الذين يتقنون أداءهم مجددين في المزيد مما يفيد أبناءهم ليتخرجوا أكفاءً ينفعهم تحصيلهم الجيد، وليكونوا في الجامعات متميزين يرتقون في تعليمهم الجامعي في وطنهم وفي الجامعات الأجنبية!.. إذاً فالتعليم العام ينبغي أن يتميز إلى أعلى مستوى، وهذا المطلب لا يتحقق عبر خطاب ولملمة دروس ضعيفة لا ترقى بطموح الوطن والغُيّر في كل شرائح الوطن، ووزارة التربية والتعليم والدولة التي تنفق على التعليم الكثير، فينبغي أن يكون العائد يوازي الإنفاق طلباً للمزيد من الإنفاق ليتحقق المزيد من الارتقاء بالتعليم إلى المستوى الذي يماثل الأمم الراقية! إنني أؤكد أنني لم أطالب بمستحيل، وأرجو أن أسمع وعوداً ليست كلاماً، وأن نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم قال: «لا قول إلا بعمل».. ولمزيد من التساؤل: هل هذا الطموح يمكن الوصول إليه ومتى!؟ ويحلق شاعرنا المجيد مع أعلام الغرب والشرق الذين قرأهم في أكثر من لغة الفرنسية وربما الإنجليزية فيقف ليقدم إلى القارئ العربي شيئاً من ثقافتهم في حسن تأمل وإحاطة بتلك الثقافة العميقة الجادة!.. ولم يقف فقط عند ثقافة أمته العربية العزيزة في قديمها وجديدها، من قراءته العميقة لأعلام كبار استوعبهم التاريخ في قديمه وجديده، من خلال إحاطة بثقافة أولئك الرموز الذين عرفهم من قراءته في وطنه لبنان، واتبع ذلك في ترحاله في الوطن العربي بدءاً من فلسطين ثم مصر والسودان والأردن، فأحاط بما أتيح له أن يعرف ويستوعب في أناة ووعي، ولم يجعلنا نتوقف عند شاعر مجيد مع شعره وحده، وإنما قدم إلى القارئ العربي في العصر الحديث نماذج من معارف من قرأ وأحاط ليعيش معه عبر ثقافة متعددة الأجناس ليكون بجانب شاعر النهضة، وأنه قارئ متميز يجد قارئوه معارف لأعلام من الغرب غير بعدين من عصرنا، مع آخرين من مصر في عصر النهضة قبل أن تصادر الثقافة ثورة قضت على ثقافة وطن منجز لثقافات متعددة أتقنها أعلام في زمن كان فيه حياة واستقرار فكري، فصودرت معارفه المكتنزة إلى معارف كثيرة: فكانت الثورة، شؤماً أماتت بدل أن تحيي وتنجز، وهكذا النتائج هدم بدل الإصلاح وإضافة المزيد إلى كنوز المعرفة الحقة، غير أن الخسران هو البديل السيئ، لأن الجهل لا تكون معطياته سوى الهدم والهزائم المتعددة، فبدل الرقي كان الهزائم وإماتة المعارف! وكان البؤس والفقر في كل شيء، وإماتة الشعوب المتطلعة إلى الرقي المدني والحياة الكريمة، إلى كرب وإذلال وسوء مصير وهكذا الثورة أو الثورات العسكرية خراب وتدمير للحياة الكريمة وفساد في الأرض وبؤس وسوء مصير، وفي التاريخ غير البعيد كانت الثورة الفرنسية، تهدف إلى الرقي والحياة الكريمة لأمم طموحة، إذا حسن التغيير نعمة وإذا أدبر فهو نقمة وفساد كبير! ونشير إلى بعض الأعلام الذين حفلت بهم قراءات شاعرنا المتعدد المعارف فؤاد الخطيب، وكان الحديث عن اهتمام الأمم بلغاتها، فنقرأ تحت: قوله بدءاً من ص «107» في ديوانه: بيان لا بدّ منه من الجزيرة الأم، حق الضاد على أهلها، اللغات الأوربية في عصر النهضة - فرنسا، إيطاليا، إسبانيا، البرتغال، بريطانيا، العربية واللاتينية، فترة الخمول، أدب روسيا السوفيتية، كلمة مستشرق مشهور، آراء شتّى لكبار العلماء من الإفرنج والعرب، ختام ونتيجة. أيها القارئ الكريم: من الوطن السعودي المبارك، ومن جزيرة العرب الأم، يخرج هذا الديوان إلى حيز الوجود من زوايا الخفاء، بعد أن طال الأمد عليه، وتشوّق الأدباء إليه. ولقد كان من عادة صاحبه أن يجنح إلى قراءة قصائده على نفر من إخوانه قليل ثم يسبل عليها ذيل النسيان، ولذلك كان النزر الذي نشر منها وأًذيع، إما عرضة للتحريف أو وليد النفثة العجلى الأولى، وقد سدّ الشاعر تلك الخلة في الآونة الأخيرة، فأعاد في شعره النظر، نزولاً على رغبة أبناء وطنه القديم الحديث الذي قد طالما تغنى به في شعره، وفى الأخص في قصيدتيه المشهورتين «لطائف الطائف» و «الحنين إلى الحجاز» ولذلك صدرت هذه المجموعة في بردها القشيب، تثلج صدر الأديب، لما انطوت عليه من البيان العربي الجزل، والديباجة الأدبية المحكمة، يؤدى بهما الفكر الجديد من حكمة وفلسفة، ومن وصف وغزل، ومن القضايا القومية، وفي الطليعة منها «قضية فلسطين والثورات العربية». وإنه لمن حق «الضاد» على أهلها في جميع أقطارهم في إفريقيا وآسيا أن يفرغوا الجهد في خدمتها وأن ينهضوا بما ينبغي لها من ذمة وعهد، فلا يصمها طابع الركاكة، ويعلق بها غبار الابتذال، وإني لأحب أن ألفت النظر إلى ما يأتي من آراء أدبية، ولمع تاريخية. عصر النهضة: إننا ولا مشاحنة في مثل ما كانت عليه الأقطار الأوربية من حالة في صدر يقظتها المعروفة في تاريخها بالنهضة «رينسانس» حين نفضت عنها سنة القرون الماضية ووضعت الأساس الذي قامت عليه ثقافتها العظيمة، وإني أؤكد لقراء هذه السطور أن تلك الأمصار الغربية ما كانت لتبلغ ذلك الشأو لولا أن كل أمة قد اتخذت من لغمن لغتها القومية جامعة لشملها المتبدد، وعروة وثقى لكل وحدة لها في الحس والشعور. فرنسا: وإليك أيها القارئ العزيز فرنسا، فإنها إلى أمد لا يتجاوز القرن السادس عشر الميلادي، كانت «لغتها الفرنسية، بين أهلها، وفي بلادها، أشبه بالعامية بجانب اللغة اللاتينية السائدة فيها، فرزقها الله من حملة الأقلام، وفي الشعر خاصة، أعضاء «السابوع الأدبي» اقتداء بالسبعة من شعراء الإغريق الذين جددوا شباب لغتهم، فدافع أولئك الأدباء الإفرنسيون عن «لغتهم الإفرنسية» على الرغم من احتقار معظم الإفرنسيين لها، وسخريتهم من الناهضين بها، وحسبك أن تعلم أن أخت هنري الثاني وهي «مرغريت سافوا» كانت المؤيدة المشايعة في بلاط أخيها للشاعر «رونسار» رأس السابوع المذكور، غير مبالية بالساخرين منه حتى رفعت من قدره، وحثت التراب في وجوه الذين استهانوا باللسان الإفرنسي الذي كتب به ذلك الشاعر الإفرنسي الغيور. إيطاليا: وإني لأسير مرة أخرى على ما حصل من مثل ذلك في «إيطاليا» فإن «دانني» شاعر المسيحية العظيم، كما سماه «سدني دارك» في كتابه «تاريخ النهضة الأوربية» كان قد نبذ اللاتينية، وعمل على تأييد «لهجة فلورنسا التسكانية» فسادت به على جميع الأقطار الإيطالية، وأصبحت لسان أهلها القومي. إسبانيا: ثم إنك أيها القارئ العزيز إذا مددت نظرك إلى «إسبانيا» وجدتها قد نسجت على ذلك المنوال، فقد حررت نفسها من كل لغة أخرى كانت قد غلبت عليها، واتخذت لهجة «طليطلة» القشتالية لغة عليها عامة، حمل لواءها في القرن الرابع عشر الميلادي»جوان رويز» ثم شد أزرها الأديب الأكبر «سرفانتس» صاحب «الدون كيشوت». البرتغال: وهنالك بلد آخر هو «البرتغال» إن شاعر الأمة البرتغالية في القرن السادس عشر «ذي كاموس» هو الذي وقف في وجه اللغة الإسبانية يوم احتل أهلها «لشبونة» عاصمة البرتغال، فحال شعره دون طغيانها على لغة قومه. بريطانيا: وإني لأحب أيها المطلع الكريم أن أذكرك بما كانت عليه بريطانيا العظمى من عدم اهتمامها بلغتها، فقد كانت تلك اللغة منبوذة في بريطانيا، وكانت الإفرنسية هي لغة السياسة، والمحاكم والبلاط، وإلى جانبها اللغة الأخرى السائدة في الثقافة وهي اللاتينية، حتى جاء الشاعر الإنجليزي العظيم «تشوسر» منذ أربعة قرون ونصف القرن فجعل من لغة أهل لندن وأكسفورد أساس لغة عامة ما لبثت أن شملت البلاد الإنجليزية بأسرها، وباتت لغة الأمة جميعها، في حين كان الشاعر الآخر «جور» صديق تشوسر نفسه يأبى إلا أن يكتب معظم شعره بالإفرنسية واللاتينية، ومن الأدب اللاتيني القديم. وأما أول ملهاة كتبت باللغة الإنجليزية في بريطانيا فهي التي أنشأها «يودل» حتى جاء شكسبير وأنداده فارتفعوا بلغتهم إلى الأوج وكتب لها النصر في إنجلترا على كل لغة أخرى فيها. الشعراء والدولة: ثم إن معظم شعراء أوربا قد اشتركوا في سياسة حكوماتهم، فكان تشوسر عضواً في البرلمان البريطاني عن مقاطعة «كنت» ومندوباً عن مليكه في بعثات سياسية، فكاتباً خاصاً للملك نفسه في سنة 1389. وكان «أريستو» شاعر إيطاليا الأكبر - وإن يكن من المقلين فيها - حاكماً لولاية الابنين، وحدث أن أغار اللصوص على أطراف الولاية، ووقع «أريستو» أسيراً في أيديهم، فلما عرفوه اعتذروا منه بكل خشوع ومشوا خدماً في ركابه إلى عاصمته، لأنهم ذكروا قصيدته الشهيرة «أورلاندو» الثائر. وكان الشاعر الإفرنسي «لامرتين» صاحب قصيدة «البحيرة» من رجال السلك السياسي الإفرنسي، وعضواً في مجلس النواب، غير متحيز في أول أمره إلى الأحزاب، وقيل له عند دخول المجلس النيابي أين تجلس؟.. قال «على السقف» مشيراً إلى استقلاله. وفوق هؤلاء جميعاً يأتي شاعر ألمانيا الأكبر «جوهان ولفانج غوتيه» فقد كان رئيساً للوزارة في دوقية «فيمار» في حكم الأمير كارل أوغست، وطال عهد وزارته، ومثل هؤلاء غيرهم من أقطاب الأدباء والشعراء في الغرب حتى الملوك، ومنهم الملك «جيمس» الأول الأسكتلندي، وكان معجباً بشعر تشوسر وأشهر ما نظم ذلك الملك قصيدة له غزلية في غانية تزوجها فيما بعد. أيها القارئ الكريم: لقد ذكرت لك نبذة يسيرة عن نهضة أوربا، وصلة ذلك بلغتها، وإنه لمن المسلم به، أن دعائم ذلك السؤدد والمجد إنما هم شعراؤها ثم كتّابها، فإنهم كانوا حراس اللغة، والعاملين على بعثها، وذلك على الرغم من كل عقبة كئود، ومن كل جهل من أهلها لها وصدّ عنها. وما ضربت لك الأمثال من أوربا إلا لأننا نحن العرب، قد اتخذنا الأمم الأوربية مثلاً لنا أعلى في النهضة وقدوة، وذلك ليكون الجيل الجديد الذي يحاول أن يعبث به المضللون من «الشعوبيين» على ثقة من أمره، وعلى بينة من كيدهم اللئيم في الطعن على العربية والغض منها. العربية واللاتينية: فإذا كانت اللاتينية التي أعزها ونهض بها السيف الروماني الباتر فقد انهزمت فيما بعد أمام اللهجات العربية واللاتينية: فإذا كانت اللاتينية التي أعزها ونهض بها السيف الروماني الباتر فقد انهزمت فيما بعد أمام اللهجات الأوربية المختلفة فإن «العربية» ولله الحمد، لم تستطع أن تهزمها اللهجات العامية التي انتشرت في شتى أقطار «العروبة» ولا اللغات الأخرى الأجنبية المزاحمة لها في عقر دارها، ولا شعوذة الموسوسين في صدر النشء العربي باسم التجديد، وكذلك بقيت تلك اللغة العصماء على جلالها ورونقها وظلت وهي الحبل المتين بين بلاد العرب قاطبة، في آسيا وأفريقية، وما برحت في الوقت نفسه الصلة الخالدة بينهم وبين تاريخهم المجيد في مختلف العصور، وحسبها خلوداً، وكفاها بركة، أن القرآن العظيم بها نزل، وقال تعالى فيه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. فترة الخمول: إن العرب قبل نهضتهم هذه المباركة الأخيرة في المدارس الجامعة، والكلية، وفي الثانوية والابتدائية، وفي الترجمة والتأليف، وما إلى ذلك كله من أسباب الثقافة والعلم كالصحافة والإذاعة، إنما كانوا في خمول طال عليهم زمنه، فوق مالج بهم من استنكار لغتهم، وحسبك أن تقرأ ما كتبه أكبر مؤلف في العرب قاطبة للمعاجم ألا وهو «محمد بن مكرم» صاحب معجم «لسان العرب» فقد قال في مقدمة ذلك الكتاب الجليل ما يأتي: «لقد أصبح اللحن في الكلام يعدّ لحناً مردوداً، وصار النطق بالعربية من المعايب معدوداً، وتنافس الناس في تصنيف الترجمانات في اللغات الأعجمية وتناصحوا في غير العربية، فجمعت هذا الكتاب في زمن أهله بغير لغته يفتخرون، وصنعته كما صنع نوح الفلك وهم ينظرون». وإنه لجدير بي أن تكون هذه الكلمة هي جوابي لمن عسى أن يلج به النزق من بعض أبنائنا الغلاة المسرفين في بعض أقطار العرب الناهضة، وأود كذلك أن يطلعوا - فيما نحن بسبيله من الأوبة المفحمة - على ما ذكرته مجلة «آخر لحظة» المصرية. أدب روسيا السوفياتية: قالت مجلة آخر لحظة الغراء الصادرة في القاهرة عدد «336» بتاريخ 18 مارس 1953 ما يأتي. «من أغرب ما قرأت مقال «لستالين» زعيم الدول الشيوعية ناقش فيه أولئك الغلاة المسرفين الذين يدعون إلى التخلص من التقاليد في روسيا بدعوى أنها تقاليد العهد القيصري الذي كان يقوم على الظلم، ذلك أن هؤلاء كانوا قد أخذوا بالقول بأن «أدباء» السنين السابقة لثورة 1917 مثل تولستوي ودستويفسكي، لم يعودوا يصلحون للقراءة المنبهة لأنهم كانوا يأخذون بالقيم الإنسانية والاجتماعية التي لا تتفق والقيم الحاضرة في دول الاتحاد السوفياتية، ثم كان هنالك غيرهم ممن زادوا في الغلو والإسراف فصاروا يقولون إن اللغة نفسها يجب «أن تغير» لأن كلماتها التي تحمل «المعاني التقليدية القديمة» لا يمكن أن تؤدي «المعاني الثورية الجديدة» وقد حمل عليهم «ستالين» حملة غير رفيقة، فأشاد بالآداب الروسية القديمة، وأطرى جمال اللغة الروسية وقال حسبنا أن نعدل وننقح في المعاني التي تقتضيها الظروف الجديدة وإن «التراث البشري من الآداب والفنون لا يمكن أن ينكر قيمته سوى المجانين». العربية في نظر مرجليوث: ثم إني لأود أن أسجل ما قاله المستشرق المشهور الأستاذ مرجليوث عن العربية وذلك في محاضرة له ألقاها بالعربية نفسها من محطة الإذاعة العربية في لندن، خلال الحرب الكونية الثانية، وهي بنصها: «إن العربية لغة عاشت أجيالاً طوالاً محتفظة بصرفها ونحوها، ومعاني مفرداتها، من غير أن يكون لها أدب مكتوب، الأمر الذي يستدعي عناية فقهاء اللغة واهتمامهم». ثم قال: إن تلك اللغة لعجيبة في انتشارها ورشاقة تعابيرها، ودقة تركيبها، وغنى مفرداتها، وإنا لنجد في «نحوها» الواسع تعليلاً وتفسيراً لكل ما يواجهنا من التراكيب الشاذة في اللغات «السامية» الأخرى على الرغم من أن لهذه اللغات آداباً قديمة يرجع تاريخها إلى عصور قديمة جداً، فمن ذلك ما نجده في «التوراة» من التراكيب الشاذة المعقدة التي لا تستقيم و «نحو» اللغة العبرية، والتي لا نجد لها تعليلاً وتفسيراً إلا بالالتجاء إلى «النحو العربي» إذ هو النحو الوحيد الذي نجد فيه ما يوضح لنا كثيراً من معميات التوراة وما خفي من تراكيبها الشاذة». (انتهت كلمة الأستاذ مرجليوث بنصها العربي) التشابه العظيم: وإني لأصرح لأبناء قومي العرب في جميع أقطارهم الآسيوية والأفريقية بأن هنالك صفات عديدة مشتركة بينهم اليوم وبين ما كانت عليه بالأمس الشعوب الأوربية الأخرى في بداية نهضتها المعلومة منذ سقوط الدولة الرومانية الشرقية، بيزنطية، في القسطنطينية إلى الزمن الحاضر، وذلك لما هم عليه، ولله الحمد، من شوق إلى العلم شديد، ومن تهافت إلى المعرفة عميم، ومن رغبة في لمّ الشعث ملحة، فالواجب المحتم عليهم، والحالة هذه، أن يحرصوا كل الحرص على لغتهم العربية الشريفة فإنها وسيلتهم الأقرب إلى العلم ثم إنها الضامنة لجمع شملهم، وتفاهمهم، والمبقية على شخصيتهم وذاتيتهم، والمحافظة عل كرامتهم، وعلى آمالهم الواسعة، ثم إن عليهم في الدرجة الأولى أن يعرفوا لشعرائهم مقامهم ومكانتهم، وأن يذكروا لهم بلاءهم في إحياء لسانهم العربي وشعورهم القومي، وإضاءة سبيلهم الثقافي في الأخص، وإن على الأدباء العرب، فيما يلوح لي ويجول في خاطري، أن يجعلوا شعارهم الأدبي ما يلي: صياغة الفكر الجديد السليم، في القالب العربي الصميم، وإنه لخليق بي أن أقتبس الكلمات التالية تنويراً للأذهان، وزيادة في البيان: الدكتور منصور فهمي: قال العلامة الجليل الدكتور منصور فهمي كاتب سر مجمع اللغة العربية بمصر في خطاب له ألقاه في مدرج الجامعة السورية بدمشق: ومع إقراري، أيها السادة، بصحة ما قيل في الإشادة بلغة الضاد البشرية وجبلة الإنسان من معنوياته وتأملاته وخطراته وإشراقاته ولماحته، ولها طواعية فيما يتصل بعلاقة الإنسان المادية واضطرابه بمسعاه في معترك الحياة».. ثم قال: «وفي كل يوم تمتلئ آذاننا باللغة العربية القريبة من اللغة الأمامية الفصحى، أنا أعرف منذ ستين عاماً الرجل العامي: البواب والسواق أو من ماثل السواق، سائق العربة مثلاً.. السواق زميل في هذا الزمن.. في هذا الزمن أصبحت لهجته وتراكيبه في الحديث معي أقرب وأعلى من لهجة زميله منذ خمسين عاماً مما يدل على أن اللغة تسير على خلاف مسير اللغات الأخرى». اللغات الأخرى كانت تتفكك من الأم لتسير بعيداً عنها، فلو بعث لاتيني اليوم لما فهم اللغة الفرنسية ولو أراد فرنسي أن يفهم كلامَ لاتيني بعث لما استطاع بخلافنا نحن فلو بعث عنترة وأراد أن يتغزل بعبلة في أبياته إذاً لفهمنا جميعاً شعره حتى هذا السوقي الذي في الشارع. إيفور إيفانس: قال الأديب الإنجليزي المعاصر إيفور إيفانس في كلمته المنشورة في الجزء الرابع من السنة الثانية لمجلة الأدب والفن الصادرة باللغة العربية في لندن وهي: «إن التبادل العقلي ينبغي ألا يعرف حدوداً قومية، ولا حواجز جمركية، فإن «تشوسر» كان مديناً لمعاصريه من الأوربيين ديناً يجعله يُسمى «شيخ المترجمين» وكذلك «شكسبير» فهو شخصية قومية عظيمة ومع ذلك ففي عنقه دين كبير للأدب الروماني العريق، ولما أخرجته أقلام معاصريه من الأوربيين. وجاء في مجلة باريس العربية في العدد الأول الصادر في يناير لسنتها الأولى 1957 ما يأتي: قال «بول كلوديل» أحد أقطاب الأدب الفرنسي المعاصر إن في الكلمة عنصر إيحاء، وعنصر موسيقي وقوة فكر. ثم قالت المجلة المذكورة: «قال الأستاذ المستشرق وليم مارسي، وقد توفي حديثاً، في كلامه عن اللغة العربية: «كل جذر عربي في هذه اللغة هو قيثارة لا يمس وتر من أوتارها إلا خفقت للمسه سائر الأوتار، وكل كلمة تبعث بالإضافة إلى وقعها الخاص تواقيع خفية لأخواتها من الكلمات، وإنها تتخطى حدود معناها المباشر موقظة في أعماق النفس موكباً من المشاعر والصور». وقال الدكتور طه حسين في كتابه مع أبي العلاء في سجنه: «أحب أن يقاوم شباب الكتّاب والشعراء بعض المقاومة هذه الثورة العنيفة التي ثرناها على العناية باللفظ، وأن يقدروا أن للألفاظ في ذاتها قيما ذاتية تقدرها الأذن وتحدث في النفس لذة موسيقية خاصة لا ينبغي أن يهملها الأديب بل يجب أن يُعنى بها ما وسعته العناية، بشرط أن لا تفسد عليه معناه ولا تضطره إلى الهذيان والاستغلاق». وقال الدكتور عبد الوهاب عزام في كتابه ذكرى أبي الطيب: «إن الشعر في حاجة إلى ما يسمو به إلى مستوى الفلسفة، والنظر البعيد الشامل، وليست الفلسفة منافية للشعر وكل حقيقة في هذا العالم تدخل في الشعر إذا صبغها الإنسان بعاطفته فأبان بها عن حزن أو ألم أو تعجب أو حيرة... إلخ» ثم قال: «وقصائد الحروب كلها (أي في شعر المتنبي) هي ثماني عشرة قصيدة في واحد وسبعين وسبعمائة بيت، وأقول إن هذا المقدار من الشعر الحماسي البليغ في ديوان الشاعر العربي (أي المتنبي) لا نظير له في «الإلياذة» ولا «الشهنامة» وأحسبه منقطع النظير في «الإينيادة» الرومانية و «بهرتا» و «الراميانا» الهنديتين، وهي (أي قصائد المتنبي) أروع شعر حماسي في اللغة العربية. وقال الفقيد الجليل الأستاذ أحمد أمين - رحمه الله - في كتابه «قصة الأديب في العالم» في الجزء الثالث من القسم الأول: «في رأيى أن كل أدب كغدير الماء، إذا لم تمده من حين لآخر بماء جديد تعفن وانتن، وكالأسرة الكبيرة إذا ظل أفرادها يتزاوجون فيما بينهم هزلوا وذبلوا وشاعت فيهم الأمراض ما لم يتزاوجوا من غيرهم». ثم قال: «وإذا نحن نظرنا إلى الأدب العربي وجدنا أن الأدب الجاهلي وامتداده في العصر الإسلامي بدأ يركد». ثم قال: «ولكن مظهر الركود في نظري كان في قلة المعاني الجديدة وتكرار المعاني القديمة، واقتصار الأدب على الأقوال المأثورة في الموضوعات الموروثة». مستوى اللغة: أما القول بالنزول إلى مستوى العامية باللغة أو الاكتفاء بها، معاذ الله فهو دسيسة على العروبة أجمع وتمزيق للمجموع العربي، وإن العرب في جمهرتهم الساحقة، قد فطنوا - ولله الحمد - لما تنطوي عليه هذه الدسيسة الفظيعة من خطر داهم وهم ولله الحمد والشكر بالأمس واليوم وإلى الأبد ما يزالون متمسكين بلغتهم عاملين على خدمتها في كل مصر وإن لها المستقبل الباهر بإذنه تعالى، وإني لأذكّر أبناء قومي العرب الأحرار بأنه قد كانت هنالك عامية في التاريخ العربي وفي الأخص بعد الفتح العربي العظيم، ولكن اللغة أبت إلا أن تكون بحيث هي من السؤدد والمجد، وقد حرص عليها فصحاؤها، وأمراؤها، ومجموعها الكريم، كل الحرص، ولعل القارئ الكريم لا يجهل ما وقع للمتنبي مع أولئك اللاحقين بالعامة في عصره». الأدب العالي: ثم إن الأدب العالي الرفيع، وإن لم تسبقه الدعاية تمهد له، فإنه لا يلبث أن يشق طريقه إلى قلوب الجماهير المثقفة فتشغف به وتؤثره وتنبذ الكلام السخيف نبذ النواة، وحسب القارئ الكريم أن يعلم أن الشاعر الإنجليزي العظيم «فتزجرالد» عندما ترجم بعض رباعيات الخيام من الفارسية إلى الإنجليزية لم تجد تلك الترجمة حتى بين رجال الأدب الإنجليزي في أول الأمر أى إقبال، وهبط ثمن النسخة منها إلى «بنس» واحد، ولكن بلغ ثمن النسخة فيما بعد سبعة شلنات ونصف الشلن، ثم بيعت بعض أعداد الطبعة الأولى بستين جنيهاً إنجليزياً». ختام ونتيجة: وإني لا أود أن أزيد شيئاً على ما أوردته إلا قولي: إن النهضة الأوربية رجعت خمسة عشر قرناً إلى الوراء، فاتصلت بأفلاطون وشيشيرون وهوميرس وفرجيل وأمثالهم من العباقرة، فتأثرت بهم كل التأثر وقد استطاعت عن تلك الطريق أن تفضي إلى إيجاد أدب قومي خاص في إنجلتراوفرنسا وإسبانيا وغيرها، فكان ذلك بداية الابتكار الذي امتاز به عصر النهضة في أوربا وأساساً لما بعده، وإنه لجدير بالعرب في عصرهم الحاضر أن يصلوا إلى نفس النتيجة بالاطلاع، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، على الآداب الغربية عامة والشرقية خصوصاً التليد منها والطريف، فيتم لهم «التلقيح» الذي لا بد منه للتجديد الفكري. ولما كان هذا الديوان من ذلك الطراز، وكان من الذخائر الخليقة بالتدوين، فقد تكلف نفر من أدباء الوطن السعودي، مشقة جمعه، وشرح ألفاظه لفائدة الطلبة في الأكثر، وترتيب أبوابه، وها هم يخرجونه اليوم من الظلمة إلى النور، ويجعلونه بين أيدي القراء في العالم العربي، وإنه فوق ذلك كله ليذكرهم بجزيرتهم الأم، ويلفت إليها أنظارهم، وإنه الصارخ فيهم منها، والقائل لهم عنها،إيه بني إيه بني العرب احذروا أن تنكروا نسباً هو الحسب الصراح الأول. إن سلّ بين قديمكم وحديثكم سيف فإن قتيله المستقبل ** ** ** «1» انظر الديوان ص 94 .........................................................(تمت)