أكدت الدورة السابعة والثلاثون ل"معرض القاهرة الدولي للكتاب" التي انتهت اخيراً طغيان السياسي على الثقافي في الحركة الثقافية المصرية وربما العربية أيضاً, وتجلى هذا الطغيان بدءاً من اختيار المحور الرئيس لندوات المعرض وهو "آفاق النهضة والاصلاح" وانتهاء بممارسات رقابية وامنية سادت ايامه متمثلة في استعراض رهيب لجهاز الامن المصري لمنع تظاهرات في المعرض ضد فكرة "التوريث" واعتقال ثلاثة من الناشطين السياسيين بتهمة توزيع منشورات... وهذه الممارسات بدأت بقرار بيروقراطي قضى بمنع كاتب ومفكر مصري بارز هو محمد السيد سعيد من المشاركة في ندوات المعرض عقاباً له على صراحته في مناقشة رئيس الجمهورية المصري في الافكار التي طرحت في اللقاء السنوي المعتاد بين الرئيس مبارك والكتاب. لا شك في ان هذه الممارسات هي في الاصل وليدة مناخ يتسم بالاحتقان والتوتر سواء بين التيارات الفكرية ذاتها او بين تلك التيارات والسلطة المصرية. وغيبت مظاهر هذا التوتر اللمسات التنظيمية الجديدة التي شهدها المعرض، وطغى الحديث عن الرقابة التي مورست بشدة في هذه الدورة على أي حديث, مما اكد الحاجة الى النظر في فكرة تطوير المعرض لتقترب من المضمون بدلاً من تركيزها على الشكل بحسب ما اكد الى "الحياة" عدد من الناشرين الذين رحبوا بما انجز من خطوات, داعين الى النظر الى مشكلاتهم "المزمنة" واعتبار ما انجز حداً أدنى لا يستحق هذا الضجيج الاعلامي, ومن هؤلاء الكاتب الياس فركوح صاحب دار "ازمنة" الاردنية الذي أشار الى ان "التنظيم ليس افضل حالاً، خصوصاً في ما يتعلق بتجهيز اجنحة عرض الكتب والخدمات والمرافق الاساسية". وفي المقابل أكد نوفل صالح من "دار المدى" ان التطور الاساسي الذي لمسه وسعد به تمثل في القرار الحاسم الذي اتخذته ادارة المعرض بمنع "الميكروفونات" التي كانت تبث مواد دعائية بأصوات مزعجة داخل المعرض, سواء كانت تخص "الدعاة الجدد" او الاغنيات الحافلة بالضجيج", واعتبر الناشر المصري محمد هاشم من دار "ميريت" ان تشجيع ما تم امر ضروري للبناء عليه والإفادة منه"، لافتاً الى ان "التنظيم الجديد هو نتاج طبيعي لاحتكاك عدد من المسؤولين عن المعرض بتجربة المشاركة العربية في فرانكفورت". واثنى هاشم على فكرة اسناد مهمة تنظيم المعرض الى لجنة عليا مارست عملها للمرة الأولى هذا العام بشفافية ووضوح وضمت في اعضائها ممثلين عن اتحاد الناشرين العرب والمصريين وهي الفكرة ذاتها التي تبناها ابراهيم المعلم رئيس اتحاد الناشرين العرب والمصريين, على اعتبار ان ما تم هذا العام هو الخطوة الاولى في اتجاه التحسن واحترام القراء والناشرين? "رقابة متوحشة" لكن هذه الخطوة تعرضت للتشويه تبعاًً لممارسات الرقابة التي توحشت هذا العام بصورة احتار الجميع في ايجاد مبرر لها, خصوصاً ان رئيس الجمهورية في مصر أعلن أكثر من مرة ان لا مصادرة من دون حكم قضائي، وهناك عشرات الاحكام القضائية التي انتصرت لحق القارئ المصري في المعرفة. ولكن من الواضح ان الجهة المتهمة هذه المرة كانت "هيئة الرقابة على المطبوعات الاجنبية" التابعة لوزارة الاعلام ويعطيها القانون المصري حق مراجعة الكتب الآتية من الخارج قبل اجازة توزيعها. ولذلك فإن شكاوى معظم الناشرين توقفت امام كلمة "احتجاز" وليس كلمة "منع", في اشارة الى ان الكتب المحتجزة لم تدخل المعرض اساساً, وبالتالي منعت لدى المنافذ الجمركية, وهو اجراء لم يكن شائعاً في الماضي، إذ كانت الكتب تمنع من المعرض مباشرة سواء بناء على توصية من جهات دينية ك"مجمع البحوث الاسلامية" التابع للازهر الشريف او جهات اخرى? وفي الحقيقة يصعب الوصول الى احصاء دقيق لعدد الكتب التي صودرت في المعرض هذا العام، اولاً لتعدد جهات المصادرة، وثانياً لان هذه الجهات في الغالب لا تتورط في إعطاء وثائق رسمية تؤكد الواقعة، وهي وثائق في حال اصدارها تمكن الناشر والموزع من مقاضاة تلك الجهة. ومن ثم فإن المصادرة تبقى اجراءً عشوائياً من الصعب الوصول الى الآلية التي تحكمه وتحدده. وهذا العام يمكن فقط التوقف امام مجموعة من العناوين استناداً الى ناشري هذه الكتب وموزعيها، اذ أكد نبيل نوفل وكيل دار الآداب البيروتية في المعرض ان الرقابة احتجزت من كتبه مجموعة من العناوين لم يستطع ادخالها الى المعرض ومنها رواية "مريم الحكايا" للكاتبة اللبنانية علوية صبح ومنعته من بيع رواية "خفة الكائن التي لا تحتمل" للروائي التشيخي ميلان كونديرا اضافة الى رواية "مسك الغزال" لحنان الشيخ. وقال مأمون الكيالي من "المؤسسة العربية للنشر والتوزيع" ان هناك مجموعة كبيرة من العناوين التي اصدرتها الدار تعرضت للاحتجاز قبل السماح له بتوزيعها ومنها رواية "بادية الظلمات" للكاتب الراحل عبدالرحمن منيف من خماسيته "مدن الملح" كذلك منعت رواية "ارض السواد" التي كتبها منيف عن العراق. وقال الناشر خالد المعالي ان الرقابة احتجزت من بين الكتب التي يتولى توزيعها لمصلحة دار الجديد ديوان "أحد عشر كوكباً" لمحمود درويش، وكذلك رواية "حكاية مجنون" للكاتب المصري يحيي ابراهيم وهي من اصدارات الدار. وقال ممثل دار "الحوار" سورية ان الرقابة احتجزت رواية "مدارات الشرق" للكاتب نبيل سليمان بحجة الاطلاع عليها مع أن الدار عرضتها في السنوات الفائتة في المعرض من دون أي مشكلة. وقال هيثم فاضل من "المركز الثقافي العربي" ان الرقابة احتجزت 17 عنواناً من اصدارات المركز ومن بينها مؤلفات لنصر حامد ابو زيد مثل "مفهوم النص" و"الخطاب والتأويل", إضافة الى "مدن الملح" ورواية "شرق المتوسط لمنيف" وكتاب "ما وراء الحجاب" لفاطمة المرنيسي, وكتاب "الفكرة الاسلامية" قراءة علمية لمحمد اركون. وأكد مجد حيدر صاحب دار "ورد" السورية ان الرقابة احتجزت بزعم "الفحص" مجموعة من العناوين من بينها ترجمة رواية "احدى عشرة دقيقة" لباولو كويلهو وبعض اعمال حيدر حيدر. الا ان دور نشر اخرى لم تسجل اي شكوى من الجهات الرقابية اذ سمح لدار رياض الريس بعرض اصداراتها التي كانت تثير حفيظة الرقابة المصرية دائماً وسمح لدار "المدى" بعرض كتاب محمد الماغوط الجديد"شرق عدن غرب الله" وهو الكتاب الذي تردد ان الرقابة السورية منعته من النشر ثلاث سنوات قبل أن تسمح بطباعته وتوزيعه ليشهد معرض القاهرة توزيعه عربيا.ً ولم تقترب الرقابة من الترجمة العربية لرواية "شفرة دافنشي" لدان برون التي منع توزيعها في لبنان, وهي الرواية الاكثر مبيعاً في العالم في العام المنصرم. وبحسب اشارة مجد حيدر فإن الرقابة مارست عملها في المعرض بكثير من العشوائية والفوضى, وكأنها كائنات غير مرئية بحسب قوله. ويتهم حيدر اتحاد الناشرين العرب بالتستر على الموضوع على رغم ان مسؤولاً كبيراً في وزارة الثقافة المصرية هو الدكتور جابر عصفور اشار علانية الى الرقابة واتهمها في مقالاته في صحيفتي "الاهرام" والحياة" بتشويه المعرض. وهذا تأكيد على صحة وجهة نظر الناشرين على رغم انكار رئيس اتحاد الناشرين لوقائع المصادرة. ويقترح مأمون الكيالي ان يتبع معرض القاهرة الإجراءات المتبعة في المعارض العربية الاخرى بحيث يقدم الناشرون لائحة بعناوين الكتب قبل شحنها وتقوم جهات المنع باختيار العناوين الممنوعة وإبلاغ الناشر بها قبل ان يتكبد تكاليف شحنها. "شبهة التواطؤ" ابراهيم المعلم رئيس اتحاد الناشرين العرب ينفي "شبهة التواطؤ" مع الجهات الرسمية مؤكداً انه لم يتلق حتى الآن شكوى رسمية من أي ناشر تؤكد وقائع المصادرة للتحقيق فيها، مثله مثل وحيد عبدالمجيد رئيس هيئة الكتاب المنظمة للمعرض. ويؤكد على دعم القيادة السياسية للمعرض في اشارة الى تصريحات رئيس الجمهورية التي ترفض المصادرة. ويتوقف امام تصريح قاطع اطلقه احمد نظيف رئيس وزراء مصر في ندوته في المعرض يدعو الى وقف اي اجراءات لمصادرة الكتب لكن المعلم يشير الى ان جانباً كبيراً من هذه المشكلات الرقابية سينتهي في حال التزام الناشرين مواعيد شحن الكتب قبل فترة من بدء المعرض لتتمكن الجهات المسؤولة من مراجعة الكتب في المنافذ الجمركية، لانها في نهاية الامر تعمل وفق القانون الذي يحتاج بدوره الى مراجعة تضع في اعتبارها المتغيرات العالمية. ويشير المعلم الى ان الجهة التابعة لوزارة الاعلام تؤكد انها لم تمنع أي كتاب، وبالتالي فهناك حلقة مفقودة. ويسعى المعلم الآن الى تأسيس "مرصد" قانوني لمتابعة حالات المصادرة في العالم العربي ليتسنى للاتحاد مواجهتها قانونياً كجهة تمثل مصالح الناشرين، اضافة الى عقد مؤتمر دولي وعربي لمناقشة آليات النشر والمعوقات الرقابية في العالم العربي. ويدعو المعلم الناشرين في المقابل الى التمسك بالاعراف القانونية والالتزام بحقوق الملكية الفكرية، مشيراً الى ان احد الناشرين الذين اعلنوا تضررهم عبر وسائل الاعلام هو "محترف شكوى" ويترجم اعمال كبار الكتاب في العالم من دون الحصول على حقوق الترجمة، ويضرب مثالاً على ذلك قيام هذا الناشر بترجمة رواية "ابراهيم وزهور القران" على رغم ان دار الشروق التي يملكها المعلم هي صاحبة حقوق ترجمتها الى العربية. ويشير المعلم الى ان المعرض في السنوات المقبلة سيخطو خطوة اكبر نحو التحسن كأن يعتمد نظام البيع الحصري ويلزم دور النشر ببيع اصداراتها فقط او الكتب التي تملك حقوقها. بعيداً من الرقابة تميزت ندوات هذا العام بقدر افضل من التنظيم، وسيطر عليها هاجس اساس هو موضوع "الاصلاح بين الداخل والخارج"، فضلاً عن رسم تصور لعلاقة صحية مع الغرب سواء في الادب او السياسة وان كانت المشكلة الرئيسة في النشاطات الفكرية تظل قائمة وتتمثل في غزارة ما يقدم وتنوعه الى حد "التخمة" حتى الذي تبلغه الندوات تحت ضغط الحاجة الى إرضاء كل الاطراف مع بغض النظر عن القيمة او جدارة ما يقدم واحتجاج الاصوات التي تعلن مواقفها أمام جمهور عابر لديه طريقته في رفض ما يقدم اليه والاعتراض عليه. وهذا ما حصل على سبيل المثل في ندوة مناقشة كتاب "المتأسلمون" لرفعت السعيد، المفكر اليساري المعروف. وشارك في الندوة "القطب الاخواني" عصام العريان وادارها الزميل محمد صلاح وكادت ان تنتهي "نهاية كارثية". وان كان المعرض للمرة الأولى نجح هذا العام في استقطاب اسماء لها سمعتها الدولية مثل الكاتبة نادين غورديمر الحائزة جائزة نوبل والتي حظيت ندوتها باهتمام اعلامي كبير عطفاً على انها استقطبت حضوراً لافتاً من الكتاب البارزين في مقدمهم بهاء طاهر الذي حيا غورديمر ومواقفها الداعمة للحق والعدالة. وخلال اللقاء معها تحدثت غورديمر، التي حرصت على لقاء نجيب محفوظ، عن تجربتها كروائية افريقية وموقفها المعادي لقضايا التمييز العنصري على رغم انها من "البيض". وأكدت دعمها للحق الفلسطيني سعياً الى بلوغ الاستقلال? ومن الزاوية نفسها شاركت الكاتبة المصرية المقيمة في لندن أهداف سويف في ندوة مفتوحة أدارها الكاتب محمد سلماوي الذي برز دوره في ادارة ندوات المعرض مع عدد كبير من اعضاء اللجنة العليا للمعرض. وخلال الندوة تحدثت سويف عن تجربتها في الكتابة باللغة الانكليزية وعن اعمالها "زمار الرمل" و"في عين الشمس" و"خارطة الحب". وتطرقت الى كتابها الذي صدر بالعربية أخيراً بعنوان "في مواجهة المدافع" ويتضمن المقالات التي كتبتها عن رحلتها الى المناطق الفلسطينية تحت الاحتلال الاسرائيلي, معلنة وجهة نظر عربية في ما يحدث داخل الاراضي المحتلة. وتحدثت سويف عن رغبتها في ترجمة عملها البارز "في عين الشمس" الى العربية مشيرة الى ان الترجمات التي عرضت عليها الى الان تفقد "نكهة النص". وشارك الكاتب الفرنسي من اصل مصري روبير سوليه في المعرض كضيف رئيس أيضاً في ندوة تحدث فيها عن اعماله التي تدور في معظمها في محيط "فكرة الولع" بمصر وآخرها كتابه "قاموس المحب لمصر" وهو يتناول 143 مفردة من مفردات الحياة اليومية في مصر. ولعل اهم ما جاء في ندوة سوليه حديثه عن خطأ ترحيل الجاليات الاجنبية عن مصر في اعقاب العدوان الثلاثي وهو خطأ رده الى الممارسات الفرنسية التي كان عليها ان تدعم حق مصر في تأميم قناة السويس، لكنها فعلت العكس، مما ترك اثاراً مدمرة على المجتمع المصري وعلى فكرة "الكوزموبوليتية" التي كانت تميزه قبل الثورة. وفي ملف "الاصلاح وآفاق النهضة" وهو الملف الرئيس للمعرض حرص اسامة الباز المستشار السياسي للرئيس المصري على المشاركة ومؤكداً ان الاصلاح لا بد من ان يبدأ من الداخل وفق الاهداف الوطنية، مشيراً الى ان لا "روشتة" موحدة يمكن تطبيقها على كل الدول. وأعادت ندوات "المقهى الثقافي" طرح السؤال عن الاصلاح من خلال رصد السياق التاريخي لمحاولات الاحتكاك بالغرب عبر رموز التنوير العربي الحديث. وفي احدى هذه الندوات توقف حسن حنفي امام اسئلة النهضة التي طرحها رفاعة الطهطاوي وسأل بأسى: هل علينا ان نكرر أسئلة الطهطاوي ام علينا ان نعيد صوغها وفق واقعنا الجديد؟ وطالب حنفي بإعادة النظر في مسيرة التنوير العربي وبصورة ملحة. وفي لقاء مفتوح مع الجمهور دعا حازم صاغية الى الفصل بين مشكلاتنا السياسية مع "الآخر الغربي" وحاجتنا الى الحوار الحضاري معه.