1 عندما قرأت نبأ وفاة إدوارد سعيد، ظللت للحظات صامتاً في مكاني. لم تصدر عني حركة. حتى الأنفاس أحسستها متجمدة. النبأ وحده أكبر من صمتي. إدوارد سعيد. وأنا أثبّت النظر إليه. في حياة رافقته فيها، قريباً، بعيداً، صمتٌ يسري في الجسد كله. عينان تائهتان. والصمت الذي يطول. لا كلمة ولا حركة. شيء أكبر من الحزن وأكبر من الألم وأكبر من البكاء هذا الصمت. هوذا إدوارد يغادرنا. يغادر زمناً عاشه بالمعرفة وبنبالة المقاومة. موته جعلني أستعيد معنى الموت، دونما قدرة على فهم الموت. لحظات الصمت لم تتوقف بسهولة. ربما لم أكن أرغب في العودة الى صحوي. صمتٌ هو النزول الى الطبقات المحجوبة من حياة. الى التيهان بين مناطق الزمن الذي رافقت فيه إدوارد سعيد، قريباً، بعيداً. حقاً، رافقته منذ شبابي، في بداية السبعينات. مذ 1972، عندما نشرت "مواقف" في عددها المزدوج 19/20 أول مقالة قرأتها له عن العالم العربي بعنوان "التمنع والتجنب والتعرف". إحدى وثلاثون سنة. حياة بمنعرجاتها اللانهائية. أعود وأقرأ كلمة نيتشه في تصدير المقالة ذاتها "في المرض يكمن الجواب عندما نميل الى الشك بحقنا في القيام بالمهمات الملقاة علينا". لم أكن آنذاك أعرف اسم إدوارد سعيد. مقالة أولى بوعي نقدي فاتن، في مرحلة الاعتزاز بالانتماء الى الوعي النقدي. معلمٌ جديد. هكذا اتضح لي فور الانتهاء من قراءة المقالة. ثم تلاحقت المقالات في كل من "مواقف" و"الكرمل"، ابتداء من عددها الأول، الصادر في شتاء 1981، وقد نشرت له "الإسلام والغرب". أثناء زيارتي الأولى الى بيروت في 1979، دار الحديث بين إلياس خوري، محمود درويش وأنا عن إدوارد سعيد. تلك كانت اللحظة الأولى التي أتقاسم فيها الحديث مع قريبين لإدوارد سعيد. وبعد سنتين، كُنّا جماعة نزور إدوارد سعيد في بيته بنيويورك. إلياس خوري، عبدالكبير الخطيبي، حليم بركات وأنا. فرح الاستقبال والحوار الفوري. الشرق والغرب، الحرب اللبنانية، الثورة الفلسطينية، أعلام الثقافة البنيوية من رولان بارط وميشيل فوكو الى دولوز ودريدا مع حديث عن سويفت و"الاسم العربي الجريح" لعبدالكبير الخطيبي. لقاء أول أحسست فيه ان الاقتراب من إدوارد سعيد فرح حقيقي. وفي مرة ثانية كان لنا اللقاء بمقر اليونسكو بباريس. كانت المناسبة هي المشاركة في ندوة عن الأدب الفلسطيني. محمود درويش، سليم بركات وأنا الى جانب إدوارد سعيد، برؤية تختلف عما كان دائماً يُراد للأدب الفلسطيني، في الحوار حول فلسطينية أو أدبية الأدب الفلسطيني. وعلى الهامش كان لنا الحديث عن الحياة العربية والثقافة الفرنسية. ولم يكن إدوارد سعيد ينتهي من جلسات الندوة حتى ينطلق صوب مواعيده مع أصدقائه الباريسيين. جيل دولوز فيما أذكر. لمدة يومين كنا نتبادل الآراء والأفكار. جدية لا تفارقها الدعابة والمرح. 2 عندما زرت إدوارد سعيد في نيويورك لم تكن ترجمة "الاستشراق" صدرت، بعد، في الفرنسية. كان عليّ أن أنتظر سنة أخرى. كتاب "الاستشراق" بتقديم تزفيطان تودوروف كان أول كتاب أقرأه له. لم يكن صدور الكتاب في فرنسا ولا كانت قراءتي له حدثاً عادياً. آنذاك اهتزت الخطابات المحافظة بعد قراءتها لهذا الكتاب. وللمرة الأولى كان الغرب المحافظ، الاستشراقي، في مواجهة خصم من داخل الثقافة الغربية. قراءة نقدية تعتمد تحليل خطاب يهيمن بمنطقه واستفراده بالسلطة المعرفية، في المؤسسة الأكاديمية والسياسية. هزة لن تتوقف. وجميع الدارسين للعلاقات بين الشرق والغرب، بين العالم الإسلامي والغرب، يجدون أنفسهم مع أو ضد "الاستشراق". عربياً، لم أكن قرأت كتاباً، بعد كتاب "الايديولوجية العربية" لعبدالله العروي أو كتاب "الاسم العربي الجريح" لعبدالكبير الخطيبي، يماثل القيمة المعرفية والنقدية لكتاب "الاستشراق". لم أكن قرأت الكتب النقدية الأدبية التي كان ألفها إدوارد سعيد. وكان كتاب "الاستشراق" مفتتح زمن وعي جديد. ثم توالت القراءات. كتاب "العالم، النص والنقد" الصادر سنة 1983 عن منشورات جامعة هارفرد، المؤلف بين النظري والتطبيقي، بين الشعر والرواية، بين الأدب والخطاب الاستشراقي، مواصلة للقراءة. والدراسات بدورها تُنشر بين حين وآخر بالعربية. تبين لي آنذاك أن خطاب إدوارد سعيد قائم الذات، وهو نموذج معرفي له منزلة الأعمال الكبرى في القرن العشرين. وهو الى ذلك يجيب على أسئلة مباشرة تخص علاقة العربي بالغرب، أو العالم الإسلامي بالغرب. بوضوح نظري متفرد وبقدرة مبدعة على التحليل والنقد، كان هذا الخطاب ينتقل من الجامعة الى الحياة الثقافية الدولية. وفي كل مرة كنت أدرك خسارة الثقافة العربية في عدم مجاراتها لأعمال إدوارد سعيد، بالترجمة والاستقبال في إعادة بناء أو انتاج الخطاب. وفي سنة 1986 قرأت لإدوارد سعيد ما كنت فقط أسمعه عنه. عالم جديد. الموسيقى. في العدد الحادي عشر من مجلة "الرسالة الدولية"، التي كانت تصدر في أوروبا بلغات عدة، وكنت من المواظبين على قراءتها، صادفت ملفاً عن الموسيقى وضمنه مقالة لإدوارد سعيد بعنوان "البيانو الهام" عن عازفي البيانو، وتتخللها قصيدة للألماني إنسنسبرغر عن فرديريك شوبان. تلك المقالة، التي أعدت قراءتها مرات، جعلتني أمام أحد كبار نقاد الموسيقى في العالم. متابعة متأنية، صبورة، من بلد الى بلد، لعزف أعمال موسيقية، ترسم بدقة صورة الناقد والعازف الموسيقي الذي نجهله. حبي للموسيقى ومعرفتي لبعض أعلامها جعلا من قراءتي لهذه المقالة درساً فنياً يصعب نسيانه، كما حرضتني على متابعة دراسات له أخرى عن الموسيقى، ولربما كان من أبرزها ما كتبه عن الطابع الاستشراقي لأوبرا "عايدة". 3 خلال ذلك كله أخذ وجه آخر يبرز لإدوارد سعيد. وجه الفلسطيني، المقاوم بفكرته وكتابته لأجل فلسطين، ووجه المثقف المنفي. وجهان أصبحا لديّ متلازمين. كتابات رافقت الاحتلال الاسرائيلي والقضية الفلسطينية، بالتحليل والنقد. وكان رفضه لاتفاقية أوسلو وكان محمود درويش رفضها بطريقة أخرى بداية دفاع عن فكرة لدولة فلسطين المستقلة، بقيادتها ومؤسساتها الديموقراطية. فكرة تزامنت والنقد المواكب للمواقف الاسرائيلية والصهيونية والأميركية، التي كانت تُرغم الفلسطينيين على التخلي عن فلسطين وترغم المقاومين على التخلي عن المقاومة. نقد كان له وقعه الفاعل في الإعلام الأميركي وفي الإعلام الغربي والعربي. وهو ما أوجب الانتباه الى كل ما يكتبه إدوارد سعيد بخصوص الصراع العربي - الفلسطيني. ومن فضائل هذا النقد أنه كان يخاطب الغرب من داخل وخارج منطق الغرب ذاته. كانت كتاباته موثقة، خبيرة بالتفاصيل، وهي في الوقت نفسه عليمة بالتاريخ الغربي وتاريخ اليهود وتاريخ القضية الفلسطينية. وهذه كلها مكتوبة بلغة بالغة الدقة والذكاء، ولا تتنازل عن حق الفلسطينيين في بناء دولتهم المستقلة، الديموقراطية، الى جانب الدولة الإسرائيلية. أما وجه المثقف المنفي وثقافة المنفى فهو إدراك نادراً ما نعثر عليه في كتابات عربية أو غربية. تجربة الحياة في أميركا لم تجعل من إدوارد سعيد أحد السعداء بالحياة خارج بلده، فلسطين. إنها الحياة التي كانت مصدر قلق دائم فيما هي كانت عاملاً على التكوين والتفاعل واقتحام الموانع. بتلك الكتابات كنت أتأمل وضعية المثقف في زمننا ووضعية الحياة في المنفى العربي. لهذا المنفى تاريخه الخاص في العصر الحديث بالنسبة الى العربي، أكان خارج الوطن أم داخله. بل هو منفى رافق التحديث الثقافي العربي وكان من مقدمة شروطه، ونحن نظل نعيشه بمستويات نفضل الصمت عنها أو تجنب تحليلها. إدوارد سعيد كان يملك من التجربة ما تنفتح له سبل التحليل. وهذا ما أعطى لكتاباته عن المنفى الثقافي أهمية قصوى في تحليل الوضعية الثقافية لكاتب مفكر لم يتخل عن استكشاف الأبعد في هذه الوضعية. 4 إدوارد سعيد من بين هؤلاء الكُتّاب الذين بلغوا، بموسوعيتهم وصرامتهم وأفقهم المفتوح على حقول متعددة، مرتبة المفكر. وهو لذلك كان من أكبر من علموني في حياة ثقافية وقربوني من تعلّم أسلوب التخاطب مع الغرب في الآن ذاته. كان يعيش في أميركا ولكني كنت على الدوام أقرأه، بحرصٍ خاص، بالنظر إليه كمعلم يُقيم قريباً مني. قراءة دراساته، التي كانت تصدر في مجلة "الكرمل" أو مقالاته الخاصة بالمتابعة المباشرة للقضية الفلسطينية في جريدة "الحياة"، أو محاضراته التي تُنشر في فرنسا، كلها كانت ذات مرتبة واحدة لا تتغير. إنها صادرة عن مفكر عارف ومقاوم في آن. لا مجال للتشويه ولا للتعميم ولا للادعاء. معرفة راسخة وموقف يظل هو هو، مهما انسدت طرق الوعي النقدي أو تحاملت أطراف اسرائيلية وصهيونية وأميركية، ومهما ارتابت في كتاباته القيادة الفلسطينية. هذا هو الدرس الكبير لمعلم لم يقرأه العالم العربي ولم يعرف بعد ما أعطى للشعوب العربية والإسلامية. ولا بد من أن يبقى هذا الدرس بعيداً من الإدراك في حياة ثقافية عربية عرفنا فيها، خلال هذه العقود الثلاثة، نكراناً لمبدأ المقاومة ومسايرة للمؤسسة الغربية والعربية، على السواء. إنه درس المثقف النقدي، الذي يضع فاصلاً نهائياً بينه وبين الامتياز، هذا المرض الذي أصاب طائفة من المثقفين العرب، في العالم العربي أو في الغرب. ففي الوقت الذي كان لإدوارد سعيد ما لم يتوافر لأي مثقف عربي من سلطة في المؤسسة الأكاديمية الأميركية وفي الإعلام الغربي لكي ينال ما يشاء من الامتيازات، اختار الطريق التي تعلمها من الثقافة النقدية الغربية ذاتها. أعني طريق المقاومة، طريق الهامش. ولكنه الهامش الفاعل الذي من دونه تنتفي الثقافة وينتفي دور الكاتب في كل مكان وزمان. 5 هل أقول سلاماً أم أقول وداعاً؟ إدوارد سعيد أكبر من السلام وأكبر من الوداع. سعادتي هي انني عشت في زمن الكبار. وإدوارد سعيد أحد هؤلاء الكبار، الذين تعلمت منهم كيف أطرح السؤال عن الانتقال من زمني الى زمني، وكيف أبقى مخلصاً لما تعلمت منهم، على رغم ان كل ما يحيط بنا في العالم العربي يقدم الهبات أو الخيبات حتى تندم على ما تعلمت وما كنت فعلت. إدوارد سعيد، التحية لك، أكتب. ففي التحية الحياة. التحية هي المحافظة على وديعتك التي أودعتها لدى كل من يزال مؤمناً بأن المقاومة هي ما نملك، وبأن الوعي النقدي هو الطريق. كتاباتك ومواقفك علّمت كثيرين ممن لا نعرفهم، لأنهم اليوم في كل مكان من العالم. إنهم قليلون، معزولون، وهم مع ذلك بفكرك ومواقفك يواصلون طريق المقاومة. أبجدية من أعطوا للبشرية، عبر تاريخها الحضاري، ما تستحق به الإقامة على الأرض.