنلندي بما يفيد قارئنا العربي. فقساوة الطبيعة والظروف المناخية لم تمنع هذا الشعب النشيط والمنضبط من استثمار موارده الطبيعية والبشرية على حدّ سواء وعلى أفضل وجه. لكن الأهم هو أن انشغالات المجتمع تواكب تطلعات الدولة وتأتلف لترويض معالم هذه البيئة المتناقضة والمترامية بين حدّي البحر والطبيعة. ومرة أخرى فتحت لنا اللسانيات نافذة معرفية جديدة أطللنا منها على حضارة راقية واختلطنا بشعب مرهف الأحاسيس وتعرفنا على تقاليد جامعية عريقة وراسخة تمنينا أن تحلّ يوماً ضيفة على أقطارنا العربية، أو على أحفادنا في أضعف الإيمان! كاتب لبناني.