بين"مؤانسة"أبي حيان وإمتاعاته الأدبية و"ليالي الأنس في فيينا"التي أنشدتها أسمهان بلحنها الفالسي الرائع، تتراءى في البال صورة مشتهاة لأنس مرغوب. فكيف إذا حدث الأمر في مدينة فيينا وعلى إيقاع لياليها الفاتنة؟ في الأمس القريب نعمنا بلحظات أنسٍ حقيقية في قلب فيينا الساحرة التي قادتنا إليها صدفة محببة. العاصمة النمسوية التي ترتع هانئة على ضفة الدانوب تتدثر بروائع معمارية"باروكية"أنجزت وفق أسلوب فني مميز ساد في القرن السابع عشر وتميز بالزخارف والحركية والحرية في الشكل. فجاء إبداعاً إنسانياً ومعمارياً خالصاً يحكي صفحات من تاريخ بلاد يتعانق فيها النغم الموسيقي الساحر بالمنجز العمراني اللافت، وبالنبض الإنساني الحي الذي استوحينا نفحات منه في هذه المقالة. **** ينتابنا عادةً قلق مشوب بشيء من الانزعاج حينما نُرغم على توقف ترانزيت قسري في أحد المطارات، لدى عودتنا من رحلة عملٍ أُثقلت إثرها كل من مفكرتنا وحقيبتنا بپ"وزن زائد". لكن فيينا، درّة أوروبا وجارة دانوبها الأزرق كذّبت توقعاتنا وقلبت مفاهيم لعبة الترانزيت. فكانت بحقٍ خير عاصمةٍ حططنا الرحال في مطارها، ساعاتٍ سبعاً، ونحن في طريقنا من هلسنكي إلى بيروت. خدمات الانترنت سهّلت مسبقاً لكاتب هذه السطور وزميله هيثم قطب زيارتهما الخاطفة للعاصمة النمسوية. فحافلة المطار تنطلق كل نصف ساعة وتقلّك إلى قلب فيينا Wien Mitte في 16 دقيقة وبكلفة 12 يورو ذهاباً وإياباً. وكانت المضيفة الجوية رغّبتنا سابقاً، وبكل اللغات، باغتنام هذه الفرصة. كنا قد غادرنا ظهراً مطار هلسنكي الذي يلفتك بشدة تنظيمه ودقة مواعيده وبرحابة صدور موظفيه الذين يظهرون كل الود واللطف في تعاملهم مع الزوار وإغرائهم بابتياع أصناف الشوكولا والسلمون وما إليهما! ودّعنا أرض فنلندا بوجبة غذاء سلموني فاخر. كما ودعنا أيضاً ناصرة وخديجة، الزميلتين الجزائريتين اللتين شاركتانا المؤتمر اللساني الدولي المعقود في هلسنكي على مدى أيام خمسة. الهدوء الذي كان يلف مطار هلسنكي والأصوات المهموسة التي كانت تندّ من هنا وهناك ما لبثت أن ضاعت في أجواء الصخب الذي سرعان ما واجهناه في مطار فيينا. فدينامية الجمهور المتدافع في الأروقة وعلى السلالم الكهرباء والأصوات المتصاعدة بمختلف اللغات واللكنات، من أوروبية وتركية وعربية وآسيوية...، والازدحام المروري على طريق العاصمة، والزجاجات البلاستيك المتناثرة أرضاً... تضعك على الفور في أجواء عاصمة منفتحة تضجّ بمظاهر العولمة بما في ذلك استقطابها للعديد من الأجناس والأقوام الذين يصرّون على إشهار هوياتهم عبر ألسنهم وأزيائهم وسلوكياتهم. ولوهلة تراءى لنا اننا في عاصمة شبه عالمثالثية أكثر منها أوروبية خالصة. **** ودعنا إذاً الانشغالات اللسانية التي ألهتنا إلى حين عن متاع الدنيا. وها نحن في ساحة شويدن حيث قيّض لنا أن نصادف سيدتين عربيتين محجبتين تبرعتا مشكورتين بإعطائنا فكرة ميدانية سريعة عن أهم المعالم التي يمكننا زيارتها في ساعاتنا الخمس المتبقية لنا في دنيا فيينا الساحرة. غروب الشمس في مدينة جديدة وفاتنة متعةٌ لا تضاهيها متعة. فكيف وأنت على سفرٍ وعلى عجلة من أمرِك. تدلف على الاقدام إلى ساحة كاتدرائية القديس اسطفان، قبلة السائحين والزائرين، من شارع روتن شتورم المزدحم بالمطاعم والمقاهي، حيث تطالعك السحنات العربية التي تحتسي شاياً وتتبادل أحاديث لا تخلو من صخب صنع في ديار العرب. لا تثريب عليكما، قالت السيدة الأردنية التي تدرس الطب، فكل الطرق تؤدي إلى الكاتدرائية، ومنها باستطاعتكما أن تصرفا هنيهات لإمتاع النظر بروائع فنية ومعمارية فاتنة ومعايشة أهالي المدينة وزائريها الذين يفدون إليها من كل حدبٍ وصوب. **** ساحة الكاتدرائية الأثرية التي أنجزت خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر جذبتنا بنمطها المعماري وقتامة ألوانها التي قارناها بمباني هلسنكي المرممة والزاهية التي لا تزال تزين ناظرينا. عربات الخيل بسائقيها المرتدين الملابس الفولكلورية تصطف على مقربة منها وتصطحب السائحين في رحلة خاطفة في أرجاء المتحف الأثري المتكامل الذي يصرف فيه السائح قرابة نهار وهو يتملى من مكنوناته ومفاخره، ويذكرك بروائع فرساي الفرنسية لا بل ويفوقها. تزاحم الأضداد يلاحقك حتى في عاصمة الأنس التي تكتسب بحق هذا التوصيف. فكل ما فيها ومن فيها يضجّ بصخب إنساني محبب ينسيك إلى حين الهدوء الفنلندي المغالي والنظام الحياتي المرصوص الذي ترغم على مجاراته وأنت في العاصمة الشمالية الأقصى تناقش دي سوسير وتروبتسكوي وجاكوبسون ومارتينيه وتزامل الفرنسيات هنرييت فالتير وآن ماري هودبين وبريجيت والتركية نورجان والرومانية ماريان والمغربي محمد معمري. تزاحم الأضداد يأتي هذه المرة من زمرة شبان يبدو أنهم وافدون من أوروبا الشرقية ويسعون لخلق مساحة تعبيرية شعبوانية تسمح لهم بكسب بضعة يوروات وإثبات فنون استعراضية راقصة. افترشوا الأرض وبدأوا يتشقلبون ويمارسون فردياً وجماعياً سفارتا مانور وكلهم أمل في جذب أنظار وفلوس الجمع المتقلب المزاج الذي يصفق لهم لكنه يغفل عن مدّ الأيدي إلى الجيوب. منظر نافورة المياه الطبيعية التي خلفناها وراءنا في الحدائق الوارفة لقصر Svarta Manor إحدى بقاع فنلندا الساحرة عادت إلينا بصورة مختلفة هذه المرة، في شارع متفرع من ساحة الكاتدرائية. عازف"أكواب مياه"روسي، يرافقه عازف أورغ ماهر، استقطبا حشداً من محبي الموسيقى. عدتهم كانت منظومة أكواب مصفوفة كأصابع البيانو ومملوءة جزئياً وكلياً بالمياه، وكان الروسي يتلاعب بمياهها بأطراف أصابعه مصدراً وزميله موسيقى رائعة كانت تشنّف أنغامها آذاننا وحبيبات المياه وجوهنا. شهدنا فصلاً مما يسميه الفرنسيون faire chanter un verre. وهذه قيمة أنسٍ مضافة اكتسبناها من زيارتنا الخاطفة لمدينة الأنس. **** تذكّرك فيينا أنّى توجهت بأنها عاصمة موتزارت بلا منازع. فمن محال الشوكولا الفاخر الذي يحمل بشتى الأشكال والأنواع اسم موتزارت ورسمه، والموزعة في أرجاء هذا الحي التراثي والسياحي، إلى أكشاك التذكارات التي تزين مختلف الشوارع والساحات، والتي تبيع شتى الهدايا التذكارية بما فيها تماثيل مصغرة وصحون زاهية ملونة تحمل رسم عبقري الموسيقى الكلاسيكية. تذكرت ابنتي سارة الفنانة والموسيقية الناشئة فرغبت في ابتياع تذكارات"موتزارتية"لها، كما أن منى الزميلة اللبنانية التى تهوى جمع الأزرار المعدنية أوصتني أن أحمل لها زرين من هلسنكي وفيينا. ولهذه الغاية قصدت واحداً من هذه الأكشاك، فإذا بلغة الضاد تحضر فجأة. فالشاري سعودي والعارض مصري"والحمد لله كما أجابني"، وآيات القرآن الكريم تنساب من مسجّلة البائع الشاب تعضد إيمانه وتؤنس وحشته في ديار الغربة. انتقيت بعض التذكارات، وسرعان ما بدأت عملية المساومة"بالعربي". لذا لجأت إلى جملة مصرية طريفة تُستحضر في هذا السياق"يا عمِّ هات سعرك من الآخر""وهكذا كان. بلغ الحساب 19 يورو فنقدته عشرين، فرد لي"واحد يورو مجمّد"ويريد به وحدة نقدية معدنية، لكنه اختار صفة"مجمد"للإشارة إليها. رأيت الجماد في التماثيل والأنصبة التي كانت تحوط بنا كيفما توجهنا ولم يخطر في بالي قط أن أرصده في عملة البلاد، إلا على شفتي هذا الشاب العربي المتغرّب. **** زميلي هيثم استبشر خيراً حينما زودتنا السيدة السورية باسم مطعم يقدم الوجبات الوطنية ويتبع لسلسلة مطاعم Rosenberger المعروفة ويقع في شارع كورنتنر الذي يذكرك بوسط بيروت التجاري. وحينما تذوقنا أطايبه هدأ بالنا وارتاح ضميرنا، وبتنا أكثر استعداداً لرحلة العودة الليلية إلى الديار. وكان هيثم قد شرح لي أكثر من مرة أهمية مشاركة الشعوب في ثقافة المأكل والمشرب. فاللقمة أينما حللت هي"مفتاح البطن"، وتذوقها في بيئتها الأصلية من شأنه التعريف عن كثب إلى تقاليد المطبخ الوطني. وكنا قد طبقنا هذه الأمثولة في معظم مطاعم Unicafe المنتشرة في العاصمة الفنلندية فضلاً عن مطعم التيجان الثلاثة على شاطئ البلطيق الساحر. وحتى مكتبة هلسنكي الوطنية التي زرناها في يومنا الأول استهوانا فيها مطعمها الجامعي فانصرفنا عن متعة المطالعة إلى متعة الأكل، واستعضنا عن عالم الكتاب بعالم الإفطار حيث لفتت لغتنا العربية أحد الأساتذة. فاستفسر منا ببالغ التهذيب عن اللغة التي نتحادث بها. وعندما أجبته بأنها سامية وعليه أن يخمّن. أعقب على الفور بأنها العربية. فارتاحت أساريره وتابع فطوره الصباحي بعدما تيقن من صحة معلوماته اللغوية التي ما خيبت ظنّه! علاقة المطبخ بالتراث الوطني مسألة مستحدثة، ولكن فيها نظر، وتسنى لنا أن نعيشها شخصياً. وما كذبت تحليلاتنا، فها هي الصحف الحياة 18/10 تنبئنا بأن المكسيك تطالب بتصنيف مطبخها ضمن قائمة التراث الإنساني العالمي، وها هي فرنسا تطالب بإدراج طبق"كبد البط"ضمن التراث الوطني الفرنسي. فمتى يأتي أوان التبولة والكبة النية والحمص بطحينة؟ **** فيينا التي غادرناها والغصّة في النفوس بعد ساعات أربع حافلة، هي بحقّ عاصمة الانس الأوروبي بلا منازع. تمتلك مقومات تميزها عن باريس الساحرة مدينة الأضواء. ولكنهما تتشاركان في خلق مساحات أنسنة وترفيه وتبضع واستهلاك... فصخب الحياة في وسط مدينة موتزارت الذي يضجّ بالحياة طوال ساعات الليل، وتنوع الثقافات والأجناس والأعراق والمطاعم التي تتآلف لتشكل بنجاح مشهدها المديني، تمنحها بحقّ هذا التوصيف الموافق. من هلسنكي إلى فيينا فبيروت، ثمّة ملامح تعدل تدريجاً المشهد المديني الذي عشنا تفاصيله وتداعياته عبر أيام سبعة صرفنا منها ساعات خمساً في قلب عاصمة النمسا، فسعدنا بواحدة من ليالي الأنس التي لطالما سمعنا بها وواتتنا فرصة"لسانية"كي نتمتع بإحيائها. * كاتب لبناني.