1 هذه السنة، 2005، هي سنة ذكرى مرور أربعة قرون على صدور الجزء الأول من كتاب دون كيخوته، لسرفانتيس في مدريد. عمل واحد يعيدنا إلى تاريخ أدبي أوروبي حديث، كان له سلطة على مصير أدبي في إسبانيا وعلى أوروبا. أقصد أربعة قرون من قراءة الكتاب بالإسبانية وبقراءته مترجماً إلى لغات. صدر في لغته الأولى بعد قرن على تسليم أبي عبد الله غرناطة ونهاية الحكم الإسلامي فيها رسمياً. قرن بين نموذجين أدبيين. أدب الموشحات والأزجال في الأندلس ثم أدب الشعر والنثر باللغة الإسبانية. من الأندلس، التي بحضارتها، وبالحضارة العربية في المشرق، كان البحر البيض المتوسط يعيش زمنه العربي، ننتقل مع سرفانتيس إلى زمن مختلف. وذكرى صدور دون كيخوتي أحيتها أكثر من عاصمة ثقافية في العالم. وبها يأخذ الكتاب نفساً جديداً وهو يتهيأ لرحيل في مستقبل البشرية وتاريخ الحضارة. من بعيد كنت أراقب الذكرى. أمامي الكتاب. لحظة أحسست فيها بأشياء عديدة تتدافع نحوي وأنا جالس أنظر إلى دون كيخوتي. أنظر ولا افتحه. لم أكن، هذه المرة، أريد أن افتحه لأقرأ. ما استهواني هو العالم الذي عاشه هذا الكتاب طيلة أربعة قرون، في إسبانيا وفي البلاد الأوروبية، ثم هجرته في ثقافات ولغات تغطي الأرض. كتاب وشم قراء طيلة أربعة قرون، حتى أصبحت قراءته بمرتبة شعيرة وثنية، فيها يلتقي البشري بالبشري، محرراً من كل ما يدعو للضغينة والكراهية والحقد. وكل ما يحرض على الحروب. وجه آخر للكتاب، الذي جاء ليضيء النفوس فيما وراء الاعتقادات. ذلك ما كنت أنظر إليه، متذكراً تلك اللمسة الأولى التي لم تتركني محايداً في قراءته. أنظر وأختلس النظرة إلى الموشحات والأزجال الأندلسية أو ألف ليلة وليلة. وهو ما هاجر من الأدب العربي إلى فضاء القارئ في العالم. أربعة قرون. هي عمر علاقة الثقافة الحديثة الأروبية بشكسبير. لكل من سرفانتيس وشكسبير هذا الفيض الإبداعي. كان سرفانتيس ينتظر من كتابه أن يكون من أعظم ما أنتجه الخيال الأدبي في التاريخ. أما شكسبير فلم يكن يظن أن لأعماله حياة بعد أن تعرض على خشبة مسرح، ثم لم يكن يتخيل أنها ستطبع وستترجم وسيقرأها البشر، جيلاً بعد جيل. سرفانتيس وشكسبير. وقبلهما دانتي، أب الشعر الأروبي الحديث. تلك النظرة التي ألقيتها على غلاف دون كيخوته لم أحس بها وهي ترحل بي إلى مناطق شاسعة من أدب ومن تاريخ ومن مصائر أدبية وحضارية. في نفسي كان كل ذلك يتكون، ببطء، أو عبر حوادث. لم أكن موقناً أنني أفعل ما يستحق أكثر من الجلسة مختفياً عن نفسي، وعن واجب ما بانتظاري. كنت أنظر والعين تسافر بين مشاهد لا أراها في أيامي العادية. كما لو أن كتاب دون كيخوته ينقلني من عالم الحس إلى عالم الغيب. وفي الغيب حالة الأدب الحديث في أوروبا. وعالم. وأندلس. وما كنت اختزنته وأنا لا أدري. 2 لم أكن أفكر في ما يقع وأنا أنظر. ذلك مناف للنظرة وللصمت الذي يحيط بها. صمت لا يستجلب رحمة ولا طاعة. صمت لعمر قصير مع الأدب ومع الأدب الحديث. ما زلت أتذكر. إلى جانب الشعراء الذين كنت، وأنا مراهق، أتعود على مصاحبتهم طيلة اليوم، كتبٌ وشمتني. الكوميديا الإلهية لدانتي و دون كيخوته لسرفانتيس وهاملت لشكسبير وهكذا تكلم زرادشت لنيتشه. أيام الشباب التي كنا نتوهم آنذاك أنها أيام جهل العالم العربي. أضحك من هذه السذاجة، التي كانت تنفخ فينا نخوة لا نعرف مصدرها. أيام الجهل. وما الذي نعيشه اليوم؟ مَنْ من شبّان اليوم يفتتح عهد قراءاته بهذه الكتب الأربعة؟ وما زلت أتذكر. كان أحد أساتذتنا يردد علينا قولة ابن خلدون "وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن [الأدب] وأركانه أربعة دواوين هي أدب الكاتب لابن قتيبة وكتاب الكامل للمبرد وكتاب البيان والتبيين للجاحظ وكتاب النوادر لأبي علي القالي". ولشدة ثقتي في ذلك الأستاذ، وقفت على أبواب مكتبات حتى كانت الأربعة بين يدي. يتكهن البعض أن ما مر كان عادياً جداً وأن كل استعادة له في شكل تحسر هو من قبيل الحنين. وما العيب في الحنين؟ أنا أشتاق للحنين. لا من أجل نسيان ما أعيش اليوم ولا لشتم الأيام التي تأكل ما تبقى من أيام العمر ولكن من أجل فهم هذا الفارق المنسي بين زمنين ثقافيين. المواقع الإلكترونية اليوم لا تصل بمريدها إلى حالة الوشم بعمل أدبي، مثل دون كيخوته. والحنين من هنا يكون باعثاً على التكلم عن زمن وعن مفعول أدب وعن العين التي كنا بها نرى العالم. ولعل هذا الحنين من فعل القراءة. بل لعله صورة من دون كيخوته علي وأنا أنظر إلى كتاب. ومن كتاب إلى الأدب. وإلى فعله. دون كيخوته المجنون. أليس الجلوس في صمت لحظةً من لحظات دون كيخوته وقد عاد من إحدى جولاته؟ ما يحدث لي أكثر من الحنين. فالنظرة، التي ألقيتها على الكتاب، هي نظرة على عمل بدل أشكالاً وقيماً وأفكاراً وحساسيات. والكتب، التي ذكرتني بها دون كيخوته، أعمال أدبية لشعراء أساساً، دانتي وسرفانتيس وشكسبير ونيتشه، أثرت في مجرى الوضع الأدبي والفكري في العالم. غريب كيف أننا لم نكن نحس بأن هذه الأعمال غريبة عنا أو أنها لا تغير رؤيتنا وإحساسنا وأفكارنا. حتى المواقف المتكررة في الكوميديا الإلهية من نبي الإسلام لم تكن تعنينا كثيراً. ولا الأحكام التي كان دون كيخوته يطلقها حيناً بعد حين على العرب أو على المسلمين. أعمال نستمد منها قراءة الكلمات في زمن كنا نراه حاضراً. ولم يكن ما يمنعنا من الوثوق بأنه زمن ممكن ما دمنا نقرأ الكتب، وما دامت الكتب هي الطريق إلى زمن منفتح. كتب دانتي وسرفانتيس وشكسبير ونيتشه. ما ذا تريد أكثر أيها الشاب؟ وذلك كانت بداية الجنون. دون كيخوته صغير كنتُ فيما أنا لا أفهم ما يحدث لي أو لا أفطن. مجنون بكتب يقرأها وينزل في اليوم الموالي ليحارب من أجل زمن أبيض. نقاء الزمن. الحرية. العدالة. الكرامة. المعرفة. الجمال. الإبداع. ذلك هو الزمن الأبيض. زمن لا تشوبه شائبة كما كانوا يقولون ويكتبون وهم يرفعون أكمام جلبابهم. تعبير يضحكني اليوم. لا تشوبه شائبة. وهو فقط أبيض. أحب هذا الأبيض. الوقوف أمام الأبيض. اللوحة البيضاء. الورقة الممجدة في كلمات ملارمي. وأنا أنظر إلى دون كيخوته. 3 هل هناك أجمل من كتاب يدلك على تاريخ أدبي؟ وعلى تاريخ ذوق أدبي؟ وعلى تاريخ الحساسية الأدبية؟ بأي فرح سنستقبل مفاجأتنا لو أن باحثاً في الأدب أو الشعر قام بكتابة تاريخ أثر كتاب عربي في ذوق وحساسية المجتمع الثقافي العربي الحديث؟ أنظر إلى دون كيخوته لأنه يضيف إلى الصمت مسافة من السكينة. لم أكن أحس أنني خارج الزمن، مع ذلك كنت خارج الزمن. فما فعله دون كيخوته في الأدب الأروبي وفي الأدب العالمي كبير جداً. وصورة المحارب المجنون كنا نتماهى معها في أكثر من حالات حياتنا الثقافية أو الاجتماعية. وأنا متيقن من أن دون كيخوته ينفعنا اليوم في استرجاع الصورة. هؤلاء المثقفون، الذين كانوا في عز مراهقتهم يقرأون عن عالم وعن قيم ثم في لحظة عثروا على أنفسهم وهم يحاربون من أجل تجسيد ما قرأوا. كل واحد من هؤلاء كان دون كيخوته معاصر. القراءة أفسدت العقول. القراءة فتحت النوافذ وبنت الجسور. القراءة وضعت إلى جنب كل قارئ فرساً وسيفاً ودرعاً وسانشو مهذباً لبيباً. وتلك قصة نحتاج لراويتها. هؤلاء المغفلون، الذين غلبت ثقتهم على ذكائهم، هم الذين علينا أن نفهم اليوم ما الذي كان وقع لهم. زمننا يسخر مما كنا نقرأ ومن رد فعلنا على ما كنا نقرأ. ونحن لا نتخلى عن الإيمان بأن ما كنا نقرأ هو أجمل ما كنا نعثر عليه من أجل زمن أبيض. في ليلة وليلات. كلها كانت هدْياً للقراءة. هذا الزمن الحديث، الذي افتتحه دانتي وأرساه كل من سرفانتيس وشكسبير، ثم لم يتوقف في كل من فرنسا فولتير وروسو وألمانيا غوته، هو الزمن الذي كان محجوباً عن أحد مدرسينا وهو يحذرنا من التهاون في حفظ قواعد النحو والبلاغة. كنا أحيانا نسأل بصدق عم يصلح النحو وتصلح البلاغة. فكان الجواب هو الذي كان كل تلميذ عربي يتلقاه في المدرسة وفي الكتب التعليمية. ولكن الأعمال الأدبية، التي كنا أصبحنا نقرأها، لم تكن تغير نظرتنا للزمن بمفرده، بل تغير نظرتنا للشعر العربي القديم ولمفهوم الشعر والأدب. ثم لم تعد اهتماماتنا محصورة في الأدبي المكتوب، بل جاءنا إغراء العين بتعلم كيف نرى عملاً فنياً حديثاً وكيف نبحث عن سمفونية وكيف نلزم مكاننا ونحن ننصت إلى عازف البيانو. وفي كل ذلك ما كان يغرينا بتخيل زمن البياض الذي يلف الأرض. بياض لا نعرف من أين يبدأ ولم نكن نسأل عن البداية ولكننا كنا نحسه بالعين الثالثة. نراه. نتحدث عنه. فكان الجنون. في قراءة دون كيخوته ما كان يسلي. ولكن ترجمة عبد الرحمن بدوي، كانت جدية بلغتها "الجزلة" وبعباراتها المستنسخة أو المقتطفة من أمثال عربية جاهلية. لغة بالعمامة وأحيانا بالطربوش. أبيات سرفانتيس ترجمها عبد الرحمن بدوي ترجمة سقيمة، كما لو كان مكرهاً على أداء تمرين في العروض. ونحن لا نفهم لماذا تكون عربية دون كيخوته هي هذا العربية التي لا تتحرر من الذاكرة القديمة أو لا تبدعها. ولكن مقاطع عديدة من تلك الترجمة قربتنا من هذا العمل الذي جعلنا نشبه مراهقين آخرين في العالم، رغم أنها كانت تشعرنا بأن العربية التي يستعملها عبد الرحمن بدوي تقطع علينا متعة الاستسلام في القراءة وبأن علينا أن نضع فوق رؤوسنا عمائم أو طرابيش. كنا ندرك أنها ترجمة. وأخذنا نفرق بين أدبنا المكتوب بالعربية وأدبنا المترجم إلى العربية. نعم. كنا نعتبر الأدب الأوروبي أدبنا هو الآخر. أدب كل الساعين إلى تحديث عين وتحديث أذن. ولربما كنا ننزله مكانة أعلى من أدبنا القديم في المرحلة الأولى من قراءة الأعمال الأوروبية الكبرى. عالم غريب. منعش. مدوخ. محرض. فيه ننتقل بين الصمت والقهقهات. بين التأمل والمتعة. بين التذكر والحلم. ومنه ننساق إلى أسئلة الأدب العربي. التحديث. الأدب. والفنون. كنا بذلك نمارس قراءة متحركة، متفاعلة. في الثانية الواحدة ندور حول أعمال وأسماء. وفي كل لحظة نلزم أنفسا بقراءة قدماء وحديثين. بالتعود على النطق بصوت مرتفع، حتى ولو كنا في حالة سخط على أنفسنا. 4 كتاب من خلال ترجمة هي الوحيدة، التي كان بإمكاننا الاطلاع عليها قبل قراءة الكتاب بالفرنسية. وما كان يفرحني في قراءة دون كيخوته، وكذلك الكتب الأدبية الأوروبية الكبرى، هو طاقة التحرر التي كنت أحسها. التحرر من قيم وتقاليد. التحرر من تعريفات للأدب والثقافة والحضارة. ثم وها أنا أستحضر، بعد كل هذه السنوات، ما الذي غيره دون كيخوته في حياتي الشخصية. ثم أوغل أكثر في زمن لم أكن فيه أدرك أنني أرتكب حماقة وأنا أسأل كيف لي الحديث عن صورة البشرية التي تعلمتها من الأدب. سؤال من قبيل : هل عالم الأدب، القابل للتقاسم والتبادل، عالم وهمي؟ هل الزمن الأبيض منتوج خيال مريض بالكتب؟ هل عالم البشر الذي وضعته الكتب في كفي، العالم المتحرك، الناطق بلغة الأدب، من شعر ورواية وقصة ومسرحية، هو طريق الجنون الذي نحن فيه حتى اليوم؟ ولم لا يرى الغربي في الأدب العربي ما نراه نحن في أدبه؟ هل قراءتنا للأدب الغربي يجب أن تكون مشروطة بقراءة الغرب لأدبنا أم هي قراءة حرة لا تابع فيها ولا متبوع؟ أسئلة تجول في الصمت. في فضاء مسكون بحياة تلخصها الكتب التي قرأنا والكتب التي ألقت علينا شمساً وظلا. والكلمات تنفلت من قبضتنا. بعد أربعة قرون كتاب. كتب. أعمال أدبية. وأنا جالس أستحضر ما فعلت في متخيل بشري وما أعطته من حق للبشرية في تقاسم الأدب، الذي لا يعنيه أمر الاعتقادات الدينية. كان ظهور الأدب بهذه القوة، في أوروبا المسيحية، يعني التحرر من سطوة الوعي الديني، الذي لا يري في الإنسان سوى الخير أو الشر، الإيمان أو الكفر، النعيم أو العذاب. الأدب شخصي. هو أنت وأنا. في أحوالنا النفسية وفي أخطائنا وجنوننا وأفراحنا ومجهولنا. ظهور الأدب هو العتبة الأولى لزمن الحداثة، حيث البشري يرحل نحو اللانهائي. وفيه لا يكون الأدب كتباً تؤدي بقارئها إلى لزوم المارستانات قديما، أو دخول مستشفيات الأمراض العقلية حديثاً، وإنما يكون لغة جديدة في التخاطب بينك وبيني، في لغات لا يعرف بعضها بعضاً وفي ساحات عمومية. نعم أنظر. أربعة قرون. والعرب لم يصلوا إلى ترجمة هذا العمل ترجمة يستحقها. سليمان العطار قام مؤخراً بترجمة لكتاب دون كيخوته. وكلما حاولت أن أتقدم في قراءتها اصطدمت بلا لغتها. جمل وعبارات لا إحساس فيها بجمال العربية ولا معرفة بها. ترجمة تشوه هذا العمل الأدبي الذي هاجر بين اللغات والنفوس لأربعة قرون. ترجمة تجعلنا نغضب للتساهل في نشرها. فهل بمثلها يمكن لكتاب دون كيخوته أن يعثر على قارئ عربي في مستهل قرن جديد؟ وهل بإمكانها أن تقنعنا بأنها هيأت عدتها لرحلة في نفوس الجيل الجديد من القراء العرب؟ ثم لا أفهم كيف أن هذا العمل يبتعد عنا أكثر مما يقترب، ويجافينا أكثر مما يألفنا؟ تلك القراءة الأولى التي قمت بها لدون كيخوته بالعربية في ترجمة عبد الرحمن بدوي يتضح لي اليوم جمال لغتها. لا أغتم للحذف فيها أو لسواه مما كنت أصطدم به. بتلك الترجمة أحببت عملا هو في مقدمة الأعمال الأروبية التي غيرت الرؤية مثلما غيرت الأدب.