1 كان عبده وازن كتب، قبل أيام في"الحياة"، مقالة يتناول فيها موضوعاً أدبياً يشجع على الحوار. إنه ينتقي ما أطلق عليه"صرعة فرنسية"في العمل الأدبي. قد يبدو الموضوع عند الوهلة الأولى رتيباً، من صنف مواضيع الإثارة التي لا تحمل قيمة أكثر من الاطلاع العابر. موضوع يتناول اختباراً في العمل الأدبي، على غرار اختبارات نطلع عليها بين الفينة والأخرى في بلاد غربية أو آسيوية، ومن المتعذّر العثور عليها في العالم العربي. هي ما نصطلح عليه باستعمالنا كلمة"صرعة". أُعطي الموضوعَ مرتبة الاختبار حتى لا نبالغ في تأويل التسمية فنجعل منه ممارسة أو تجربة. لكل من هاتين الكلمتين تاريخ دلالي يصعب التحايل عليه أو التنقيص من شأنه. لذلك فإن تصنيف الموضوع ضمن الاختبار يتركنا في منطقة الوصف الأقرب إلى الملاحظة. ذلك هو شأن القراءات الذكية عندما تغرينا، من غير سوء، بالانتباه إلى"شيء"أدبي أو فني. هو الانتباه المطلوب في المتابعة اليومية للحياة الثقافية، هناك وهنا، في العالم. وعبده وازن يلتقط هذه المرة، خلال متابعاته للجديد والمفيد، موضوعاً قد نقرأه فلا نبالي بما نقرأ. فالتعود على قراء الصحافة اليومية يفقدنا أحياناً قدرتنا على الانتباه لما يجب الانتباهُ إليه. موضوعٌ على هامش القيم الأدبية السائدة والمتداولة. بل على هامش تاريخ أدبي حديث في العالم. وماذا بعد؟ سؤالٌ استنكاري لا يقوَى معه القارئ على متابعة القراءة، التي تبدأ فور الانتهاء من الاطلاع المباشر على الموضوع. ولك الأمر. صرعةٌ فرنسيةٌ تخص اختباراً في إنجاز أعمال أدبية. إنها مسألة تعود إلى الأدب. وأهل الأدب معنيون بها. هذا أول ما ينبغي مراعاته. أهل الأدب أمام صرْعة فرنسية في اختبار القدرة على إنتاج عمل أدبي. وبهذا يصبح الخطاب محصوراً بين طرفين هما القارئ العربي والاختبار الفرنسي في عمل أدبي. وهو برأي عبده وازن صرْعة. بل هو تأكيداً صرعةٌ فرنسية. بين طرفين ومخاطبين، واقعةٌ قد لا ننتبه إليها ونحن نقرأ مقالة في صحيفة. وفي عدم الانتباه إشارة إلى اليومي الذي يفسد القراءة. مع ذلك يمكن أن نقرأ. أقصد الذين يستطيعون الإفلات من زحام الأخبار والقراءة اللامبالية. في القراءة نلتقي بهذا الذي أقدمتْ عليه في فرنسا جماعةٌ من أجل التعامل مجدداً مع قضية من قضايا الأدب، تتناول التأليف الأدبي. تلك هي قضية ما يعرف باسم"ما قبل النص". لكنها هنا صريحة. التوجّه إلى أدباء بطلب إعادة كتابة أعمال أدبية معروفة. أي كتابة أعمال أدبية ذات مرجعية أدبية معلومة ومشهورة في الوسط الأدبي في الثقافة الفرنسية. كتابة نص بالاعتماد على نص آخر. إعادة كتابة مصرح فيها ب"ما قبل النص". في التصريح تصبح العملية ضمن الاختبار وضمن ما استحث عبده وازن على وصفه بالصرعة الفرنسية. 2 هو نوعٌ من التحدي للذوق الأدبي. ونوعٌ من التحدي لقيم الكتابة الأدبية، التي ترفع من شأن الأديب الخالق من لا شيء. الشاعر، الروائي، القصصي، المسرحي. التصريح بإعادة كتابة نصوص من طرف كُتّاب لهم اعتبارهم في الحقل الأدبي الفرنسي. تلك هي الصرعة، التي عوّدنا عليها أوروبيون في أكثر من مناسبة. وفي أكثر من بلد. وهي، عندما تحدث في فرنسا، تصبح ذاتَ معنى خاص. ففرنسا هي مصْدرُ القيم الأدبية الحديثة، أو هي التي احتضنت هذه القيم، في فضائها الثقافي الحر، الذي كان لها وتعمل على بقائه، على رغم تبدل الأحوال الأدبية والفنية والثقافية في العالم. كان من الممكن أن تكون المقالةُ عاديةً ولا تثير رغبةً في الوقوف عند كلماتها وعباراتها. موضوعُ صرعة فرنسية في زمنٍ لا يلتفت للصرعة ولا لفرنسا. الأدب الآن في العالم على نحْو لم يكن له في زمن الدادائيين ولا السورياليين ولا حتى في زمن الالتزام والرواية الجديدة. كما أن فرنسا توجد الآن في مكان يختفي عن أنظار المتتبعين للشأن الأدبي والفني في العالم. الأعمال الأدبية التي تباع بالأعداد الضخمة ليست فرنسية والكُتّاب الفرنسيون ليسوا الأبرز في العالم. خبر لا يحتمل أكثر من تسلية عابرة وانتهى ما كان يمكن أن يتحول إلى موضوع مفيد. لكن هناك ما يأتي ليستنهض القراءة من جديد. ذلك ما علق به عبده وازن على هذا الاختبار عندما لاحظ أن الكتاب العرب لا يتنازلون عن مكانتهم الأدبية العالية ليعلنوا على الملأ أن عملاً لهم هو إعادة كتابة لعمل أدبي سابق عليهم. تلك هي المسألة التي تمنح المقالة بُعداً يشجّع على الحوار. نحن هنا أمام قضيتين منفصلتين. الأولى هي الطلب العلني من كاتب أن يُعيد كتابةَ عمل أدبي آخر وينشره بصفته إعادة كتابة لهذا العمل الأدبي المعروف في الوسط الثقافي والأدبي. ثم قضية سلوك الأديب العربي، الذي لا يتنازل عن مكانته في الكتابة على غير مثال، وفي احتقار منطق التصريح بالإبداع على أساس إعادة الكتابة. وهما قضيتان غير متساويتين من حيث المقدمات والنتائج، بخصوص الأدب وتاريخه في الغرب والعالم العربي. ومصدر غير التساوي هو أن الكتابة بما هي إعادة الكتابة أصبحت من قبيل المحاور النظرية المُتقادمة في الخطاب المعرفي، شعرياً وسيميائياً. منذ أربعة عقود، كان النقدُ الفرنسي اشتغل على أنماط التداخل النصي. وقد تمت، منذ بداية السبعينات، ترجمة الكثير من الآراء بهذا الشأن إلى العربية واشتغل عليها باحثون أكاديميون وشاعريون. وهو ما شاع تحت اسم التناص. وتلك مسألة نظرية مفيدة ولكن لا جديد فيها. ما يهمني في المقالة هو ملاحظة عبده وازن على سلوك الأديب العربي الذي لم يتنازل عن مكانته ولم يختبر إعادة كتابة أي عمل أدبي معروف والتصريح بإعادة الكتابة هذه. مقابل لا تنازل الأديب العربي وعدم اختباره، هناك الأديب الغربي الذي يتنازل ليختبر"شيئاً"ليس من وظيفته الحديثة. ومن ثم فهو نموذج الأديب الذي أخفقنا في الوصول إليه. إنه نقدٌ للأديب العربي، من دون تحديد زمان ولا مكان. هذا هو الأديب العربي. لا يتنازل عن إنتاج عمله باستقلال عن الاعتماد الصريح على عمل غيره. وهو الأديب الذي لا يقدر على استيعاب العمل الأدبي، بما فيه من"صرْعات"أدبية غربية. منذ أكثر من قرن وهو يحاول التعلّم من الغرب ولكنه في خاتمة الفعل يظل كما كان، دون الغربي في النزوع نحو المغامرة. تلك بنية ذهنية عربية مترسبة في التعامل مع الأدب وفي التعامل مع الإنتاج الأدبي. 3 أبادر إلى القول بأن عبده وازن يعتمد في قراءته المقارنة بين ثقافتين وتاريخين أدبيين، منطلقاً من المقارنة ذاتها التي تم اعتمادها في العصر الحديث لقراءة الأدب العربي. هذه المقارنة هي التي تصدر عن الأدب الغربي كمعيار وحقيقة لقراءة الأدب العربي القديم. بيننا اليوم وبين هذه القراءة أكثر من قرن. وبيننا وبينها معارف جديدة واستكشاف أعمال أدبية عربية قديمة وإنتاج أعمال عربية حديثة. مع ذلك فإن المنطق التفاضلي هو نفسه الذي يظل قيمةً سائدةً عندما نريد قراءة وضع أدبي غربي. نحن، بمنطق كهذا، مُجبَرون على المقارنة من ناحية وعلى التذكير بالنقص، الذي هو خصيصة أبدية للأدب العربي القديم والحديث. هذا المنطق غير صحيح. فالدراسات الحديثة حررتنا منه، والأعمال التي أنجزها العرب ساهمت بدورها في تحريرنا منه، والعلاقة المباشرة بالثقافة الغربية حررتنا منه. وهذا ما علينا مراعاتُه في التعامل مع القضايا النظرية التي تخص الأدب، أو المقارنة بين الأدبين الغربي والعربي. نحن لن نطالب الأدب الغربي بأن يكون على غرار الأدب العربي. ولن نعثر بيُسْر على غربي يقارن بين الأدبين العربي والغربي فيعلن أن الأدب الغربي أو الأديب الغربي متخلف عن الأدب العربي أو الأديب العربي. هذه بديهية. ولكننا، في الوقت نفسه، قادرون على تصحيح جانب، على الأقل، من صورة الأدب العربي أو الأديب العربي، تلك الصورة الموروثة عن عصر النهضة. لا يوجد أدب في العالم لم يعرف اختبار أنماط وأشكال كتابية لانهائية. تلك هي عجائب الأدب التي يستحيل علينا التعرف عليها في كليتها. عجائب هي ما كان قديماً يدعو لإنكار ما يرد على الشخص أو الجماعة لقلة اعتياده، كما جاء في"لسان العرب"عن معاني العُجْب والعَجَب. نجرؤ على الحديث عن بعض الاختبارات التي وصلتنا، عن طريق الغرب مباشرة أو عن حضارات قديمة. عجائب كان للأدب العربي فيها نصيب كبير. ونحن بكل تواضع لا نعرفها بسبب أننا لا نعرف منه إلا ما يدلنا الغرب على معرفته. تلك مشكلتنا التي يصعب إيجاد حل لها في زمن منظور. من كان في القرن التاسع عشر العربي يتخيل أن"ألف ليلة وليلة"ستصبح عنواناً على عمل أدبي عربي خالد؟ نموذجٌ واحدٌ يحذرنا من الأحكام التي ساقتنا إلى قراءة سجنت الأدب العربي في نموذج غربي في عصر النهضة ثم استمرت حتى الآن. هنا يمكننا الاستفاضة. وهو ما يتعلق بالشعر الجاهلي أو الأدب الأندلسي والمغربي وأدب العصور المسماة بالانحطاط. نحن لم نقم بعد بما علينا القيام به لإعادة قراءة وتصنيف الأدب العربي القديم. وبخصوص الإعلان الصريح عن إعادة كتابة شاعر لعمل أدبي سابق عليه، أشير إلى أسلوب المعارضة. لهذا الأسلوب في الشعر العربي تاريخٌ لم ندرسه إلا من جانب حديث هو معارضات الشعراء التقليديين للشعراء القدماء، الذين تعودنا على وصفهم بالشعراء"الفحول". لا أحد منا يستدرك هذه النظرة ويتناول من جديد المعارضات التي بدأت مع الموشحات في الأندلس وخارجها، ثم الأزجال، ثم ترسخت مع تائية ابن الفارض أو ميمية وهمزية البوصيري. هذه نماذج للتنبيه. وهي أعادت صياغة مفهوم الشعر في عهد أدبي عربي أطول من عهود سابقة عليه. 4 كيف يمكننا النظر إلى هذه المعارضات القديمة؟ أحصر الحديث في المعارضات القديمة لأنها تختلف، من حيث الاستراتيجية الكتابية ومن حيث القيم الشعرية والجمالية، عن المعارضات التي مارسها الشعراء التقليديون من البارودي إلى شوقي إلى الجواهري وجميع أهل التقليدية. في الاختلاف إبدالٌ للبنيات والاستراتيجيات الكتابية. ونحن هنا يهمنا معرفة الجواب على سؤال يتوجه نحو ممارسة شعرية قام بها شعراء كانت لهم المكانة العليا في زمنهم. أول ما يمثل الجواب هو أن اشتغال شعراء على أعمال شعراء سابقين عليهم كان من أصول الكتابة الشعرية والأديبة. ولكن ما يكتسب قيمة الاختلاف هو"التصريح"لدى أصحاب المعارضات القدماء بالأعمال التي يعتمدونها وبأسماء أصحابها. كان الأمر في الشعر محصوراً في متن الموشحات، الأزجال، الأمداح النبوية. وهذا المتن يهاجر من منطقة ثقافية إلى أخرى، بعكس ما نحن عليه اليوم. فالأزجال الأندلسية، مثلاً، كان أكبر المقعّدين لها والعارفين بشأنها هم المصريون والعراقيون. ثم عارضها شعراء من جميع البلاد العربية، فضلاً عن المعارضات الفارسية والتركية. وكذلك الأمر بالنسبة الى التصريح بمعارضة تائية ابن الفارض وميمية أو همزية البوصيري. إعادة كتابة تعتمد التصريح. هذا ما أريد توضيحه. إذا كان الفرنسي اليوم يستجيب لطلب إعادة كتابة أعمال، ذات مكانة في الموروث الأدبي الفرنسي، وكان قبوله بهذا الاختبار دليلاً على تواضعه، فما الذي يجعلنا نرى فيها نموذجاً على التواضع؟ وما الذي يصدّنا عن رؤية الاختبار ذاته في الأدب العربي القديم وعلى يد شعراء كانوا بدورهم قابلين بإعادة كتابة ذات مرجع مصرح به؟ سؤالان نقوض بهما مسلّمات القراءة التي تستبد بنا وبوعينا النقدي والنظري على السواء. وهما يساعداننا في إدراك ما لا نعتقد أنه يستعجل الإدراك. في الرؤية إلى القيم الثقافية والأدبية، الحديثة أو القديمة. ولنا في العصر الحديث أعمال أدبية صرحت بعودتها إلى أعمال قديمة. ربما كان النموذج الأبرز هو جمال الغيطاني، الذي صرح، منذ البدء أن"الزيني بركات"تعتمد عملاً سابقاً هو كتاب الجبرتي. وفي هذا التصريح ما يحثنا على استعادة النقاش الذي جاء على أإثر نشر الأعمال الأولى لجمال الغيطاني. وهي برأيي دائمة الحضور. على أنني، من جهتي، اشتغلتُ في"كتاب الحب"على كتاب"طوق الحمامة"لابن حزم الأندلسي وصرحت بذلك في بداية الديوان، واشتغل قاسم حداد في"أخبار مجنون ليلى"على"أخبار المجنون"مثلما وردت في"كتاب الأغاني". كل واحد منا يصرح، ومن دون التباس، أن ما يكتبه في عمله هو إعادة كتابة لعمل سابق. ونحن معاً اشتغلنا على عملين سابقين باتفاق مع الفنان ضياء العزاوي وبطلب منه. فهو كان المحرّض الوفي على إنجاز عملين مشتركين في الشعر والرسم بهذه الصفة، أولهما من المغرب وثانيهما من المشرق. مجرد أمثلة. هنا أيضاً أطرح الأسئلة من جديد: لمَ لا نقرأ هذه الأعمال بما هي اختبارٌ في ثقافة أدبية عريقة وفي مفهوم جديد للأدب صادر عن أدباء عرب؟ لم لا نقول إن العرب، في هذه الممارسة، كانوا أسبق من الفرنسيين؟ ولم لا نعتبر عملهم يستدعي المقارنة مع الأدب الغربي وغير الغربي؟ هي أسئلة تفكك نسق القراءة. وهي تفكك، أكثر، نموذجاً نظرياً وفكرياً كنا انطلقنا منه في عصر النهضة وما زلنا محتفظين به ومحافظين عليه. ولا أريد في التفكيك الانتقال من التغاضي عن تاريخ أدبي إلى التمجيد به وبأهله أو السقوط في أوهام السبق التاريخي. للتفكيك هنا وظيفة قراءة النسيان والهامش في ثقافتنا ذاتها. وله أيضاً وظيفة مراجعة اللغة التي نكتب ونفكر بها. ذلك ما نملك. والحقُّ في ممارسة هذه الوظيفة يحتاج منا لعمل معرفي يكاد يكون يومياً. ولا نهائياً. حتى نبتعد عن خطاب لم تكن له مبرراته المعرفية في عصر النهضة ولا تصح طاعتُه في زمننا.